قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة رسمية إلى كوريا الشمالية يومي 18 و19 يونيو/ حزيران 2024، تم فيها توقيع اتفاقية التعاون الإستراتيجي الشاملة مع نظيره كيم جونغ أون، أهم ما تضمنته الالتزام بتقديم المساعدة في حال تعرض أحد الطرفين إلى اعتداء، وهو ما أكده بوتين بنفسه في ختام زيارته، إذ حرص على الإشارة إلى أن مواصلة البلدان الغربية دعمها لأوكرانيا تعني أن موسكو لا تستبعد أن تقوم باتخاذ اجراءات إضافية لتطوير تعاونها العسكري والتقني مع بيونغ يانغ.
أولاً: التطورات التاريخية لعلاقات الدولتين
تعكس زيارة بوتين إلى كوريا الشمالية تاريخا طويلا للعلاقات بين البلدين، منذ أربعينيات القرن العشرين شهد العديد من التحولات ومر بالعديد من التطورات بل والتقلبات، وذلك على النحو التالي:
المرحلة الأولى، 1945- 1948: خلال تلك الفترة، انتهى الحكم الاستعماري الياباني لشبه الجزيرة الكورية بهزيمة طوكيو في الحرب العالمية الثانية في عام 1945، لكن شبه الجزيرة انقسمت إلى جزء شمالي يدعمه الاتحاد السوفييتي وجنوبي تدعمه الولايات المتحدة. وثبَّت الجيش السوفييتي كيم إيل سونغ، الذي حارب القوات اليابانية، في السلطة بالشمال.
المرحلة الثانية، 1950- 1953: شنت قوات كيم إيل سونغ هجوما مفاجئا على الجنوب في يونيو 1950، ما أدى إلى اندلاع الحرب الكورية. وقامت قوات “جمهورية الصين الشعبية” بمساعدة القوات الجوية السوفيتية. وخاضت قوات كوريا الجنوبية والولايات المتحدة ودول أخرى معارك مضادة، حتى تم الوصول للهدنة عام 1953 لكن استمرت شبه الجزيرة الكورية في حالة حرب.
واستمر الاتحاد السوفييتي في تقديم المساعدة الاقتصادية والعسكرية لكوريا الشمالية، لكن العلاقات بينهما تراجعت مع قيام كيم إيل سونغ بتطهير قيادة الشمال من الفصائل الموالية للسوفييت والصين لتعزيز سلطته، وخفضت موسكو مساعداتها لكنها لم تقطعها حتى نهاية الستينيات من القرن العشرين.
المرحلة الثالثة، السبعينيات والثمانينيات: مع اشتداد المنافسة بين الاتحاد السوفييتي والصين، اتبعت كوريا الشمالية سياسة “المسافة المتساوية” التي تسمح لها بعدم إثارة العداء المتبادل بين العملاقين الشيوعيين لانتزاع المزيد من المساعدات من كليهما. وحاولت بيونغ يانغ تقليل اعتمادها على موسكو وبكين، لكن سلسلة من الإخفاقات السياسية في أعقاب اقتراضها من الأسواق المالية الدولية أدخلت الاقتصاد الكوري الشمالي في أزمات ممتدة، وزاد اعتماده على الاتحاد السوفيتي، لكن بعد صعود ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة في روسيا، بدأ الاتحاد السوفييتي في خفض المساعدات لكوريا الشمالية وتفضيل المصالحة مع كوريا الجنوبية، ووسعت سيول علاقاتها الدبلوماسية مع الدول الشيوعية في أوروبا الشرقية، مما فرض عزلة دولية على كوريا الشمالية.
المرحلة الرابعة، انهيار الاتحاد السوفيتي وولاية يلتسين: بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، اتسمت العلاقات بالبرود السياسي من جانب حكومة موسكو بقيادة الرئيس، بوريس يلتسين، وأقامت موسكو علاقات دبلوماسية رسمية مع سيول على أمل جذب الاستثمارات الكورية الجنوبية للبلاد، في الوقت الذي تعرضت فيه كوريا الشمالية، بعد وفاة كيم إيل سونغ عام 1994، إلى مجاعة شديدة.
المرحلة الخامسة، عهد بوتين: بعد انتخاب بوتين رئيسا عام 2000، سعى بقوة إلى استعادة علاقات روسيا مع كوريا الشمالية، وقام بزيارة بيونغ يانغ في يوليو من نفس العام للقاء كيم جونغ إيل، الزعيم الثاني بكوريا الشمالية، وأصدر الزعيمان انتقادات مشتركة لخطط الدفاع الصاروخي الأميركية، واستضاف بوتين كيم جونغ إيل في زيارات لاحقة لروسيا عامي 2001 و2002.
وعلى الرغم من قوة العلاقات، دعمت روسيا مرتين العقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي على كوريا الشمالية بسبب برنامجها النووي والصاروخي، وشاركت موسكو في محادثات هدفت إلى إقناع بيونغ يانغ بالتخلي عن برنامجها النووي مقابل الحصول على مساعدات أمنية واقتصادية، لكن انهارت هذه المحادثات، التي شاركت فيها الولايات المتحدة والصين وكوريا الجنوبية واليابان في ديسمبر 2008.
وفي أغسطس 2011، ووفاة كيم جونغ إيل، وتولي كيم جونغ أون. وافقت روسيا على شطب 90 في المئة من ديون كوريا الشمالية المقدرة بنحو 11 مليار دولار، وذلك عام 2012، وسرَّع كيم جونغ أون من التجارب النووية والصاروخية. ودعمت روسيا العقوبات التي فرضها مجلس الأمن والتي تشمل الحد من إمدادات النفط.
واستغلت كوريا الشمالية تركيز العالم على حرب أوكرانيا 2022، لتسريع تجاربها الصاروخية، وانضمت إلى روسيا وسوريا في الاعتراف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين اللتين تدعمهما موسكو في شرق أوكرانيا، وأعلنت استعدادها للمساعدة في جهود إعادة البناء في أوكرانيا، وكان ذلك مقدمة لتعزيز وتصاعد العلاقات بين كوريا الشمالية وروسيا.
ثانياً: خلفيات توقيع الاتفاقية
في مارس 2024، استخدمت روسيا حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي لوضع حد لمراقبة انتهاكات العقوبات الدولية المفروضة على كوريا الشمالية، وهي الخطوة التي لقيت ترحيباً وإشادة من بيونج يانج، وتأتي زيارة الرئيس الروسي بعد استقباله زعيم كوريا الشمالية في أقصى الشرق الروسي، في سبتمبر 2023، في زيارة طغت عليها أجواء الثناء دون إبرام أي اتفاقات.
وزيارة بوتين هي الزيارة الثانية التي يجريها إلى كوريا الشمالية، وكانت الأولى عام 2000، بعيد وصوله إلى السلطة للقاء والد كيم جونج أون، كيم جونج إيل، وقبل زيارة بوتين قام وزير خارجية كوريا الشمالية “تشوي سون هوي” بزيارة موسكو في يناير 2024، كما قام عدد من كبار المسؤولين الروس من بينهم رئيس أجهزة الاستخبارات الخارجية سيرجي ناريشكين، بزيارة بيونج يانج للترتيب للاتفاق.
وأشاد كيم جونج أون، الأربعاء، قبل زيارة الرئيس الروسي بـ”روابط الأخوة الراسخة لرفاق السلاح” بين بيونج يانج وموسكو والتي تعود إلى الحقبة السوفياتية.
ثالثاً: المضامين الأساسية للاتفاقية
وكشفت وكالة الأنباء المركزية الرسمية في كوريا الشمالية عن النص الكامل لـ”معاهدة الشراكة الإستراتيجية الشاملة” التي وقعها كيم وبوتين (الأربعاء 19 يونيو/ حزيران 2024)، وجاء في المعاهدة “إذا تعرض أحد الطرفين لمواقف حرب بسبب غزو مسلح من دولة منفردة، أو عدة دول فإن الجانب الآخر يقدم المساعدة العسكرية وغيرها من المساعدات دون تأخير من خلال حشد جميع الوسائل المتاحة له التي في حوزته بما يتماشى مع المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة وقوانين كوريا الشمالية والاتحاد الروسي”، وأضافت الوكالة أن المعاهدة الجديدة “تتطلب أيضا من الجانبين عدم التوقيع على معاهدات مع دولة ثالثة تنتهك المصالح الأساسية للطرف الآخر أو تشارك في مثل هذه الأعمال”.
وبعد محادثات القمة، أعلن الزعيم كيم أن علاقات كوريا الشمالية مع روسيا قد تمت ترقيتها إلى مستوى التحالف. لكن بوتين لم يصل إلى حد تعريف العلاقات على أنها تحالف. ولا تزال وجهات النظر منقسمة حول ما إذا كان يمكن اعتبار المعاهدة بمثابة معاهدة دفاع مشترك، وتضمنت المعاهدة بندًا ينص على ما يسمى بالتدخل العسكري التلقائي، والذي بموجبه إذا تعرض أحد الطرفين لهجوم مسلح، فإن الطرف الآخر يقدم القوات العسكرية وغيرها من المساعدات دون تردد.
وستحل معاهدة الشراكة الجديدة محل المعاهدات الثنائية التي أبرمتها كوريا الشمالية وروسيا حتى الآن، بما في ذلك معاهدة العلاقات الثنائية في عام 2000 والتي تركزت على التعاون في القطاعات غير العسكرية، حيث سبق ووقعت كوريا الشمالية والاتحاد السوفياتي السابق معاهدة الصداقة والمساعدة المتبادلة في عام 1961.
وعلق كيم جونغ أون على الاتفاقية بأن وضع كوريا الشمالية وروسيا في بنية الجغرافيا السياسية العالمية قد تغير، وأن الاتفاقية ستساعد في وجود عالم متعدد الأقطاب.
ومن جانبه قال الزعيم الكوري الشمالي: “هذه المعاهدة القوية هي وثيقة ذات طبيعة بناءة وواعدة حقا وسلمية ودفاعية، وهي مصممة لحماية المصالح الأساسية لشعبي البلدين والدفاع عنها، ليس لدي شك في أنها ستصبح قوة دافعة لتسريع إنشاء عالم جديد متعدد الأقطاب”، وأضاف إن هذه الاتفاقية تلبي الطبيعة الاستراتيجية للعلاقات بين البلدين، وقال: “لقد تغير الزمن، وضع كوريا الشمالية وروسيا في بنية الجغرافيا السياسية العالمية قد تغير أيضا”.
ووصف الاتفاقية بأنها “حدث مهم”، وبفضلها بدأت العلاقات بين البلدين مرحلة جديدة نحو “مزيد من التنمية الواعدة لتحقيق تقدم البلدين وتعزيز رفاهية شعبيهما من خلال التعاون النشط في مختلف المجالات، بما في ذلك السياسة والاقتصاد والثقافة والشؤون العسكرية”، ووعد بأن حكومة بلاده “ستفي دائما بإخلاص بالتزاماتها بموجب المعاهدة.”
رابعاً: الأبعاد الاستراتيجية لتوقيع الاتفاقية
في إطار الاعتبارات السابقة، والنصوص التي تقوم عليها اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين روسيا الاتحادية وكوريا الشمالية يمكن الوقوف على عدد من الأبعاد التي من شأنها التأثير في التداعيات المستقبلية لهذه الاتفاقية:
(1) إن سرعة ودرجة توسيع العلاقات الأمنية والعسكرية الروسية التي تشمل منافسي الولايات المتحدة كالصين وكوريا الشمالية قد فاجأت في بعض الأحيان محللي الاستخبارات الأميركية، حيث تجاوزت روسيا ودول أخرى خلافاتها التاريخية لمواجهة جماعية لما تعتبره نظاما دوليا تهيمن عليه الولايات المتحدة، حيث أصبح التعاون العسكري بين كل من روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية أوثق منذ فبراير/شباط 2022، مع بداية الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
(2) هذا التوقيع على اتفاقية التعاون الإستراتيجي سيشكل عامل ضغط كبير على حلفاء واشنطن في المنطقة، مثل كوريا الجنوبية واليابان، اللتان تتخوفان من أن تقوم روسيا بنقل تقنيات عسكرية حديثة إلى كوريا الشمالية كإجراء انتقامي ردا على إمداد أوكرانيا بالأسلحة، خاصة وأن بوتين أعلن عدم التزامه بالعقوبات ضد كوريا بأي شكل من الأشكال أمام سعيه لبناء نظام عالمي جديد لا تنطبق فيه القواعد القديمة، ويضع فيه بنفسه قواعد جديدة، في مواجهة الهيمنة الأمريكية.
(3) الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين موسكو وبيونغ يانغ هي أعلى مستوى في تدرج العلاقات بين البلدين خلافا للحقب السابقة، حيث كان المستوى مختلفا تماما وأعلى سقف له كان علاقات حسن الجوار، في حين تطورت العلاقات خلال العامين الأخيرين، مع زيارة كيم جونج أون إلى موسكو، سبتمبر 2023، وزيارة بوتين إلى بيونج يانج، في يونيو 2024.
(4) إن زيارة بوتين إلى كوريا الشمالية تشكل أكبر تهديد لأمن الولايات المتحدة وحلفائها منذ الحرب الكورية (1950-1953)، لأنها خرجت بتفاهمات ذات طابع استراتيجي وانتقامي ضد السياسات الغربية، وما تقوم به الولايات المتحدة سواء على الحدود الغربية لروسيا عبر أوكرانيا وبولندا وفنلندا والسويد، أو عبر الحدود الشرقية والجنوبية لروسيا وكوريا معاً في كوريا الجنوبية واليابان وأستراليا، خاصة وأن التقارب بين موسكو وبيونغ يانغ هو “خيار عقلاني واستراتيجي في هذه المرحلة، في مواجهة الاستراتيجية طويلة الأمد التي تنتهجها الولايات المتحدة وحلفاؤها لعزل البلدين وممارسة الضغوط عليهما، بما يدفعهما إلى تعزيز التعاون لمواجهة التهديدات والتحالفات التي تقودها الولايات المتحدة، على مختلف الجبهات.
(5) إن التحولات الجديدة في مرحلة ما بعد توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين روسيا وكوريا الشمالية، قد تشمل تراجع موسكو عن موقفها الحيادي بشأن شبه الجزيرة الكورية، وتعيد مراجعة توجهاتها نحو كوريا الجنوبية في انضمام الأخيرة إلى العقوبات الغربية على روسيا، وتوقيعها العديد من الاتفاقيات الأمنية والعسكرية مع الولايات المتحدة، وتقاربها العسكري مع اليابان في مواجهة روسيا وكوريا الشمالية.