ماذا يعني انسحاب دول الساحل من المحكمة الجنائية الدولية؟!

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
10/06/2025
شارك المقالة

في 22 سبتمبر 2025، أعلنت كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية، في خطوة بدت أقرب إلى عصيان سياسي ومدني جماعي ضد عدالة غير متساوية بين الأعراق والحضارات. لم يكن الانسحاب رفضًا لمبدأ القانون بقدر ما كان رفضًا لبنية قانونية استُخدمت، منذ تأسيسها، كأداة لإدامة الهيمنة الغربية. فهذه الدول، التي خبرت الاستعمار وتدرك آلياته، رأت في المحكمة امتدادًا لذلك الإرث؛ مؤسسة لا تمثل مظلة عدالة بقدر ما هي سوط يُسلَّط على رقاب قادة العالم غير الغربي حين يخرجون عن طاعة القوى الكبرى. لذلك وصفت دول الساحل المحكمة بأنها «أداة قمع نيوليبرالي»، وهو توصيف دقيق يعبر عن حقيقة أن المحكمة، على امتداد تاريخها، لم تعمل على إرساء العدالة بقدر ما عملت على تعطيل مسارات الاستقلال السياسي للجنوب العالمي. ويستدعي هذا العصيان الجماعي ما دعا إليه المفكر وعالم النفس المارتينيكي فرانز فانون من تحرر المستعمرات من أدوات الهيمنة الثقافية والقانونية الأوروبية لنيل استقلال حقيقي لا يقتصر على رفع العلم.

جذور مؤسسية منحازة

تأسست المحكمة الجنائية الدولية بموجب «ميثاق روما» عام 1998 وسط وعود براقة بتحقيق «عدالة كونية» تكسر حصانة الطغاة وتمنح المظلومين أملاً في إنصاف دولي. غير أنّ هذه الوعود سرعان ما اصطدمت بواقع مغاير، فتحولت المحكمة إلى أداة سياسية موجهة في الأساس ضد قادة الجنوب العالمي، فيما تغض الطرف عن جرائم الغرب وحلفائه. وقد شُيّدت المحكمة في سياق ما بعد الحرب الباردة، عندما تصوّر الغرب أن لحظته الليبرالية العالمية قد حانت، فحملت منذ البداية اختلالًا في توازن القوى. الدول الكبرى التي صاغت النظام العالمي – كالولايات المتحدة وروسيا والصين وإلى حد ما إسرائيل – إما رفضت الانضمام أو انسحبت أو امتنعت عن توثيق اختصاصها، بينما انضمت غالبية دول الجنوب إيمانًا بشعار العدالة، لتكتشف لاحقًا أنها أبرمت عقدًا مع هيئة تحاكمها ولا تحميها.

منذ خطواتها الأولى، انصبت سهام المحكمة على إفريقيا. تشير بيانات المحكمة نفسها إلى أن تسعة من كل عشرة ملفات نشطة تخص القارة الأفريقية، وأن أكثر من عشرين مسؤولًا أفريقيًا من ثماني دول وُجهت إليهم اتهامات. بمعنى آخر، جميع ضحايا المحكمة تقريبًا من عالم الجنوب، وأغلبيتهم أفارقة. وُجهت الاتهامات إلى رؤساء مثل عمر البشير في السودان، ولوران غباغبو في ساحل العاج، ومعمر القذافي في ليبيا، إضافة إلى أمراء حرب في أوغندا والكونغو. في المقابل، لم تُوجَّه أي تهمة إلى قادة غربيين رغم توثيق جرائمهم في العراق وأفغانستان وفيتنام، ولا إلى قادة إسرائيليين رغم المجازر المتكررة في غزة والضفة الغربية. ومع انكشاف التناقضات الغربية مؤخرًا، باتت شعوب الجنوب تدرك أن المحكمة انعكاس لبنية عنصرية ترى أن «العدالة» لا تطبق إلا على الأجساد السمراء والشرقية والسلافية.

أداة للفوقية البيضاء

تؤكد قائمة المستهدفين منذ التسعينيات هذه الحقيقة: ميلوسيفيتش في بلغراد، غباغبو في أبيدجان، القذافي في طرابلس، البشير في الخرطوم، وأخيرًا بوتين في موسكو. جميعهم إما من السلاف أو الأفارقة أو العرب. أما جورج بوش الابن وتوني بلير وأرييل شارون وبنيامين نتنياهو وإيهود أولمرت وباراك أوباما، ومعهم جيوش دولهم، فقد ظلوا في مأمن من أي ملاحقة رغم مسؤوليتهم عن حروب أزهقت أرواح مئات الآلاف، إن لم يكن الملايين.

مقارنة فاضحة: إسرائيل وساحل العاج

لإبراز التناقض، تكفي مقارنة حالتي إسرائيل وساحل العاج.

إسرائيل: جرى الترويج لها باعتبارها «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، بينما يغض الغرب الطرف عن نظام الفصل العنصري الذي تكرسه وتنكره لحق الفلسطينيين في الوجود. هذا الكيان قائم على دعم أمريكي وأوروبي مطلق، حيث يُحتكر توصيف «الديمقراطية» له وحده. ورغم سلسلة الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي، بدءًا من خرقه للقانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة، وصولًا إلى تجاهله اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، واتفاقية لاهاي لتسوية النزاعات سلميًا، واتفاقية حقوق الطفل لعام 1989، وبروتوكولات جنيف لعام 1977 الخاصة بحماية الجرحى والأسرى والمدنيين، فإن أيًا من هذه المواثيق لم يُطبّق على قادة إسرائيل. ومنذ النكبة مرورًا بمجازر دير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا، وصولًا إلى حرب غزة بعد 7 أكتوبر 2023، ارتكب الاحتلال سلسلة جرائم ترتقي إلى مستوى الإبادة. وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، بلغ عدد القتلى الفلسطينيين منذ ذلك التاريخ نحو 65,062 قتيلاً، فيما تجاوز عدد الجرحى 165,697 جريحًا، مع استمرار تسجيل مئات الضحايا أسبوعيًا بسبب القصف، وعمليات إطلاق النار على طالبي المساعدات، وسياسات التجويع والتهجير القسري. ورغم أن الدائرة التمهيدية للمحكمة رفضت طعون إسرائيل في الاختصاص وأعلنت مذكرات توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين بارزين في نوفمبر 2024، بقي التنفيذ بلا أثر حقيقي يوازي حجم الجرائم الموثقة.

ساحل العاج: على النقيض، تحركت المحكمة بسرعة مريبة في حالة الرئيس الإيفواري لوران غباغبو. ففي 5 أكتوبر 2017 نشرت الصحيفة الفرنسية الإلكترونية «ميديابارت» تحقيقًا استقصائيًا أعدته الصحفية فاني بيجو بالتعاون مع فريق التحقيقات الأوروبي تحت عنوان «محاكمة غباغبو: أدلة على التلفيق». كشف التحقيق عن وثيقة سرية لوزارة الخارجية الفرنسية تفيد بأن المحكمة طلبت، في أبريل 2011، إبقاء غباغبو رهن الاعتقال رغم عدم صدور أمر توقيف أو فتح تحقيق رسمي بحقه. وأظهر التحقيق أن الاتهامات لم تكن صادرة عن المدعي العام للمحكمة، بل عن ستيفان جومبيرتز، مدير إدارة إفريقيا في الخارجية الفرنسية. في 11 أبريل 2011، تمركزت ثلاثون دبابة فرنسية أمام مقر الرئاسة في أبيدجان بعد قصفه بالطائرات الفرنسية، بينما كان غباغبو بداخل المبنى مع أكثر من مئة شخص. ورغم أن المدعي العام للمحكمة فضّل التريث، مضت فرنسا قدمًا في اعتقاله باسم المحكمة، دون اعتراض دولة غربية واحدة. وبعد سبع سنوات من الاحتجاز في لاهاي، بُرئ غباغبو وأُطلق سراحه في يناير 2019، لتتضح الخلفية السياسية للعملية كإعادة إنتاج لهيمنة باريس على مستعمراتها السابقة.

ازدواجية المعايير الأمريكية

في مقابل هذه الأمثلة، تكشف الولايات المتحدة عن مستوى آخر من التناقض. فواشنطن لا تعترف بالمحكمة ولم تصادق على ميثاق روما، لكنها مع ذلك تفرض إرادتها عليها. عندما فتحت المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا تحقيقًا في جرائم حرب محتملة ارتكبها جنود أمريكيون في أفغانستان، ردت إدارة ترامب بفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة ومنعت دخولهم إلى أراضيها وهددت علنًا بتفكيكها. وفي صيف 2024، أقر مجلس النواب الأمريكي قانونًا يفرض عقوبات على أي شخص يتعاون مع المحكمة في ملاحقة جنود أو مسؤولين من حلفاء أمريكا، بما في ذلك إسرائيل، في سياق حرب غزة.

إدانات إفريقية متكررة

هذا الواقع التمييزي دفع قادة أفارقة إلى انتقاد المحكمة علنًا منذ سنوات. فقد صرّح الرئيس الرواندي بول كاغامي بأن المحكمة «كان من المفترض أن توجه الاتهام إلى القادة في أنحاء العالم، لكنها انتهت بملاحقة الأفارقة فقط منذ البداية». ووصفها الرئيس الزيمبابوي الراحل روبرت موغابي بأنها «محكمة عنصرية تحتقر العالم الإفريقي»، فيما نعتها حكومة غامبيا بـ«المحكمة القوقازية» (Caucasian Court). وفي أكتوبر 2016، أعلنت بوروندي وجنوب إفريقيا رسميًا رغبتهما في الانسحاب احتجاجًا على المعاملة غير العادلة بعد رفضهما تنفيذ مذكرات توقيف لقادة دول غربية، لكن الانسحاب الجماعي الذي كانت بعض الدول تطمح إليه تعثر أمام اعتراضات داخلية، إذ رأت دول مثل نيجيريا والسنغال أن لكل دولة حرية الانسحاب الفردي.

خاتمة

إن انسحاب تحالف الساحل يمثل، في جوهره، عصيانًا سياسيًا ضد بنية قانونية غير متوازنة، وإعلانًا بأن الجنوب لم يعد يقبل أن يكون مسرحًا لعدالة انتقائية. فالمحكمة عنصرية في بنيتها وجهاز سياسي يعيد إنتاج علاقات القوة التي نشأت منذ الحقبة الاستعمارية، لا لأنها «تكره» الجنوب، بل لأنها وُلدت من رحم نظام عالمي يرى في الغرب معيار الإنسانية وفي غيره موضوعًا للعقاب. لذلك يصبح قرار مالي وبوركينا فاسو والنيجر رسالة واضحة: لن نسمح لمؤسسة دولية بملاحقة قادتنا بينما يظل الغرب بمنأى عن أي مساءلة.

يبقى السؤال الأعمق: إذا كان هذا الانحياز البنيوي واضحًا إلى هذا الحد، فلماذا تتمسك كثير من دول الجنوب بعضوية المحكمة؟ والمفارقة أن بعض الصحف الأفريقية انتقدت انسحاب دول الساحل واعتبرته خطوة نحو العزلة. غير أن المدهش ليس انسحاب هذه الدول، بل استمرار غيرها في الانخراط في منظومة تفضحها كل قضية جديدة وكل إفلات جديد لقادة الغرب من المحاسبة. وإذا كانت العدالة الدولية عمياء كما يقال لتبرير عجزها عن ملاحقة الغرب، فلماذا تفتح عينيها على اتساعهما حين يتعلق الأمر بالسود والسلاف والعرب؟

شارك المقالة
مقالات مشابهة