تعيد المواجهة الحالية بين إيران والاحتلال الإسرائيلي الحديث عن جبهة جنوب لبنان إلى الواجهة مجددًا، حيث صرح الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم بأن الحزب “ليس على الحياد ويقف إلى جانب إيران”، وإنه “سيتصرف بما يراه مناسبًا”. كما أكد حزب الله في بيان منفصل تضامنه مع إيران وتنديده بالهجمات الإسرائيلية، وأنه “اليوم أكثر إصرارًا وتمسكًا بنهج الإمام الخامنئي”.
في المقابل، أكد عضو المجلس السياسي في حزب الله محمود قماطي “التزام الحزب بعدم الانخراط في الحرب”، وأن ما أعلنته إسرائيل عن رصدها تحركات لاستعدادات الحزب للتدخل “مجرد ذرائع كاذبة”. أما على الجانب الإسرائيلي، فقد حذر وزير الدفاع يسرائيل كاتس من أن عودة الحزب إلى الحرب تعني أنه “لن يكون هناك حزب الله”
وبينما يزيد الواقع اللبناني والضغوطات المستمرة على الحزب من صعوبة اتخاذ قرار استئناف الحرب، فإن فهمه لطبيعة الحرب الحالية وتجاوزها عتبة التصعيد من عدمه قد تفرض خيارات حادة تتجاوز تلك الاعتبارات.
إمكانية التصعيد من حزب الله
ينطوي التصعيد بمعناه النظري على تحوّل الصراع إلى درجة تُغير طبيعته، كأن تبلغ حرب إقليمية مستويات جديدة من العنف، ويشتمل بمعناه الجيوسياسي على قفزة نوعية في حدة المواجهة مع إمكانية اختلاف طبيعة تلك القفزة- دلالتها وخطورتها- بين حالة وأخرى. لكن ذلك يعتمد بالدرجة الأولى على فهم كل طرف من أطراف الصراع لعتبة التصعيد، التي تعني مجاوزتها تغيرًا يمس مصالح جوهرية لهذا الطرف أو ذاك ما يدفعه للتحرك الميداني.
في ضوء ذلك، لم يكن حزب الله يرى في الحرب الإسرائيلية على لبنان عقب 8 أكتوبر 2023 حربًا صفرية قد تمس سلامة أمينه العام الراحل حسن نصر الله، فخاضها وفق سقف منضبط جغرافيًا وتدميريًا كحرب “إسناد” لغزة لا حرب مفتوحة. لكن الاحتلال كان له رأي آخر، حيث عمد إلى اغتيال قادة الحزب العسكريين وأمينه العام نصر الله وتحييد مقدراته وأنفاقه الاستراتيجية.
تعتمد إمكانية انخراط الحزب في الحرب الدائرة اليوم على مدى فهمه لتجاوز الصراع عتبة اللاعودة، حيث يشكل انكسار إيران اليوم تهديدًا وجوديًا له في لبنان، في ظل الضغوطات الأمنية والسياسية المتزايدة عليه من خصومه في الداخل والخارج.
بين الفهم الخاطئ والسلوك الانتهازي
قد لا يتفق أطراف الصراع أو المراقبون له على موضع عتبات التصعيد الجوهرية حتى مع امتلاك الطرفين المعلومات نفسها، كأن يرى حزب الله أن الاحتلال الإسرائيلي لا يخوض حربًا صفرية مع إيران ولم يبلغ بعد عتبة التصعيد الجوهرية، فيدفعه ذلك لضبط النفس دون المغامرة بقرار الحرب في ضوء واقعه اللبناني المعقد.
في المقابل، قد يتخذ الاحتلال قرارًا انتهازيًا لاستثمار زخم الحرب الحالية وإنجاز ما لم يستكمله بعد في لبنان منذ وقف إطلاق النار الأخير في نوفمبر 2024. وتُظهر أبحاثٌ سابقة لمؤسسة راند أن إدراك الدول في صراعات سابقة لامتلاكها “فرصة استراتيجية” لـ”الهجوم أو التصعيد أو اتخاذ إجراءٍ ما” أثّر في قراراتها حول ما إذا كانت ستصعّد النزاع أم لا.
على مستوى المصلحة لكلا الطرفين، تبرز الفرصة بالنسبة لإسرائيل في إنهاء وجود حزب الله العسكري بالكلية في إطار إعادة تشكيل الشرق الأوسط التي تحدث عنها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو مرارًا. فمع تزايد ثقة تل أبيب بنفسها، قد تزداد عزيمتها على تحقيق النتائج التي ترغبها في المنطقة ما قد يجعلها أكثر ميلاً للمخاطرة وأكثر استعداداً للإقدام على التصعيد.
أما على مستوى تصوُّرات التهديد لدى حزب الله وحساسية الأهداف التي يخوض الاحتلال من أجلها حربه مع إيران، فإن تدمير البرنامج النووي الإيراني أو اغتيال مرشد الثورة علي خامنئي أو تغيير النظام، كل واحد منها يشكل دافعًا أساسيًا لدخول الحرب بالنسبة للحزب.
ضغط الدبلوماسية والنار
بين التكهنات والتقديرات، يواصل جيش الاحتلال في الميدان استهدافه بكوادر حزب الله في جنوب لبنان، حيث استهدف منذ بداية شهر يونيو 7 عناصر للحزب بغارات متفرقة، أحدهم قائد مدفعية حزب الله في منطقة الليطاني. وفي 20 يونيو، هاجم الاحتلال “مواقع عسكرية ومنصات صواريخ للحزب” في إشارة إلى سعيه لمنعه من إعادة ترميم أصوله العسكرية.
لكن الهجوم الأبرز كان في ضاحية بيروت الجنوبية، حيث هاجمت طائرات الاحتلال مبانٍ بزعم استخدامها من قبل حزب الله “لتصنيع وتخزين الطائرات المسيرة”، بعدما رفض طلب الجيش اللبناني عبر لجنة الإشراف على وقف إطلاق النار الكشف عن المباني المهددة.
ومنذ بداية المواجهة مع إيران، قلص الاحتلال عديد قواته في قطاع غزة لتعزيز مواقعه على الحدود الشمالية مع لبنان.
على الجبهة الدبلوماسية، تواصل السفيرة الأميركية في لبنان ليزا جونسون دورها في الضغط الدبلوماسي، فقد عبرت أمام مسؤولين لبنانيين عن استياء واشنطن من التأخر في ملف تسليم سلاح حزب الله، وشككت في حقيقة تسلم الجيش اللبناني أسلحة أو معدات من الحزب.
خلط الأوراق وتساقط التوقعات
لقد غيرت حرب طوفان الأقصى عقيدة الحرب الإسرائيلية إلى عقيدة هجومية استباقية تستهدف الرأس لا الذيل، وتتجاوز ما كان قبل يوم 7 أكتوبر 2024 من الخطوط الحمراء بالنسبة للأمن الإقليمي.
ومع كل ما تقدم، فإن الضغوط التصعيدية شديدة التقلب وغير قابلة للتوقع، كما أن الحرب معروفة بقدرتها على اكتساب زخم خاص بها، وعملية التصعيد ظاهرة معقدة ومتعددة الأبعاد ولا تخضع لتحليل يسير أو لأي نوع من القياس الكميّ المقْنع.