يعد النظام العالمي لتحديد المواقع (GPS) أحد أبرز الإنجازات التكنولوجية التي تفخر بها الولايات المتحدة، حيث غيّر بشكل جذري أساليب الحروب، وطرق عمل الشركات، وأساليب الحياة اليومية. ومع ذلك، بات هذا النظام يمثل نقطة ضعف كبيرة في ظل التحديات الحالية.
منذ أن تم إتاحته للاستخدام المدني الكامل في عام 2000، أصبح نظام GPS جزءاً لا يتجزأ من الحياة الحديثة، حيث يعتمد عليه أكثر من 4 مليارات مستخدم حول العالم في تحديد المواقع والملاحة. يتولى النظام توجيه الصواريخ والطائرات، كما تعتمد عليه البنوك في إدارة المعاملات بدقة. وفي ظل التطورات التكنولوجية مثل الطائرات بدون طيار والسيارات ذاتية القيادة، تزداد أهمية هذا النظام.
يوجه النظام الصواريخ إلى أهدافها والطائرات إلى وجهاتها. وتعتمد البنوك على مواقيته الدقيقة لمعالجة المعاملات. وهو نظام شديد الأهمية لشبكات الطاقة والهاتف الخلوي وخدمات الطوارئ وتطبيقات أخرى لا حصر لها. وقد يكلف انقطاعه لفترة طويلة أكثر من مليار دولار في اليوم. ومع ظهور حرب الطائرات بدون طيار والتقنيات الجديدة مثل السيارات ذاتية القيادة، سيصبح نظام تحديد المواقع العالمي أكثر حيوية.
في الوقت نفسه، تتزايد مخاطر الأعطال. فقد شحذت الصين وروسيا قدراتهما على تعطيل الأقمار الصناعية الأميركية باستخدام الصواريخ والليزر والهجمات السيبرانية وحتى الأقمار الصناعية الأخرى.
التشويش وانتحال النظام
أثبتت روسيا في أوكرانيا مدى سهولة التشويش على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي، مما أدى إلى إبعاد الطائرات المسيرة والذخائر الموجهة عن الهدف بشكل كبير. والأدهى من ذلك أن العديد من الدول تقوم الآن “بانتحال” نظام تحديد المواقع العالمي بانتظام لإرسال إشارات خاطئة، ودفع السفن والطائرات إلى الاعتقاد بأنها في موقع آخر تماماً. أثرت مثل هذه الحوادث على الطيران المدني وحركة الشحن من بحر الصين الشرقي إلى شرق البحر الأبيض المتوسط.
وعلى الرغم من أن منافسي الولايات المتحدة يعتمدون على أنظمة الملاحة القائمة على الأقمار الصناعية الخاصة بهم، فهي تتعرض للخطر بشكل خاص بسبب نقص البدائل. وحذّر مجلس استشاري يشرف على نظام تحديد المواقع العالمي العام الماضي من أن النظام أصبح الآن “أضعف كثيراً” من شبكة “بايدو” (BeiDou) الصينية الأكبر حجماً، والتي تتمتع بتغطية ودقة أفضل من نظام تحديد المواقع العالمي في أجزاء كثيرة من العالم. والأهم من ذلك أن كلاً من روسيا والصين لديهما نسخ احتياطية أرضية.
صناع السياسة في الولايات المتحدة ليسوا غافلين عن هذا الخطر، إذ بدأ البنتاغون في إطلاق أقمار صناعية قادرة على بث إشارة عسكرية مشفرة ومقاومة للتشويش، والمعروفة باسم “M-code”، منذ ما يقرب من 20 عاماً. ومع ذلك، لا تزال التأخيرات تعصف بالبرنامج. فقد تأخر تطوير المحطات الأرضية اللازمة لتشغيل النظام الجديد أكثر من سبع سنوات عن الجدول الزمني المحدد، في حين تضخمت التكاليف بنسبة 73% متجاوزة التقديرات.
سيتطلب حوالي 700 نظام من نظم الأسلحة أكثر من مليون جهاز استقبال جديد، وما زالت قيد التطوير، قبل أن تتمكن من معالجة إشارات “M-code”. وفي الوقت نفسه، تخلت الولايات المتحدة فعلياً عن شبكتها الأرضية من المنارات اللاسلكية الخاصة بها، والتي كان من الممكن أن تعمل بمثابة نسخة احتياطية لنظام تحديد المواقع العالمي في 2009.
مواجهة المشكلة في حاجة لقيادة
إصلاح هذه المشكلة سيحتاج إلى قيادة. ينبغي على الكونجرس أن ينظر في إسناد سلطة نظام تحديد المواقع العالمي إلى مكتب مركزي، بدلاً من الوكالات المتعددة التي تتقاسم المسؤولية الآن. كما يجب عليه أن يضمن حصول القوة الفضائية “Space Force” على الميزانية اللازمة لتطوير دفاعات الأقمار الصناعية وقدرات “الفضاء المضاد”، والمطالبة بمساءلة أكبر عن كارثة الإشارة “M-code”.
في الوقت نفسه، يجب على الولايات المتحدة أن تتعاون مع حلفائها في أوروبا وآسيا الذين يستخدمون أنظمة تحديد المواقع الخاصة بهم، سواء في الفضاء أو على الأرض، لتعزيز قدراتهم المشتركة على الصمود في مواجهة التعطيل.
أما بالنسبة للنسخ الاحتياطية لنظام تحديد المواقع العالمي، فإن تنقية الإشارة المدنية المعروفة باسم “L5” للاستخدام على نطاق أوسع ومراجعة ضوابط مراقبة الصادرات للسماح ببيع هوائيات التكيف من شأنه أن يمنح الشركات أداتين فوريتين للمساعدة في مكافحة التشويش والانتحال. كما يجب أن تكون إعادة إنشاء شبكة أرضية من الأبراج الملاحية محل الدراسة والتفكير.
أخيراً، تحتاج الولايات المتحدة إلى الاستفادة من ريادتها في الابتكار في القطاع الخاص. فالشركات تستكشف بالفعل طرقاً بديلة لتوفير معلومات عن الموقع والملاحة والتوقيت باستخدام مجموعات جديدة من الأقمار الصناعية في المدار الأرضي المنخفض، وخرائط تفصيلية للتضاريس، وأجهزة استشعار كمية، وتقنيات أكثر إثارة وغرابة.
يمكن للهيئات التنظيمية أن تحفز مشغلي البنية التحتية الحيوية، أو تشترط عليها توفير مثل هذه النسخ الاحتياطية، الأمر الذي من شأنه أن يحفز الطلب بشكل أكثر فعالية بكثير من المنح القليلة التي قدمها البنتاغون حتى الآن. يمكن أن تقدم الإدارات الحكومية مثالاً يُحتذى به من خلال شراء هذه البدائل بنفسها.
لا توجد تقنية واحدة يمكن أن توفر حماية مثالية. وأفضل ما يمكن أن تأمله الولايات المتحدة هو دفاع متعدد الطبقات يردع أعداءها. وقد حان الوقت للبدء في بنائه الآن.
بلومبرغ