في 28 مايو 2025، شهدت القاهرة زيارة وُصفت بأنها تاريخية لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، حيث التقى بنظيره المصري بدر عبد العاطي، في أول لقاء علني رفيع المستوى بين البلدين منذ أكثر من عقد. جاءت الزيارة في سياق إقليمي مضطرب، إذ تتصاعد حدة الحرب في غزة، فيما يتراجع الدور الإقليمي لمصر على أكثر من جبهة. وصفت طهران الزيارة بأنها “مهمة للغاية”، في حين شملت أجندتها لقاءات رسمية مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية، تطرقت إلى العلاقات الثنائية، والملف النووي الإيراني، والمفاوضات غير المباشرة الجارية مع الولايات المتحدة.
وقد نقل عباس عراقجي، كبير المفاوضين الإيرانيين، رسالة مفادها أن منسوب التعاون السياسي والثقة بين طهران والقاهرة بلغ مستوى غير مسبوق، مشيرًا إلى أن الطريق بات مفتوحًا أمام تعزيز العلاقات. وأكد في تصريحاته على الثقل الإقليمي لكلا البلدين، واصفًا إياهما بـ”قوتين حضاريتين” تتحملان مسؤولية مشتركة في صون استقرار المنطقة. ولم تخلُ الزيارة من أبعاد رمزية وثقافية، إذ أدى عبد اللهيان الصلاة في مسجد الحسين، وشارك في مأدبة عشاء مع شخصيات مصرية بارزة من بينها وزراء خارجية سابقون في منطقة خان الخليلي، ما أضفى على الزيارة طابعًا غير رسمي ساعد في تبادل الرؤى حول القضايا الإقليمية والدولية. وقد طرحت هذه التحركات أسئلة حول طبيعة الزيارة: هل تُعد مؤشرًا على تحول استراتيجي حقيقي في مسار العلاقات بين القاهرة وطهران، أم أنها مجرد خطوة دبلوماسية ظرفية تحكمها اعتبارات اللحظة؟
أما من جهة القاهرة، فجاءت لهجة وزير الخارجية بدر عبد العاطي أكثر تحفظًا، إذ اكتفى بالتأكيد على أن المباحثات تناولت “عددًا من القضايا الإقليمية، وعلى رأسها الوضع في غزة، وضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار”، مع التشديد على “أهمية احترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية”. ورغم ذلك، فإن فتح قنوات التواصل والتنسيق بين البلدين يبدو أقرب إلى إعادة تموضع اضطراري فرضته اعتبارات داخلية وخارجية، أبرزها تراجع الدعم الأميركي، وتصاعد الضغوط الخليجية، فضلًا عن أزمات اقتصادية خانقة تجعل من مصر، الغارقة في الديون، أكثر استعدادًا لإعادة ضبط بوصلتها الإقليمية ضمن واقع جديد آخذ في التشكل.
مصر المهمشة وإيران الجريحة: تقارب على حافة التوازنات
تأتي محاولات التقارب بين القاهرة وطهران في لحظة دقيقة تعكس هشاشة موقعيهما الإقليميين؛ فإيران تواجه ضغوطًا غير مسبوقة بعد السابع من أكتوبر، أبرزها اغتيال حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، وأحد أبرز أدوات النفوذ الإيراني في المنطقة، فضلا عن سقوط نظام الأسد. وقد شكّل هذا الحدث ضربة استراتيجية لطهران، دفعتها إلى البحث عن منافذ لتثبيت وجودها الإقليمي، ومن هنا تبرز أهمية فتح قنوات مع مصر، ولو بشكل محدود أو رمزي، لموازنة التراجع في جبهات أخرى. في الوقت نفسه؛ تدرك إيران أن القاهرة ليست في وارد الدخول في تحالفات حاسمة، لكنها تسعى لصياغة ملفات وتقاطعات مشتركة، خصوصًا في ظل التراجع المصري في ملفات مركزية مثل غزة، السودان، والبحر الأحمر.
وفي المقابل، فإن أي تقدم حقيقي في العلاقات بين مصر وإيران، أو مجرد مأسسة الحوار وتحوله إلى تنسيق فعلي، سيُنظر إليه بقلق بالغ في كل من الخليج وإسرائيل. وهو ما قد يُفهم على أنه خروج مصري عن التوافق الإقليمي، لا سيما مع السعودية والإمارات، اللتين تشكلان اليوم المحور الأكثر تأثيرًا في صياغة السياسات العربية تجاه إيران. فالقاهرة التي تتلقى دعمًا اقتصاديًا كثيفًا من الرياض وأبو ظبي، تُدرك أن أي انفتاح غير محسوب على طهران قد تكون كلفته باهظة، ولذلك تتعامل مع الأمر بمنطق الاستكشاف والتجريب، لا القفز نحو تحالف استراتيجي.
كذلك؛ يتقاطع توقيت الزيارة مع مشهد إقليمي متبدل، فمصر تنظر بقلق إلى ما جرى في سوريا، خصوصًا صعود أحمد الشرع إلى السلطة في دمشق، وهو ما تعتبره تجاوزًا لمسارات التسوية مع الأسد التي كانت القاهرة تأمل أن تلعب دورًا فيها، فضلا عن صعود الإسلام السياسي مجددا. هذا الامتعاض المصري من التغيرات السورية يلتقي مع ذات النظرة الإيرانية الرافضة للشرع، ما يفتح هامشًا محدودًا لتفاهم تكتيكي بين الطرفين.
إلى جانب ذلك، فإن تراجع الثقة الإقليمية والدولية في الدور المصري كوسيط في القضية الفلسطينية، وتقدُّم قطر وتركيا إقليميا، يخلق فراغًا تسعى إيران إلى التسلل منه، عبر تقديم نفسها كفاعل “إسلامي جامع” يتجاوز الانقسامات الطائفية يمتلك قنوات فعالة مع فصائل المقاومة الفلسطينية. ومع أن إيران لن تتمكن بالتأكيد من لعب دور الوسيط الرسمي في الملف الفلسطيني، إلا أنها تأمل في لعب دور توازني أمام إسرائيل، التي تتجهز، بحسب تقارير، لاحتمال توجيه ضربة عسكرية إلى منشآتها النووية.
على الجانب الآخر، فإن غياب مصر عن الجولة الإقليمية الأخيرة للرئيس الأميركي ألقى بظلال من الشك حول مكانة القاهرة في الاستراتيجية الأمنية الأميركية، وهو ما قد يدفع صانع القرار المصري إلى التفكير في تنويع الشراكات، وتوسيع هامش الحركة الإقليمية، لتقليص الاعتماد المطلق على واشنطن وحلفائها في الخليج. ومع ذلك، فإن الزيارة الإيرانية لا ترقى إلى مستوى الانفتاح الكامل؛ إذ تمضي مصر في هذا المسار بحذر، وهي واعية تمامًا لحجم النفوذ السعودي والإماراتي في ملفاتها الداخلية والإقليمية.
بناءً عليه، يمكن وصف الزيارة بأنها “استطلاعية” في المقام الأول، تهدف إلى اختبار إمكانيات التقارب دون اتخاذ خطوات جوهرية. أما إيران، فهي الأخرى لا تملك الكثير من الأوراق، خاصة مع تعثر مفاوضاتها النووية مع واشنطن، وانغلاق أفق التسوية، مما يجعل من القاهرة -برمزيتها ومكانتها التاريخية- ورقة تستحق الاستكشاف.
القلق الإسرائيلي: أن تُكسر عُزلة طهران من بوابة القاهرة
تتابع إسرائيل زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى القاهرة بقلق متزايد، إذ تنبع مخاوف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية من التداعيات الاستراتيجية المحتملة لهذا التطور على منظومة التنسيق الأمني الإقليمي، لا سيما في قطاع غزة. فبالنسبة لإسرائيل، فإن أي تقارب بين مصر وإيران، حتى وإن اقتصر على الجانب الدبلوماسي، قد يُعقّد التعاون الأمني في المناطق الحدودية الحساسة التي تشهد اضطرابًا مستمرًا، ويزيد من صعوبة إدارة التهديدات المشتركة، خصوصًا في ظل الأوضاع المتقلبة على الجبهة الجنوبية.
ويُبرز تحليل يوئيل غوزانسكي، الباحث في المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي، أن منح القاهرة لطهران أي شكل من أشكال الشرعية الدبلوماسية -حتى لو كانت رمزية أو محدودة- يعني في نظر إسرائيل كسرًا لـ”جدار العزلة العربية” الذي فُرض على إيران منذ ما يزيد على عقدين، ومن شأن هذا التطور أن يخفف من وطأة الطوق الإقليمي المفروض عليها، ويمنحها فرصة لالتقاط الأنفاس وتوسيع هوامش تحركها السياسي، وربما تقويض التحالفات الناشئة عن اتفاقيات إبراهام، وتأجيل أو تعطيل انعقاد منتديات إقليمية حيوية مثل “منتدى النقب”، الذي سعت تل أبيب لتحويله إلى منصة للتطبيع الشامل مع دول عربية وازنة.
ومن بين السيناريوهات المثيرة للقلق بالنسبة لصناع القرار في إسرائيل، احتمال عبور سفن إيرانية محملة بالنفط أو الأسلحة عبر قناة السويس، ما قد يُحدث توترًا مباشرًا في العلاقات الإسرائيلية المصرية، ويهدد بتقويض التفاهمات الأمنية الثنائية التي تراكمت على مدى عقود.
ويشارك المحلل العسكري يوآف ليمور هذا القلق، حيث يرى أن التهديد الإيراني لا يتجسد في عمل عسكري تقليدي بقدر ما يتمثل في استراتيجية “التسلل الناعم” عبر أدوات الإعلام، والدبلوماسية، ونشاطات الحرس الثوري. ويحذر من أن مصر ليست محصّنة بالكامل ضد هذا النمط من الاختراق، معتبرًا أن أي انخراط إيراني في الداخل المصري قد يكون بداية لتحول أوسع في نطاق النفوذ الإيراني بالمنطقة.
رسائل لأطراف أخرى أكثر من كونها شراكة
في ضوء ذلك، يمكن القول إن زيارة عراقجي إلى القاهرة جاءت في إطار انفتاح محسوب ومدروس من كلا الجانبين، دون كسر قواعد اللعبة التقليدية في العلاقات العربية الإيرانية. إيران تسعى لاكتساب شرعية عربية تعيد تأهيلها إقليميًا بعد سنوات من العزلة، ومصر تحاول تنويع خياراتها السياسية وسط تراجعها في الاستراتيجية الأميركية وتآكل مكانتها الإقليمية. ومع ذلك، لم تسفر الزيارة عن اختراقات حقيقية أو تحول نوعي، إذ غابت الاتفاقيات الرسمية، ولم تُفتح السفارات، كما لم يُطرح أي ملف أمني بشكل علني.
ويُرجّح أن يبقى مسار العلاقات عند هذا المستوى الرمزي في المدى القريب، ما لم تطرأ تغييرات جوهرية في المشهد الإقليمي. فإذا ما تصاعدت الحرب في غزة وازدادت الضغوط الغربية والخليجية على طهران، قد تجد القاهرة نفسها منفتحة أكثر على توسيع التنسيق مع إيران ضمن موازين جديدة. أما في حال ضمنت مصر دعمًا اقتصاديًا وسياسيًا كافيًا من شركائها التقليديين، فستكتفي بهذا الانفتاح المحدود، دون أن تنزلق إلى تحالفات قد تجرّ عليها كلفة استراتيجية لا تستطيع تحملها في الوقت الراهن.