
شهدت جمهورية غينيا بيساو في السادس والعشرين من نوفمبر 2025 انقلابًا عسكريًا أطاح بالرئيس المنتهية ولايته عمرو سيسوكو إمبالو. ففي ساعات قليلة، أعلن الجيش تشكيل مجلس انتقالي يدير البلاد لمدة عام كامل، مبررًا تحركه بإنقاذ الدولة من “مأزق سياسي” وبمواجهة ما وصفه بتمدد شبكات التهريب وتغلغل الفاعلين المتورطين في تجارة المخدرات داخل المؤسسات. غير أن هذا التفسير المعلن لا يكشف إلا السطح. فخلف الخطاب الأمني، تبدو ملامح صراع أعقد بكثير. هل كان الانقلاب تغييرًا جذريًا في مسار الدولة؟ أم عملية هندسة داخلية لإعادة ترتيب السلطة داخل القصر والمؤسسة العسكرية؟ يحاول المقال الإجابة عن هذه التساؤلات.
سيرة تاريخية مختصرة
تقع غينيا بيساو في غرب أفريقيا بين السنغال شمالًا، وغينيا كوناكري شرقًا وجنوبًا، والمحيط الأطلسي غربًا. وقد نالت استقلالها عن البرتغال عام 1974 بقيادة حزب PAIGC (الحزب الإفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر)، لكنها دخلت سريعًا دوامة انقلابات وصراعات داخلية؛ إذ أطاح جواو برناردو فييرا بالرئيس الأول لويس كابرال عام 1980، وحكم حتى أطاحت به الحرب الأهلية. وبعد الحرب الأهلية وحتى تاريخ اليوم، شهدت البلاد أربع انقلابات ناجحة، ومحاولات متعددة، واغتيال رئيسين، وصراعات داخل المؤسسة العسكرية لم تهدأ يومًا. وبتعبير آخر، لم يكن الانقلاب الأخير في غينيا بيساو حدثًا يصعب استشعاره؛ فمنذ لحظتها التأسيسية، عاشت على إيقاع هشاشة مزمنة.
في هذا المناخ السياسي، برز اسم عمر سيسوكو إمبالو، الضابط السابق ورئيس الوزراء بين 2016 و2018، الذي خاض انتخابات 2019 تحت راية حزب “حركة التناوب الديمقراطي” المنشق عن الحزب التاريخي PAIGC، وحصل إمبالو على 54% في الجولة الثانية، متغلبًا على خصمه دومينغوس سيمويس بيريرا. غير أن نتائج الانتخابات فجّرت أزمة دستورية، إذ رفض البرلمان والمحكمة العليا الاعتراف بشرعية النتائج، مشيرين إلى عدم تنفيذ أمر قضائي بإعادة فحص شامل للتصويت. ورغم ذلك، بادر إمبالو إلى أداء اليمين في حفل موازٍ داخل أحد الفنادق في 28 فبراير/شباط 2020، في خطوة وصفتها المعارضة بأنها “انقلاب انتخابي”. وقد سلّم الرئيس المنتهية ولايته ماريو فاز السلطة لإمبالو، لترسخ تلك الأزمة سابقة خطيرة في انتقال السلطة.
جذور الأزمة
انطلقت الأزمة الراهنة من خلاف جذري حول موعد انتهاء ولاية الرئيس إمبالو. ووفق الدستور، انتهت ولايته في 28 فبراير 2025، لكن المحكمة العليا مددتها حتى 4 سبتمبر بحجة تأجيل الانتخابات. فاعتبرت المعارضة التمديد انقلابًا دستوريًا، بينما حاول إمبالو تنظيم الانتخابات في 23 نوفمبر لإعادة ترتيب المشهد ضمن قواعد تخدمه. وقد أثارت هذه الخطوة اتهامات واسعة بأنه يحاول تقديم الانتخابات التشريعية على الرئاسية للحصول على أغلبية برلمانية جديدة تمكنه لاحقًا من العودة للرئاسة بغطاء قانوني انتخابي.
وفي الانتخابات التشريعية لشهر يونيو/حزيران 2023، تمكن رئيس البرلمان دومينغوس سيمويس بيريرا، عبر منصة “التحالف الشامل – تيرا رانكا” — التي تضم حزب PAIGC وأحزابًا صغيرة متحالفة — من اقتراح حزمة إصلاحات دستورية تهدف إلى توضيح الصلاحيات بين الرئيس ورئيس الوزراء. وأسفرت النتائج عن هزيمة سياسية للرئيس إمبالو، بسبب تراجع نفوذه في المناطق الريفية المتضررة من انخفاض أسعار محصول الكاجو، مصدر الدخل الرئيسي للسكان، ما أدى إلى حصول “تيرا رانكا” على 54 مقعدًا، مع دعم إضافي من 12 نائبًا من أحزاب أخرى.
قوضت هذه النتائج رؤية الرئيس إمبالو لطبيعة السلطة التنفيذية، إذ كان يسعى إلى تمرير دستور جديد يمنح الرئاسة صلاحيات أوسع، وهو ما لم يعد ممكنًا بعد فقدانه الأغلبية البرلمانية. وردًا على هذه الخسارة، لجأ إمبالو إلى تأسيس حكومة ظل تضم “مستشارين رئاسيين” من وزراء سابقين وعناصر أمنية مقربة من الجيش والشرطة، في محاولة للالتفاف على البرلمان وتجاوز مسار الإصلاح الدستوري. كما قام بحل البرلمان في ديسمبر 2023، متذرعًا بمحاولات انقلاب، وأقال رئيس الوزراء جيرالدو مارتينز، بل ومنع النواب من دخول مقر البرلمان.
الانتخابات العامة 2025 والانقلاب
أُجريت الانتخابات العامة — الرئاسية والبرلمانية — في غينيا بيساو في 23 نوفمبر 2025 كما أراد الرئيس إمبالو. وكان إمبالو قد أعلن في 7 مارس 2025 عزمه الترشح لولاية ثانية، قبل أن يُعدّل موعد الاستحقاق إلى 23 نوفمبر، في خطوة أثارت منذ البداية شكوك المعارضة بشأن دوافعها. وكان أبرز منافس لإمبالو في الاستحقاق الرئاسي المرشح المستقل فرناندو دياس دا كوستا، الذي بدا، وفق النتائج الأولية، متقدمًا في الجولة الأولى. وكان السبب الوحيد للسماح له بالترشح أن إمبالو وأنصاره رأوا فيه منافسًا هشًا وضعيفًا. وعلى الرغم من الحضور التاريخي لاسم دومينغوس سيمويس بيريرا — زعيم حزب PAIGC — في المشهد السياسي، لم يكن منافسًا مباشرًا في الانتخابات بعد منعه من المشاركة، واتجهت المنافسة إذن إلى مواجهة ثنائية بين إمبالو ودا كوستا. أتت النتائج الأولية عكس المتوقع، إذ بدا دا كوستا، المرشح الهش والأقل حظًا، يتصدر النتائج واحدًا تلو الآخر.
وفي 26 نوفمبر 2025، أي قبل إعلان النتائج الرسمية بيوم واحد فقط، أعلنت مجموعة من الضباط انقلابًا عسكريًا وسيطرتهم الكاملة على الدولة، معلنين مرحلة انتقالية تحت إدارة المجلس العسكري. وبحلول منتصف النهار، كان الرئيس عمر سيسوكو إمبالو قد جرى توقيفه في مكتبه داخل القصر. وفي الوقت نفسه، اعتُقل كبار قادة المؤسسة العسكرية، وعلى رأسهم الفريق بياغي نا نتا، رئيس الأركان، ونائبه الجنرال مامادو توريه، إضافة إلى وزير الداخلية بوتشي كاندي. ولم يتوقف الأمر عند الدائرة الأمنية، بل امتد إلى خصوم إمبالو السياسيين؛ إذ طالت حملة الاعتقالات زعيم المعارضة دومينغوس سيمويس بيريرا، الذي لم يشارك في الانتخابات أصلًا، ورئيس اللجنة الانتخابية، وشخصيات أخرى ارتبطت مباشرة بالاستحقاق الانتخابي المعلّق، فيما اختفى ثمانية من أبرز قادة المعارضة، وتوارى دا كوستا — المرشح الأوفر حظًا للفوز — عن الأنظار، مؤكدًا عبر إذاعة RFI الفرنسية أنه “مختبئ وفي أمان”. وفي ساعات المساء، ظهر العميد دنيس نكانها — المتحدث باسم المجلس العسكري — على شاشة التلفزيون الرسمي، معلنًا تجميد عمل جميع المؤسسات، وإغلاق الحدود، وتعليق العملية الانتخابية، إيذانًا بإطلاق مرحلة انتقالية يديرها ما سُمّي: “القيادة العسكرية العليا لاستعادة الأمن والنظام”.
الرجل القوي الجديد في بيساو
ومع فجر اليوم التالي، بدا واضحًا أن الانقلاب في غينيا بيساو يمثل إعادة رسم جذرية لهرم القوة. فقد أعلنت المؤسسة العسكرية تنصيب الجنرال هورتا نتاّم — قائد القوات البرية، وأحد أكثر الضباط قربًا من إمبالو نفسه ورئيس ديوانه — رئيسًا للمرحلة الانتقالية لمدة عام كامل. ولم يكن نتاّم اسمًا حاضرًا في المجال العام، ولا حتى شخصية ذات ظهور بارز، لكنه كان جزءًا من شبكة النفوذ العسكري التي تمددت خلال سنوات إمبالو، ما يجعل اختياره أقرب إلى عملية ترتيب البيت الداخلي للقوات المسلحة منه إلى انقلاب على رأس الدولة فحسب. وبالتوازي، عُيّن الجنرال توماس جاسّي — رئيس الأركان الخاص السابق لإمبالو — قائدًا عامًا للجيش. وفي خطاب تنصيبه، قال نتاّم إن تحرك الجيش جاء ردًا على “محاولة لزعزعة الاستقرار تقودها شبكات المخدرات”.
إن الاضطراب البنيوي — الذي أشرنا إليه أعلاه — نتج عنه تراكم تاريخي لانقسامات النخب، وضعف المؤسسات، وغياب الخدمات، وتدهور السياسات العامة في غينيا بيساو. ومع الوقت، تحولت بيساو إلى واحدة من أكثر نقاط غرب أفريقيا عرضة للاختراق من تجارة المخدرات.
فموقع البلاد على تقاطع طرق الأطلسي جعلها مركزًا حيويًا لمرور المخدرات القادمة من أميركا اللاتينية باتجاه أوروبا. وقد تحدثت تقارير الأمم المتحدة منذ 2007 بوضوح عن تغلغل شبكات تهريب الكوكايين داخل أجهزة الدولة، معتبرة غينيا بيساو “دولة مخدرات” (Narco-State) بحكم الأمر الواقع. وخلقت شبكات النفوذ هذه — بعضها داخل الجيش والبحرية — مراكز قوة موازية للسلطة الرسمية، تتحكم في مسار الأزمات وتؤثر في قرارات الانقلاب أو مآلاته، ما يجعل ضبط المشهد السياسي مهمة شبه مستحيلة.
ويعكس اقتصاد البلاد نفسه الهشاشة ذاتها. فغينيا بيساو تقف على قاعدة اقتصادية ضيقة للغاية، يمثل الكاجو نحو 90% من صادراتها، ويعيل أكثر من 120 ألف مزارع. أي اضطراب طفيف في الأسعار أو الإنتاج يترجم فورًا إلى أزمة وطنية شاملة. لكن الخطر الأكبر لا يأتي من الاقتصاد الرسمي، بل من الاقتصاد الموازي الذي يعمل خارج الدولة تمامًا، اقتصاد الجريمة المنظمة. فبسواحلها الطويلة التي يصعب مراقبتها، وجزر كثيرة تصلح كمخازن عابرة، وشرطة وجيش يعانيان من نقص التجهيزات والرواتب، كل ذلك خلق ظروفًا مثالية لاندماج بعض الضباط في شبكات التهريب، أو على الأقل توفير حماية لوجستية لها، ما جعل أي إصلاح سياسي حقيقي يصطدم بجدار نفوذ غير رسمي. وبهذه الخلفية، يمكننا إدراك أن التبرير الذي قدمه ضباط الجيش عن الانقلاب تبرير واهٍ، وأن ما حدث خطوة استباقية لمنع مرشح مستقل من الوصول إلى السلطة، مرشح لا يمكن التنبؤ بالقرارات التي كان سيتخذها.
خاتمة
ختامًا، تشير المعطيات المتاحة إلى أن مسار الأحداث في غينيا بيساو لا ينسجم مع خصائص الانقلابات التقليدية في غرب أفريقيا، بل يرجّح وجود ترتيب مسبق بين أطراف داخلية بدعم من حلفاء دوليين لإقصاء المرشح المنافس والرئيس المنتهية صلاحيته معًا. وهنا أشار العديد من المراقبين إلى كل من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية باعتبارهما متواطئتين في الانقلاب، وذلك لإشارة دا كوستا في حملاته وبرنامجه الانتخابي إلى تمتين علاقات بلاده مع روسيا، أو على الأقل إظهاره ميلًا واضحًا نحو تنويع تحالفاته الدولية بعيدًا عن إرث العلاقات مع الغرب.
وما يعزز قوة هذه الفرضية أن الرئيس المنتهية ولايته، عمرو سيسوكو إمبالو، وبعد خروجه من بيساو إلى السنغال، قوبل ببرود من رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو، الذي عبّر صراحة عن انزعاجه من حضوره، معتبرًا أن ما يجري في غينيا بيساو ليس انقلابًا بالمعنى التقليدي، بل “خدعة واتفاقًا مدبرًا”. وأشار إلى الأمر ذاته مراقب انتخابات غينيا بيساو التابع لإيكواس، الرئيس النيجيري الأسبق غودلوك جوناثان، الذي لم يُسمح له بمغادرة البلاد إلا بعد مرور يوم كامل على وقوع الانقلاب. دفع هذا التوتر إمبالو إلى مغادرة داكار نحو الكونغو برازافيل، إلى حيث الرئيس دينيس ساسو نغيسو، الذي اعتاد إمبالو نفسه أن يصفه بـ”والده السياسي”.
وفي منطق الانقلابات العسكرية في أفريقيا، حين يكون الانقلاب حقيقيًا وذا أثر مباشر على موازين القوى والتحالفات الإقليمية والدولية، فإن الرئيس المُبعد يُحتجز داخل البلاد، كما حدث مع الرئيس النيجري محمد بازوم. أما حين تكون المسألة جزءًا من صراع داخلي محدود، أو مناورة متفقًا عليها بين أطراف السلطة، فيُسمح للرئيس بالمغادرة إلى دولة صديقة أو حليفة، وهو ما يبدو أنه حدث مع عمرو سيسوكو إمبالو.
غير أن خطورة هذا الانقلاب لا تتعلق بغينيا بيساو وحدها، بل بما يفتحه من سوابق سياسية في القارة. إذ يرسخ نموذجًا مقلقًا مفاده أن القوى الخارجية — وخاصة الولايات المتحدة — قد تلجأ مستقبلًا إلى تدبير انقلابات عسكرية استباقية كلما استشعرت اقتراب فوز مرشح لا يخدم أجنداتها أو لا يود البقاء ضمن فلك تحالفاتها. وهو ما سيجعل حتى الانتخابات الديمقراطية التي تطالب بها المؤسسات المدنية والشعوب الأفريقية، التي أنهكتها الانقلابات العسكرية، غير ذات جدوى، طالما يمكن لأي ضابط تدبير انقلاب إذا ما لمس من المرشح الأوفر حظًا ميلًا إلى تحالفات دول