فرنسا تُعيد رسم استراتيجيتها العسكرية في أفريقيا.. هل تنجح بعد الطرد المتكرر؟

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
05/01/2025
شارك المقالة

شهدت الفترة من 2019 إلى 2025 تحوّلًا جذريًا في الوجود العسكري الفرنسي بأفريقيا الفرنكفونية. بعد عقود من الحضور العسكري المكثف كجزء من سياسة عُرقتْ بـ «فرانسا-فريك» (Françafrique) ذات الطابع النيوكولونيالي، وجدت فرنسا نفسها أمام موجة غير مسبوقة من الرفض المحلي والرسمي في عدة دول أفريقية. فقد طُردت القوات الفرنسية أو تعرضت لضغوط انسحاب قوية في دول مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو – وهي دول كانت تاريخيًا مركز ثقل العمليات الفرنسية في الساحل – لينضم إليها لاحقًا كل من تشاد والسنغال وساحل العاج​. وبحلول مطلع 2025، كانت هذه التطورات قد أوصلت الحضور العسكري الفرنسي التقليدي في غرب ووسط أفريقيا إلى أدنى مستوياته التاريخية​.

 

 أمام هذا الواقع، اضطرت باريس إلى إعادة تقييم وتعديل استراتيجياتها العسكرية جذريًا للحفاظ على نفوذها الجيوسياسي. وقد تبنّت نهجًا جديدًا يقوم على الشراكات الأمنية بديلًا عن التدخل المباشر، وتقليص الوجود العسكري الظاهر (خاصة القواعد الدائمة)، مع الاعتماد جزئيًا على الحلفاء الأوروبيين في العمليات والدعم اللوجستي، وكذلك تعزيز أدوات النفوذ السياسي والثقافي كسبيل لاستمرار الحضور الفرنسي بشكل غير مباشر. سنستعرض فيما يلي هذه الاستراتيجيات الجديدة بالتفصيل، ضمن سياق العلاقات الفرنسية-الأفريقية المعاصر، مع أمثلة توضيحية من مالي والنيجر وبوركينا فاسو والسنغال وتشاد وساحل العاج.

 

من عملية برخان إلى نهج الشراكات الأمنية

 

لعبت عملية برخان (2014–2022) الدور الأبرز في الاستراتيجية العسكرية الفرنسية بالساحل خلال العقد الماضي، حيث انتشرت قوات فرنسية بلغ عديدها أكثر من 5,000 جندي في ذروة العمليات​، بهدف مكافحة الجماعات الموسومة بـ “الإرهاب”في مالي وجوارها. ورغم بعض النجاحات التكتيكية، واجهت برخان انتقادات حادة محليًا لتواضع نتائجها في القضاء على التمرد والإرهاب​. ترافق ذلك مع تنامي السخط الشعبي مما وُصف بالنهج الأبوي والمتسلط لفرنسا في المنطقة​. فقد اعتبرت قطاعات واسعة من الرأي العام والنخب الجديدة أن فرنسا أخفقت أمنيًا، واستمرت في ممارسة نفوذ شبيه بالوصاية السياسية، مما أعاد للأذهان إرث الهيمنة ما بعد الاستعمار (نيوكولونيالية) المرتبط بسياسات فرانسا-فريك القديمة​. مع تعاظم هذا المزاج المعادي، حصلت سلسلة انقلابات في مالي (2020 و2021) وبوركينا فاسو (2022) والنيجر (2023)، أتت بأنظمة عسكرية سارعت إلى قطع العلاقات الدفاعية مع باريس وطرد القوات الفرنسية​، متهمةً إياها بعدم الفعالية أمنيًا وبالتدخل في الشؤون الداخلية​.

 

شكّل إنهاء عملية برخان رسميًا في أواخر 2022 نقطة تحول مفصلية دفعت فرنسا إلى إعادة رسم دورها في الساحل وغرب أفريقيا​. في ضوء هذه المستجدات، بدأت فرنسا تتبنى نهج الشراكات الأمنية كبديل عن الانتشار الأحادي. يقوم هذا النهج على التنسيق والدعم بدل القيادة المنفردة، أي مساعدة الجيوش الأفريقية وحكوماتها في بناء قدراتها الأمنية لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة، عوضًا عن قيام الفرنسيين بالدور القتالي الرئيسي​. على سبيل المثال، دعمت باريس تشكيل قوة دول الساحل الخمس (G5 Sahel) التي تضم مالي والنيجر وبوركينا وتشاد وموريتانيا، لتكون إطارًا تقود من خلاله الجيوش المحلية عملياتها بدعم لوجستي واستخباراتي فرنسي وأوروبي​، وكان الهدف تنسيق هذه الترتيبات الجديدة، جتى قبل وقوع الانقلابات العسكرية التي طردتها من الساحل.

 

كذلك أنشأت فرنسا قوة المهام الأوروبية المشتركة «تاكوبا» (Takuba) في 2020، والتي ضمّت قوات خاصة من عدة دول أوروبية (كإستونيا والتشيك والسويد وغيرها) للعمل جنبًا إلى جنب مع القوات المالية في مواجهة المتشددين​. وعكست قوة تاكوبا هذه استراتيجية الشراكة بشكل جلي، حيث تولّت فرنسا دور المنسق والداعم ضمن فريق أوروبي-أفريقي مشترك، بدلًا من الاضطلاع بكافة المهام وحدها كما في الماضي.

 

ورغم انتهاء مهمة تاكوبا مبكرًا إثر تدهور العلاقات مع المجلس العسكري في مالي، إلا أنها مثّلت نموذجًا للتوجه الفرنسي نحو تعددية الأطراف في العمل الأمني​. كما ينسجم تحول فرنسا إلى الشراكات الأمنية مع خطاب سياسي جديد تبناه القادة الفرنسيون، وعلى رأسهم الرئيس إيمانويل ماكرون. فقد شدد ماكرون على ضرورة انتهاج “علاقة جديدة ومتوازنة” مع أفريقيا تقوم على الشراكة والاحترام المتبادل بدل العلاقة العمودية القديمة​. وفي خطاب له عام 2023، قال ماكرون صراحة إن على فرنسا أن تنظر لأفريقيا كشريك تجمعه مصالح ومسؤوليات مشتركة، وليس كساحة نفوذ تتنافس فيها القوى​. هذا الاعتراف يعكس إدراك باريس أن الزمن قد تغيّر، وأن حفاظها على مصالحها الاستراتيجية يتطلب تغيير الأسلوب عبر تمكين الحلفاء الأفارقة وإشراكهم في تحمل عبء الأمن الإقليمي.

 

وهكذا أصبحت الدورات التدريبية المشتركة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وتقديم الدعم الفني والتسليحي لجيوش غرب أفريقيا، أدوات رئيسية ضمن الإستراتيجية الفرنسية المحدثة​​. على سبيل المثال، استثمرت فرنسا في برامج تدريب القوات الخاصة في النيجر وتشاد قبل انسحابها، بحيث تُبقي تلك الدول قادرة على مواجهة الإرهاب مع استمرار حصولها على مشورة ودعم تقني فرنسي عن بعد. وبذلك، تحاول باريس الحفاظ على نفوذها الأمني عن طريق الوكلاء المحليين بدل الحضور المباشر المكثف، ما يحقق لها تموضعًا جديدًا أقل إثارةً لحساسيات السيادة الوطنية في الدول الإفريقية.

 

تقليل الظهور المباشر للقواعد العسكرية

 

إحدى أبرز التغييرات في الإستراتيجية الفرنسية تمثّلت في إعادة هيكلة الوجود العسكري المادي على الأرض الأفريقية، خاصة شكل القواعد العسكرية وانتشار الجنود. تاريخيًا، اعتمدت فرنسا على قواعد كبيرة دائمة في دول مثل السنغال وتشاد وساحل العاج، إلى جانب تمركزات مؤقتة ضمن عمليات كبرخان في مالي والنيجر. هذه القواعد أصبحت في نظر الكثيرين رموزًا للوجود الاستعماري المستمر، وتعرّضت لضغوط شعبية وسياسية متزايدة لإغلاقها. وردًا على ذلك، أعلن ماكرون مطلع 2023 عن خطة لإعادة تنظيم القواعد الفرنسية في أفريقيا الفرنكفونية بحيث يقل الظهور الفرنسي المباشر فيها إلى الحد الأدنى​. وأكد أن القواعد بشكلها التقليدي الحالي هي “إرث من الماضي” يجب تجاوزه​. بدلًا من إغلاقها بالكامل، ستتم “أفْرَقة” تلك القواعد تدريجيًا وتحويلها إلى مراكز تدريبية مشتركة (أكاديميات) تديرها جيوش الدول المضيفة بمشاركة فرنسية رمزية. وبكلمات أخرى، ستتحول القاعدة من ثكنة ذات حضور أجنبي ثقيل إلى منشأة سيادية للدولة المضيفة تستضيف برامج تدريب ومناورات مشتركة، مع بقاء عدد محدود من الخبراء والمدربين الفرنسيين. وقد شدد ماكرون أن الهدف هو تقليل عدد الجنود الفرنسيين المنتشرين مع زيادة التركيز على التدريب والتجهيز​ – أي دعم الشريك الأفريقي ليكون في الواجهة.

 

هذا التوجه نحو تخفيف البصمة العسكرية الفرنسية بدا جليًا على الأرض. في مالي، مثّل انسحاب القوات الفرنسية من قواعد تمبكتو وغاو في 2021-2022 نهاية لوجود عسكري استمر سنوات، وسُلّمت تلك المنشآت للجيش المالي​. وفي بوركينا فاسو أيضًا خرجت القوات الفرنسية من قاعدتها في واغادوغو بداية 2023 تحت ضغط الحكومة الانتقالية​. أما في ساحل العاج – إحدى الدول المحورية للحضور الفرنسي – فقد أعلن الرئيس الحسن واتارا في يناير 2025 أن كتيبة المشاة البحرية الفرنسية 43 المتمركزة في قاعدة بورت-بواي في أبيدجان سيتم تسليمها بالكامل للجيش العاجي خلال الشهر نفسه​. واعتبر واتارا أن الجيش العاجي الحديث بات قادرًا على تولي مسؤولياته الأمنية دون حاجة لوجود فرنسي دائم​. وفي السنغال، صرّح مسؤولون خواتيم 2024 بنيّة إنهاء أي وجود لقوات أجنبية بدءًا من 2025، ضمن عقيدة تعاون دفاعي جديدة تؤكد سيادة البلاد الكاملة​. وقد بلغ عدد الجنود الفرنسيين في السنغال حوالي 350 فقط ضمن عناصر فرنسا في السنغال (EFS) منذ 2011​، ومن المتوقع إعادتهم أو دمجهم في برامج تدريب قصيرة المدى بدل قاعدة دائمة.

 

هذه الإجراءات في ساحل العاج والسنغال جاءت استجابة مباشرة لمطالب شعبية وحسابات سياسية داخلية رافضة لاستمرار القواعد الأجنبية​. حتى في تشاد، التي ظلّت لعقود عماد الانتشار العسكري الفرنسي في إفريقيا، لم يسلم الوضع من التعديل. فقاعدة نجامينا الشهيرة – التي كانت مركزًا لوجستيًا حيويًا لعمليات برخان​ – تواجه إعادة نظر؛ إذ أعلن المجلس العسكري الحاكم في نوفمبر 2024 إنهاء العمل باتفاقية استضافة القوات الفرنسية​. ومع أن فرنسا تفاجأت نسبيًا من القرار​، فقد كان جزءًا من موجة إقليمية لا يمكن تجاهلها. فقد نشرتْ فرنسا نحو 1,000 جندي في تشاد قبل بدء الانسحاب الأخير​، ومع إتمام خروجهم المخطط في بواكير 2025​ حتى منتصف العام، سينفرط عقد آخر معاقل الوجود العسكري التقليدي الفرنسي في الساحل.

 

بيد أن باريس تسعى للتفاهم مع نجامينا على صيغة جديدة للتعاون الأمني بعد الانسحاب، ربما عبر زيارات دورية وتدريبات مشتركة بدل التمركز الدائم​​. وبكلمات أحد المحللين: تخفض فرنسا تواجدها ومرئية قواتها لامتصاص النقمة المحلية، لكنها في الوقت نفسه تحاول الحفاظ على علاقات دفاعية مرنة يمكن تفعيلها عند الحاجة​​.

 

خلاصة الأمر أن فرنسا تبنّت سياسة “الظل” عوض الحضور المباشر البارز. فالقوات أصبحت أقل عددًا وأقل ظهورًا للعيان، والقواعد تحول الكثير منها إلى صيغة مواقع مشتركة أو باتت تدار تحت راية الدول المضيفة. ووفق تصريحات رسمية، هذه “إعادة تموضع” وليست انسحابًا كليًا​​؛ إذ تصر باريس أنها ستبقى ملتزمة بأمن إفريقيا الفرنكفونية لكن بطريقة جديدة تحترم سيادة الشركاء الأفارقة وتراعي حساسيات الشعوب.  الهدف هو تهدئة المشاعر المعادية لفرنسا عبر الاختفاء من المشهد كقوة مهيمنة، دون التفريط تمامًا بنقاط الارتكاز الاستراتيجية التي قد تحتاجها مستقبلًا. على أن نجاح هذا التوازن الدقيق سيعتمد على مدى تقبّل الأفارقة لهذا التحول وثقتهم بنيات باريس الجديدة.

 

الاعتماد الجزئي على الحلفاء الأوروبيين

 

في مواجهة التحديات الأمنية المتصاعدة في إفريقيا والرفض المتنامي للانفراد الفرنسي، سعت باريس إلى تدويل انخراطها العسكري هناك عبر إشراك حلفائها الأوروبيين في تحمل المسؤولية. هذه الإستراتيجية ليست جديدة تمامًا، فقد حاولت فرنسا منذ التسعينيات إشراك الأوروبيين في عملياتها الأفريقية لتقاسم الأعباء وتخفيف التهم عنها بأنها “شرطي إفريقيا” الوحيد​. إلا أن الحاجة إليها أصبحت أكثر إلحاحًا بعد 2019. فالوجود المشترك يضفي شرعية متعددة الأطراف على الجهود الأمنية في نظر الدول الإفريقية، ويجنّب فرنسا الظهور بمظهر القوة الاستعمارية المنفردة في القرارات الميدانية​. ضمن هذا الإطار، دفع الفرنسيون باتجاه تعزيز دور الاتحاد الأوروبي وحلفاء الناتو في الساحل.

 

فإلى جانب قوة تاكوبا الأوروبية التي أشرنا إليها، دعمت فرنسا بعثات التدريب العسكرية التابعة للاتحاد الأوروبي في مالي والنيجر. على سبيل المثال، عملت بعثة التدريب الأوروبية في مالي (EUTM Mali) خلال العقد الماضي على تدريب الآلاف من الجنود الماليين بدعم مدربين من دول أوروبية مختلفة – وهي مهمة حظيت برعاية فرنسية خاصة​. كما شاركت دول أوروبية في بعثة الاتحاد الأوروبي لبناء قدرات الأمن الداخلي بالنيجر (EUCAP Niger)، لرفع كفاءة قوات الشرطة وحرس الحدود هناك. هذه المساهمات الأوروبية المدنية والعسكرية مكّنت فرنسا من التحرك في إطار أوسع وليس بمفردها. وبالفعل، بحلول 2021 انخرطت قرابة 13 دولة أوروبية في دعم قوة برخان وتاكوبا لوجستيًا أو ميدانيًا​، في سابقة هي الأولى من نوعها لمثل هذا المستوى من التعاون الأمني الأوروبي في أفريقيا جنوب الصحراء. الاعتماد على الحلفاء الأوروبيين كان أيضًا واضحًا دبلوماسيًا. فقد دأبت باريس على حشد الدعم السياسي والمالي من الاتحاد الأوروبي لعمليات السلام الإفريقية. ففي قمم دولية عُقدت خلال 2020 و2021، ضغطت فرنسا لإنشاء تحالف دولي من أجل الساحل يضم شركاء أوروبيين للمساهمة في تمويل جهود مكافحة الإرهاب والتنمية بالساحل، حتى لا تتحمل فرنسا العبء وحدها. وفعليًا، قدم الاتحاد الأوروبي تمويلًا بمئات ملايين اليورو لقوة الساحل الخماسية ولدول المنطقة لتعزيز قدراتها الأمنية​. هذا النهج التشاركي لا يقسم الكلفة المادية فقط، بل أيضًا يوزع المخاطر السياسية؛ فحين يحدث فشل أو انتكاسة، لا تقع المسؤولية على فرنسا وحدها، بل على مجموعة أوسع من الدول، مما يقلل احتقان الشعوب تجاه طرف واحد.

 

مع ذلك، يبقى هذا “الاعتماد الجزئي” على الأوربيين محدودًا بواقع السياسة والمصالح. فكثير من دول الاتحاد ليست لديها رغبة بإرسال قوات قتالية إلى بيئات خطرة في أفريقيا​. وقد ظهر ذلك جليًا حين سحبت بعض الدول الأوروبية مشاركتها بعد توتر العلاقات بين فرنسا وحكومات مالي وبوركينا؛ فمثلاً سارعت السويد إلى إعلان إنهاء مساهمتها في قوة تاكوبا عقب انقلاب مالي 2021. كذلك فعلت ألمانيا عندما علّقت عمليات بعثتها في مالي تحت مظلة الأمم المتحدة نتيجة الخلافات مع المجلس العسكري هناك. بمعنى آخر، برغم تشجيع فرنسا “أوربة” جهود الأمن في إفريقيا لتجنب تهمة النيوكولونيالية​، فقد وجدت حدودًا عملية لهذا المسعى. مما دفعها إلى إعادة تقييم الدور الأوروبي: أوروبا يمكنها أن تكون مموّلًا ومدربًا وداعمًا دبلوماسيًا، لكن عند الحديث عن التدخل العسكري المباشر في مناطق غير مستقرة، يبقى الحافز الأوروبي ضعيفًا مقارنة بالطموح الفرنسي​. بناءً عليه، ركزت باريس على صيغة “تقسيم العمل”: تتولى فرنسا ومعها حفنة صغيرة من الحلفاء المهام القتالية الحرجة (كما في عمليات القوات الخاصة أو الضربات الجوية)، بينما يضطلع الأوروبيون الآخرون بأدوار الدعم كالتدريب وبناء القدرات وحفظ السلام​.

 

وقد أقر مسؤولون فرنسيون بأن الإتحاد الأوروبي ليس مناسبًا لعمليات التدخل السريع عالية الخطورة، لكنه شريك مهم في المهام طويلة الأمد كإعادة بناء القطاعات الأمنية والشرطية في دول الساحل​. ويمكن القول إن التعاون الفرنسي-الأوروبي في أفريقيا خلال 2019–2025 أضاف بعدًا جديدًا للحضور الفرنسي. فرغم تقلّص الانتشار الفرنسي المباشر، ساعد الحلفاء في إبقاء مظلة غربية فوق المنطقة. وحتى بعد طرد القوات الفرنسية من مالي والنيجر، ظل التنسيق الاستخباراتي والتواجد عبر آليات متعددة الجنسيات قائمًا – فمثلاً استمرت قوات بعثة الأمم المتحدة في مالي (مينوسما) حتى نهاية 2023 بمشاركة أوروبية، ولعبت دورًا (وإن كان متضائلًا) في الاستقرار المحلي، وهو ما عنى حضورًا غير مباشر لفرنسا عبر الأمم المتحدة. كذلك حافظت باريس على علاقات وثيقة مع قوات أمريكية متمركزة في دول كالنيجر (قبل انقلاب 2023) لتبادل المعلومات حول الإرهاب​. باختصار، لقد غيّرت فرنسا تموضعها من قائد منفرد إلى شريك ضمن تحالفات أمنية أوسع، مستفيدة من ثقل أوروبا الجماعي. ورغم التحديات، أصبح البُعد الأوروبي عنصرًا لا غنى عنه في الإستراتيجية الفرنسية الجديدة للحفاظ على النفوذ وتحقيق الأهداف الأمنية بأفريقيا الفرنكفونية.

 

خاتمة: بين أفول “فرانسافريك” وبزوغ شراكة جديدة

 

مع مطلع 2025، بات من الواضح أن حقبة النفوذ العسكري الفرنسي المطلق في أفريقيا الفرنكفونية شارفت على الأفول. فقد خسرت فرنسا تمركزاتها التقليدية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو تحت وطأة ثورات الغضب الشعبي والنزعات السيادية الجديدة​، كما وجدت نفسها أمام مطالب مماثلة بالانسحاب من تشاد وساحل العاج والسنغال​​. هذه التطورات وضعت باريس أمام واقع جيوسياسي جديد يستلزم التخلي عن أساليب فرانسا-فريك القديمة من وصاية سياسية وتدخل عسكري مباشر، لصالح نهج أكثر توافقًا مع تطلعات الأفارقة. وقد حاولت فرنسا الاستجابة عبر إعادة تموضع شاملة: شراكات أمنية بديلة عن العمليات الأحادية، وقواعد مشتركة بدل القواعد الأجنبية الصرفة، وانخراط أوروبي جماعي يخفف عنها العبء واللوم​​، إلى جانب تفعيل قوي لأدوات القوة الناعمة من ثقافة ودبلوماسية وتنمية. أما إذا أخفقت، فقد نشهد مزيدًا من التراجع للنفوذ الفرنسي لصالح قوى دولية وإقليمية أخرى لا شك أنها تراقب المشهد عن كثب وتطمح لملء الفراغ.

 

شارك المقالة
مقالات مشابهة