شهدت بداية العام 2024 م، توقيع إثيوبيا اتفاقية مع إقليم “أرض الصومال”، والذي يُعرف باستقلاله الذاتي، لاستئجار مساحة 20 كيلومترًا في ميناء بربرة، على سواحل البحر الأحمر لإقامة قاعدة بحرية تجارية وعسكرية لمدة خمسين عاماً. وبالمقابل، تعهدت إثيوبيا بالاعتراف بسيادة “أرض الصومال”. الأمر الذي اعتبر نقطة تحول جذرية في سياسة إثيوبيا الخارجية والاقتصادية؛ فهذا الاتفاق يُنهي عزلتها الجغرافية ويُعيد لها منفذًا بحريًا كانت قد فقدته بعد انفصال إريتريا. وبالتبادل، يُمكن لهذا التعاون أن يُثمر عن فوائد اقتصادية كبيرة لهارجيسا، بالإضافة إلى اعتراف محتمل بأرض الصومال ككيان مستقل.
في سياق هذا الوضع الجديد والمُعقد وكردٍ على الخطوة الإثيوبية، أعلنت الحكومة الصومالية في شهر فبراير من العام نفسه عن اتفاق دفاعي طويل الأمد مع تركيا يمتد لعقد كامل، في خطوة هادفة لتعزيز قدراتها البحرية وأمن مياهها الإقليمية. وفي تأكيد على هذا التعاون، رست الكورفيت التركية (TCG Kınalıada F514) في ميناء مقديشو بتاريخ 24 أبريل، مُجسدةً بذلك الالتزام العميق والمُتجدد بين الجانبين.
تُعتبر العلاقة بين تركيا والصومال طويلة الأمد وقد بدأت بزيارة تاريخية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمقديشو في العام 2011، مُنذرة بانطلاقة جديدة وعميقة في العلاقات الثنائية. لم تقتصر العلاقات على الدعم المعنوي فحسب، بل تعدته إلى استثمارات مالية ضخمة شملت مساعدات إنسانية وجهود إعادة بناء البنية التحتية من طرق ومدارس ومستشفيات، إضافة إلى إدارة الموانئ والمطارات.
وقد شهد العام 2016 افتتاح أكبر سفارة تركية في الخارج بمقديشو، تلاه افتتاح قاعدة عسكرية تركية ضخمة في نهاية العام 2017، وهو ما يعكس الأهمية الإستراتيجية لهذه العلاقة. وفي الثالث والعشرين من أبريل العام الجاري، وصلت البحرية التركية إلى مقديشو كجزء من تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك، مُعلنة عن بدء انتشارها في سواحل الصومال لمحاربة القرصنة والصيد غير القانوني وغيرها من الاعتداءات الخارجية، مع تعهد بتطوير البحرية الصومالية واقتصادها البحري.
عطفًا على ما سبق، وفي تطور مثير للانتباه قد يعيد تشكيل المعادلات الإقليمية، صادقت الحكومة الصومالية، في العشرين من يوليو، على اتفاقية دفاع مشترك مع جمهورية مصر العربية، كإشارة قوية لإثيوبيا.
في هذا السياق، أوضح المتحدث باسم الرئاسة المصرية أن الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال استقباله الرئيس الصومالي حسن محمود شيخ، أكد بشكل قاطع على دعم مصر لوحدة الصومال وسيادتها، معلناً رفضه القاطع لأي تدخلات في شؤونه الداخلية. كما شدد السيسي، في مؤتمر صحفي، على أن مصر لن تتهاون في حماية أمن الصومال، قائلاً: “لا أحد يجرب مصر ويحاول تهديد أشقاءها، خاصة إذا طلبوا منها التدخل.”
بموازاة ذلك، تسعى مقديشو لاستقبال قوات مصرية على أراضيها كجزء من استراتيجية لملء الفراغ الأمني المتوقع بعد انسحاب قوات الاتحاد الأفريقي “أميسوم”، وذلك ضمن إطار الاتفاقية التي تنص على تدريب الجيش الصومالي ودعمه بالمعدات والعمليات المشتركة. تنص الاتفاقية بين مصر والصومال، على إمكانية نشر قوات مصرية في الصومال لدعم استقراره. وفي أواسط شهر أغسطس 2024 عبر السفير الصومالي بالقاهرة، علي عبدي أواري، عن امتنانه لمصر على هذه الخطوة.
من جانبها، أعربت إثيوبيا عن اعتراضها على الاتفاقية، معتبرة نشر قوات مصرية في الصومال تهديداً لأمنها الإقليمي. وطالب الرئيس الإثيوبي أبي أحمد بمشاركة بلاده بدلاً من مصر، محاولاً الحفاظ على نفوذ إثيوبيا في القرن الأفريقي.
ومع ذلك، وجدت المقترحات الإثيوبية رفضاً قاطعاً من الصومال، حيث يرى الصوماليون أن إثيوبيا، التي تعاني من نزاعات داخلية وأزمات، لا تصلح لتكون ضامناً للسلام في دولة أخرى. فثلاث عقود من الهيمنة الغربية التي أعطت الدور لإثيوبيا في الصومال، لم تثمر سوى عن تأجيج الخلافات وتفاقم الأزمات.
الفاعلون الرئيسيون في الأزمة
في زوايا المشهد الإستراتيجي لمنطقة القرن الأفريقي، تتجلى الأدوار البارزة للفاعلين الرئيسيين في الصراع الجيوسياسي، حيث تُبرز الصراعات المحتدمة بين قوى شرط-أوسطية وقوى إقليمية أخرى عبر تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على الوضع الراهن.
تركيا، بوصفها الحليف الدفاعي الأكثر استراتيجية للصومال، تُعزز من تأثيرها الإيجابي من خلال تعزيز القدرات العسكرية الصومالية ودعمها في عملية إعادة بناء الدولة وأرسلت رسالة واضحة برسو أسطولها على سواحل الصومال في خضم الأزمة. بالمقابل، تنخرط الإمارات العربية المتحدة في دور موازٍ ومنافس، مستثمرة بكثافة في البنية التحتية البحرية والاقتصاد المحلي لأرض الصومال، وذلك من خلال شركة موانئ دبي العالمية، وتحظى بموقع استراتيجي من خلال تمثيلها الدبلوماسي في عاصمة أرض الصومال، هارجيسا.
فيما تظهر أرض الصومال تصميماً قوياً على الاستقلالية والحفاظ على نظامها الديمقراطي والاستقرار الذي تنعم به، مستعدة للدفاع عن حقها في الحكم الذاتي بوجه أي تحديات قد تطرأ من الحكومة المركزية في مقديشو أو من أطراف إقليمية أخرى. وإثيوبيا، من جانبها، تظهر اهتماماً بموانئ أرض الصومال كحليف استراتيجي محتمل، وهذا ما يفسر دعمها لتوجهات هارجيسا نحو الاستقلال.
من ناحية أخرى، تعكس الصومال اهتماماً ملحوظاً بحماية سيادتها ووحدة أراضيها، مشيرة إلى استعدادها لاستخدام القوة إذا لزم الأمر، مع الاستفادة من الدعم القوي الذي توفره الاتفاقيات الدفاعية مع تركيا ومصر، فتقديم هذا الدعم يُعد ضمانة قوية للصومال في الحفاظ على استقرارها وسيادتها.
ويُعتبر الدور الإماراتي في أرض الصومال محوريًا، حيث إن الإمارات لا تقتصر على الاستثمار الاقتصادي فحسب، بل تُظهر حضوراً دبلوماسياً واضحاً يُمكن أن يسهم في تعزيز مكانة أرض الصومال على الساحة الدولية. وفي المقابل، تُظهر مصر وتركيا توافقاً في دعم الصومال، مما يشير إلى تقاطع المصالح الإقليمية التي تسعى لتعزيز الاستقرار والأمن في المنطقة، رغم التناقضات في ملفات أخرى كليبيا.
الاستجابات السياقية
وشددت وزارة الخارجية الصومالية على أنه لن تكون هناك وساطة إلا بعد انسحاب إثيوبيا من الاتفاقية التي تعتبرها غير قانونية وتؤكد على سيادة ووحدة أراضي الصومال. وفي موقف متوتر، اتهم الرئيس الصومالي إثيوبيا بعرقلة مشاركة وفده في قمة الاتحاد الأفريقي بأديس أبابا. في تطور لاحق، وافقت مقديشو على وساطة تركيا بشرط أن يكون الوصول الإثيوبي إلى المياه الصومالية لأغراض تجارية فقط، دون مكون عسكري.
– الوسيط التركي: في تعقيدات المشهد الجيوسياسي في القرن الأفريقي، يبرز الدور التركي كمحور رئيسي في التوسط بين الصومال وإثيوبيا. أنقرة، بفضل علاقاتها الطيبة مع كلا الطرفين، تسعى جاهدة لتثبيت أقدامها كوسيط دبلوماسي يُعتمد عليه. في هذا السياق، تم الترتيب لزيارة رسمية قام بها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى إثيوبيا، حيث التقى بآبي أحمد ووزير خارجيته تاي أسقي سيلاسي لبحث مستقبل العلاقات بين البلدين وتسوية التوترات مع الصومال.
تركيا، التي تبني جسوراً من الثقة مع الصومال من جهة، وتعزز شراكاتها الإستراتيجية مع إثيوبيا من جهة أخرى، تقدم نفسها كعنصر استقرار في المنطقة. الجهود التركية تكثفت مؤخراً في محاولة لتوفيق الأطراف حول اتفاقية تجارية تتعلق بميناء بربرة، موضع النزاع الذي أثار توترات ملحوظة بين الصومال وإثيوبيا.
في مسعى للتوسط وتخفيف حدة التوتر، جاءت زيارة آبي أحمد إلى أنقرة في مايو من العام الجاري، حيث التقى بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان. جرت النقاشات بينهما حول سبل تعزيز السلام والتعاون الإقليمي، وتم طلب التوسط التركي لضمان حل يحفظ مصالح الجميع.
من المهم الإشارة إلى أن السياسة التركية تهدف إلى تحقيق توازن في علاقاتها الثنائية، حيث تؤكد على أهمية الحفاظ على علاقة متينة مع إثيوبيا دون إغفال أهمية الصومال. اللقاء الثلاثي الذي تم في أغسطس بين الوزراء المعنيين في أنقرة كان محورياً، حيث تم النقاش حول إمكانية توصل إثيوبيا للمياه الصومالية بموجب ترتيبات تجارية، مع التأكيد على أن أي توسع إثيوبي لن يتحول إلى قاعدة عسكرية، وسيتم بموافقة مقديشو.
موقف مصر الصارم
تجلت الاستجابة المصرية بشدة وحزم غير مسبوقين، حيث رفعت القاهرة لهجتها العسكرية تجاه إثيوبيا، ملوحة بإمكانية الرد العسكري بالتنسيق مع الصومال إذا ما استمرت الأطماع الإثيوبية في التوسع. وتصريح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأنه “ليس لأحدٍ أن يجرب مصر”، يعكس مدى الجدية المصرية في التعاطي مع التحديات الإثيوبية، موجهاً تحذيره مباشرة إلى إثيوبيا، وذلك في ظل التحدي الذي يمثله أيضًا سد النهضة الإثيوبي، الذي طالما شكل نقطة خلاف بين الدولتين.
وفي خطوة جريئة وغير متوقعة في نقلة نوعية في ميزان القوى بالمنطقة، أرسلت مصر في 28 أغسطس 2024 ما يقارب العشرة آلاف جندي إلى الصومال، استنادًا إلى الاتفاقية الدفاعية المشتركة بين الدولتين.
إثيوبيا، من جانبها، عبرت عن بالغ قلقها عبر بيان شديد اللهجة، تعبر فيه عن مخاوفها من التبعات المحتملة لهذه الخطوة. وأفادت الحكومة الإثيوبية بأن هذه البعثة العسكرية المصرية “محفوفة بالمخاطر” وتنذر بـ “تقويض الاستقرار في المنطقة”. ” ولا يمكن لإثيوبيا أن تظل صامتة وهي ترى تحركات تهدف إلى زعزعة استقرار الإقليم من قبل قوى أخرى،” كما ورد في البيان.
تأتي الخطوة المصرية لتشكل ضربة استراتيجية قوية لمكانة إثيوبيا على خريطة الصراعات الجيوسياسية في القرن الأفريقي، حيث ترى إثيوبيا في التمدد المصري عبر الأراضي الصومالية تهديدًا لموقعها ونفوذها الإقليمي، لما يقلب من موازين القوى وتفرض إعادة تقييمٍ للسياسات والتحالفات في منطقة القرن الأفريقي، معززة موقف مصر كلاعب رئيسي في الديناميكيات الإقليمية من الآن فصاعدًا.
مواقف إثيوبيا والإمارات
بعدما سعت إثيوبيا وحليفتها الإمارات العربية المتحدة إلى تحقيق انفصال إقليم أرض الصومال. قامت الحكومة الصومالية، مدعومة بحلفائها، بمضاعفة ضغوطها لإحباط هذه المساعي، ما أثار توترات حادة وملحوظة على الصعيد الدولي.
وفي محاولة لفك الاشتباك والتخفيف من حدة الأزمة، لجأت إثيوبيا إلى الوساطة التركية، آملةً في إيجاد حل يخفف الضغوط الصومالية. مع ذلك، واصلت الحكومة الصومالية ممارسة ضغوطها بشكل مستمر، مطالبة بانسحاب إثيوبيا والإمارات من أي مساعي للاعتراف باستقلال إقليم صوماليلاند.
مع تزايد هذه الضغوط، اتخذت الحكومة الصومالية في أغسطس الجاري خطوة استراتيجية واضحة، حيث أصدرت هيئة الطيران المدني الصومالية تحذيراً للخطوط الجوية الإثيوبية وطيران دبي، مشددة على ضرورة حظر دخولهما المجال الجوي الصومالي إلا بعد إزالة مسمى “أرض الصومال” من قائمة وجهات المسافرين على مواقعهم، بما يشير إلى وجود كيان صومالي منفصل.
هذه الخطوة كان لها تأثير بالغ، إذ تربط المجالات الجوية الصومالية إثيوبيا بدول الخليج وشرق آسيا بأقل تكلفة ومسافة، خاصة بعد إغلاق المجال الجوي في السودان واليمن بسبب الحروب، وفي إريتريا بسبب التوترات السياسية.
ردًا على ذلك، قامت الخطوط الجوية الإثيوبية بتحديث إدخالات بياناتها لإقليم أرض الصومال، واستبدلت وصف “صوماليلاند” بـ “الصومال” في جميع رحلاتها المتجهة إلى هرجيسا وبربرة وبقية مدن صوماليلاند. واتخذت الإمارات العربية المتحدة -عبر طيران دبي- خطوات مماثلة، ما يعكس مدى جدية وفاعلية الضغوط الصومالية في التأثير على السياسات الدولية ومسارات النقل الجوي الإقليمي.
السيناريوهات المحتملة
في ظل هذه التحولات الجيوسياسية، تبرز سيناريوهات محتملة تحمل في طياتها مآلات مختلفة لأزمة إقليم أرض الصومال:
السيناريو الأول: يتمثل في استمرار إثيوبيا وحلفائها، خصوصًا الإمارات، في دعم تحركات أرض الصومال نحو الاستقلال التام. هارجيسا، العازمة على الانفصال بشكل نهائي، تجد دعمًا من دول غربية بارزة مثل المملكة المتحدة، مما يعطيها دفعة نفسية ثابتة. وكاستجابة لرفض إثيوبيا الانسحاب من الاتفاقية، برزت مقترحات من نواب في البرلمان الفدرالي الصومالي تدعو الحكومة لتأييد حركات الانفصال داخل إثيوبيا، كرد فعل على تجاوزات أديس أبابا، الأمر الذي قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة وربما اندلاع نزاع إقليمي شامل يضم مصر وتركيا إلى جانب الصومال، مقابل إثيوبيا والإمارات وحلفائهم الأوروبيين.
السيناريو الثاني: يركز على تخفيض إثيوبيا لطموحاتها بالحصول على قاعدة بحرية والاكتفاء بمركز تجاري على السواحل الصومالية، دون الإخلال بالسيادة الوطنية. تحت هذا السيناريو، تكون الصومال قد نجحت في تثبيت موقفها كلاعب استراتيجي قَدِرَ على منع أي توسع إثيوبي عدائي، خصوصًا مع دعم تركيا التي تقوم بوساطة لحل النزاع بشكل يحفظ ماء الوجه لدى الطرفين. وفي هذا السياق أبي أحمد، الذي طالما كان محل تقدير دولي حتى جائزة نوبل للسلام، قد يجد في هذا المخرج فرصة لإعادة بناء صورته التي تضررت بشدة بسبب الأزمات الداخلية والاتهامات بارتكاب فظائع في تيغراي، والآن بوصفه القائد السياسي الأول الذي تسبب بسبب حساباته الخاطئة بوصول جنود مصريين لأول مرة في تاريخها الحديث على حدود إثيوبيا الشرقية.
في النهاية، يعتمد كل سيناريو على مدى استجابة الأطراف المعنية للضغوط الدولية والإقليمية، وقدرتها على المناورة في مشهد سياسي شديد التعقيد.
الخاتمة
راهنًا تلوح في الأفق، إمكانية تعقد الأوضاع أكثر فأكثر، حيث يتبلور المشهد ليعكس تقاطع المصالح الدولية والإقليمية. تركيا ومصر، رغم اختلاف مواقفهما في قضايا أخرى بالمنطقة، تجدان نفسيهما في خندق واحد دعمًا للصومال. هذا التوافق النادر يشير إلى تلاقي المصالح الاستراتيجية عند نقطة محورية تتمثل في استقرار الصومال ودعم سيادته، مما يضع إثيوبيا والإمارات مع أرض الصومال أمام تحديات جديدة في كيفية موازنة توسعاتها مع حفظ علاقات حسن الجوار.