بنجلاديش في خضم تغيير سياسي: هل يؤدي لتغيير في معادلة النفوذ الدولي والإقليمي في البلاد؟

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
08/10/2024
شارك المقالة

بعد 5 أسابيع من اندلاع الاحتجاجات الطلابية في جامعة “دكا” أعرق جامعات العاصمة البنجالية، والتي سرعان ما تطورت إلى حركة احتجاجية طلابية وشعبية عارمة، اضطرت رئيسة الوزراء، الشيخة حسينة واجد (71 عاما) للهرب عبر مروحية خاصة إلى نيودلهي في الخامس من أغسطس الجاري، بعد اقتحام المتظاهرين لمبنى رئاسة الوزراء وخروج الأوضاع الأمنية في البلاد عن السيطرة بعد اشتباكات دامية بين قوات الشرطة والمتظاهرين يُقدر عدد ضحاياها بحوالي 400 قتيلا على الأقل.

كانت التظاهرات قد انطلقت على خلفية قرار المحكمة العليا في البلاد، 5 يونيو 2024، بإعادة العمل بقانون “الحصص” في الوظائف العامة والذي يقضي بتخصيص حوالي 56٪ من تلك الوظائف لشرائح محدودة من المواطنين، أهمهم أبناء المحاربين القدامى وأبناء القيادات العسكرية الذي شاركوا في حرب استقلال بنجلاديش عن باكستان (1971)، ويُنظر إلى هؤلاء من قبل المحتجين على أنهم فئة لا تتجاوز كسور عشرية من عدد السكان، كما أنهم لا يحظون بأية مميزات خاصة فهم لم يشاركوا في حروب، ولم يروا حروبا في حياتهم، ولا يشاركون الآن في أية أدوار وطنية خاصة.

لا يمكن تفسير اندلاع التظاهرات وتصاعدها إلى هذا الحد بمجرد الغضب من إقرار قانون “الحصص”، ولكن ثمة تاريخ متراكم طيلة 16عاما من حكم الشيخة حسينة، بعد عودتها الثانية للحكم في 2008، يتضمن سجلا حافلا بالاستبداد السياسي والإقصاء الدموي لمعارضيها، فضلا عن تردي الأوضاع المعيشية للبلاد في بلد يعاني فيه شاب من كل ثمانية شباب من البطالة ويتنافس فيه 400 ألف خريج جامعي سنويا على 3000 وظيفة عامة أرادت حسنة واجد تخصيص النسبة الكبرى منها لفئات يُنظر إليها على أنها الأكثر دعما لحكمها، مما يمكن اعتباره نوعا من الرشاوى السياسية.

تتجاوز هذه الورقة السياسية المحلية في بنجلاديش، وتبحث في سؤال يتعلق بالموقع الجيوسياسي بالغ الأهمية الذي تحتله بنجلاديش في ميزان الصراع الدولي والإقليمي في جنوب وجنوب شرق آسيا. حيث تقع بنجلاديش في قلب خطوط التماس الحيوية لصراع النفوذ الهندي – الصيني، والأمريكي – الصيني، والهندي – الباكستاني، والروسي – الغربي، مما يجعل هذا البلد المتوسط مساحة (148 ألف كيلومتر مربعا)، والمكتظ بالسكان (147 مليون نسمة)، يحظى بأهمية جيوسياسية بالغة. تُقدم الورقة تحليلا لمصفوفة الصراع على النفوذ في بنجلاديش وتقييم هذا النفوذ، وتعرج على فرص واحتمالات حدوث تغير في معادلة النفوذ الخارجي بعد التغيير الحادث في البلاد.

بنجلاديش: حتميات الجغرافيا والتاريخ

تقع بنجلاديش على ساحل خليج البنغال، الذي تتقاسمه 5 دول هي: تايلاند، إندونيسيا، ميانمار، سريلانكا، الهند التي تُعد أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، وبنغلاديش ثامن أكبر دولة من حيث عدد السكان. ويُعتبر خليج البنغال واحدا من أهم العقد المائية في آسيا، حيث يربط دول جنوب شرق آسيا مع جنوبها في فضاء مائي واحد، ويتحكم في بعض أهم خطوط التجارة البحرية الرئيسية التي تؤدي إلى خليج ملقا وبحر الصين الجنوبي.

تاريخيا؛ اعتُبرت بنجلاديش جزءا من باكستان وأطلق عليها باكستان الشرقية، بعد الانسحاب البريطاني من الهند. ولأسباب عرقية تصاعدت تدريجيا؛ استقلت باكستان الشرقية التي صارت تسمى بنجلاديش (عام 1971)، والمهم تاريخيا أن حرب استقلال بنجلاديش كانت حربا بين الهند وباكستان بالأساس، فتدخلات الجيش الهندي لدعم استقلال بنجلاديش كانت بمثابة اللحظات الحاسمة في حرب الاستقلال، مما فرض على الدولة الوليدة ارتباطات حتمية بالسياسة الهندية لاحقا، هذا الارتباط القسري بالهندي تعبر عنه الجغرافيا كما يعبر عنه التاريخ، فبنجلاديش تقع جغرافيا في حُضن الهند تماما، حيث تحيط بها الحدود الهندية بطول 142 ألف كيلو متر، ولا تتصل بدول أخرى غير ميانمار عبر حدود قصيرة في أقصى الجنوب الشرقي لا تتجاوز 271 كيلو متر.

موقع بنجلاديش وضعها في مرمى الاستهداف السياسي والجيوستراتيجي من كافة القوى التي باتت تتنافس بشكل متصاعد على النفوذ في منطقة تعتبرها لها الولايات المتحدة سوف تحدد مصير النظام العالمي، وتعتقد بأن هيمنة الصين إقليميا في تلك المنطقة سيكون الخطوة الأولى لتحولها إلى قوة عالمية منافسة لهيمنة الولايات المتحدة، ولذا فإن قطع الطريق على الهيمنة الإقليمية للصين يُعد بمثابة خطوة استباقية تحول دون تحولها لقوة عالمية من وجهة نظر الولايات المتحدة، وتستعين في تحقيق استراتيجيتها لتطويق الصين بحلفائها الآسيويين وفي مقدمتهم الهند. في حين تبدو الصين أيضا مدركة لأهمية تمتين نفوذها الإقليمي في طريق صعودها العالمي، وعازمة على الاستمرار في تمددها الهادئ والمطرد في المنطقة.

 تحليل التنافس الدولي في بنجلاديش:

شهدت السنوات الأخيرة بعد تصاعد الحرب الباردة الصينية – الأمريكية، واندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، أهمية متزايدة لعدة دول متوسطة داخل النسق الإقليمي في جنوب آسيا ومن ضمنها بنجلاديش، ويمكن رصد ملامح مصفوفة المصالح والتدخلات الخارجية لدى بنجلاديش فيما يلي:

أولا: الهند

ظلت الهند لعقود تعتبر بنجلاديش فضاء جيوسياسيا ملحقا بها، وتنظر لعلاقتها معها بارتياح شديد باعتبارها أحد نطاقات نفوذها الرئيسية في جنوب آسيا. كما أن حكومة الشيخة حسينة تحديدا كانت الأكثر تحمسا لتطوير العلاقات بين البلدين، وحتى الشهور الأخيرة من حكمها اتفقت حسينة واجد مع رئيس الوزراء الهندي، ناريندا مودي، علي تطوير العلاقات الدفاعية بن البلدين، كما قفز حجم التجارة بين البلدين في عهد حسينة من 2  مليار عام 2007  إلى 14 مليار دولار في عام 2022.

كما أنه من الناحية الاستراتيجية؛ توافقت سياسات كل من مودي وحسينة في الموقف الإقصائي تجاه الحركات والجماعات الأيديولوجية الإسلامية، حيث دعمت الهند سياسات الشيخة حسينة الدموية ضد الجماعات الإسلامية التي اعتبرها كلاهما تهديدا قوميا. لكن من جانب آخر؛ تسببت هذه السياسات في تصاعد العداء الشعبي في بنجلاديش ضد الهند، خاصة مع زيادة التطرف الهندوسي ضد المسلمين في الهند والذي يرعاه حزب “بهاراتيا جاناتيا” الذي يرأسه أندرينا مودي. تجلى هذا العداء في مناسبات عديدة مثل التظاهر ضد زيارة مودي لبنجلاديش للاحتفال باستقلالها في مارس 2021. وسيتصاعد هذا الشعور الشعبي المعادي بعد استقبال الهند لحسنة واجد مؤخرا.

ثانيا: الصين

شهدت السنوات الأخيرة توسعا للنفوذ الاقتصادي والجيوسياسي الصيني في مناطق النفوذ التقليدية للهند، التي تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية شريكا استراتيجيا لمحاصرة الصعود الصيني في آسيا، حيث فاجأت الصين الهند خلال شهر مارس من العام الجاري بتوقيع اتفاقية دفاع مشترك مع جزر المالديف، مما شكل حسما للتنافس على النفوذ في تلك الجزر الحيوية انتهى بقيام الرئيس المالديفي، محمد مويزو، بطرد القوات الهندية العاملة في بلاده، كما أدت الاحتجاجات في سريلانكا عام2022  لتغيرات في المزاج السياسي تجاه الصين بدلا من الهند. ومن المحتمل أن يؤدي التغيير في بنجلاديش أيضا لنتائج مماثلة أو على الأقل سوف تسعى الصين لذلك.

يذكر أن حسينة واجد، خلال السنوات الأخيرة، كانت قد طورت من علاقات بلادها بالصين، ولكن بصورة محسوبة لا تؤدي لإثارة حساسية الهند تجاهها. فانضمت لمبادرة الحزام والطريق الصينية في 2015، وقبلت تمويل الصين لمشاريع بنية تحتية أهمها جسر بادما، أطول جسر في البلاد، والذي اعتبرت الصين أنه سيضم لاحقا شبكة سكة حديد تتصل بمشاريع مبادرة الحزام والطريق لتكون رابطا مهما بين الصين وشبكة السكك الحديدية في عموم آسيا. ومع ذلك؛ ترددت حسينة في تنفيذ مشروع بناء قاعدة بحرية صينية في جزيرة سوناديا، التي كانت ستضيف بعدا استراتيجيا مهما في خطوات الصين لتطويق الهند بحريا عبر شبكة من الموانئ في عدد من الدول القريبة تسميها الصين “عقد اللآلئ”. أخذت حسينة في اعتبارها المخاوف الحادة التي ستثيرها تلك الخطوة لدى كل من الهند والولايات المتحدة، ولذا يمكن القول بأن بنجلاديش حتى لحظة ما قبل هروب حسينة كانت جزءا من محور الهند.

ثالثا: باكستان

العقلية الاستراتيجية الباكستانية لا تستطيع تجاوز أن بنجلاديش نشأت نتيجة انفصال قهري عنها، و أنها كانت ولا تزال أحد أدوات الهند في صراعها التاريخي مع باكستان. كما أن حسينة واجد، تحديدا، لها خصوصية في هذا العداء التاريخي، فهى ابنة الزعيم الانفصالي والرئيس الأول لبنجلاديش، الشيخ مجيب الرحمن. كما ازدادت علاقات حسينة بباكستان سوءا خلال السنوات الأخيرة بسبب أحكام الإعدام التي طالت عددا من قيادات الجماعة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني على خلفية قضايا سياسية اتهموا فيها بدعم الجيش الباكستاني في حرب الانفصال. وبصرف النظر عن صحة الاتهامات التي هي في الأغلب ملفقة إلا أن ثمة شعور متنامي في بنجلاديش خاصة في الأوساط المتدينة بأن حركة الانفصال كانت بالأساس مؤامرة هندية، وأن الهند استفادت منها أكثر مما استفاد الشعب البنجالي نفسه.

رحبت باكستان وأبدت حفاوة باستقبال التغيير في بنجلاديش وهروب حسينة واجد، وربما تراهن على احتمالات مستقبلية في بنجلاديش تجعلها أقرب لها من أي وقت مضى، خاصة في ظل احتمالات الصعود السياسي لقيادات الجماعة الإسلامية والمؤتمر الوطني المعاديان للتدخل الهندي في البلاد.

رابعا: الولايات المتحدة الأمريكية

أظهرت الولايات المتحدة بعد إعلان استراتيجيتها في 2016 لمنطقة ما وراء المحيطين الهندي والهادي، اهتماما بالغا بالقُوى المتوسطة في جنوب آسيا، في إطار استراتيجية لتطويق النفوذ الصيني ومنعها من التحول لقوة إقليمية. في هذا السياق؛ كانت بنجلاديش من أكبر الدول المتلقية للمساعدات الأمريكية في آسيا، كما تعتمد في جزء كبير من مواردها المالية علي عائدات التصدير للمنتجات الأمريكية خاصة في صناعات النسيج والملابس. كما دعمت الولايات المتحدة خطوات حلفائها الإقليميين في شرق آسيا، مثل اليابان، لتقديم الدعم المالي لمشروعات بنية تحتية في بنجلاديش من بينها ميناء “هارتباري”.

 

خامسا: روسيا

مثلت بنجلاديش بالنسبة لروسيا فرصة مهمة لمعارضة النفوذ الغربي في نطاقها الجنوبي، فطورت علاقتها بها بشكل متصاعد منذ 2013، فمولت إنشاء المحطة الوحيدة للطاقة النووية في البلاد، محطة “روبور”، بقيمة بلغت 12.65 مليار دولار أمريكي، تتحمل موسكو 90% منها، عبر قروض تغطي غالبية تكاليف إنشاء وتطوير المحطة.

ظهر التأثير السياسي الكبير لموسكو لدى صانع القرار في دكّا، بشكلٍ لافت، عندما امتنعت عن التصويت على مشروع قرار أممي يدين العملية العسكرية الروسية علي أوكرانيا، من بين 35 دولة فقط امتنعت عن التصويت. كما اعتمدت بنجلاديش في 17 أبريل الماضي، اتفاقا يتم بموجبه اعتماد “اليوان” الصيني لسداد القرض لبناء محطة “روبور”. وسيستلم الروس المدفوعات باستخدام نظام الدفع الصيني عبر الحدود بين البنوك CIPS، وهو بديل لنظام SWIFT لمدفوعات اليوان، مما يمثل تحديا، ولو محدودا، للعقوبات الأمريكية.

ويظهر من ذلك أن نظام حسينة واجد أراد، بشكل ما، الاستفادة من التنافس المحموم باتجاه بلادها، عبر تقارب محسوب مع كل الأطراف، بما لا يثير حفيظة حليفها الرئيسي في الهند.

سيناريوهات تغير خريطة النفوذ الدولي في بنجلادش:

السيناريو الأول:

استمرار الأوضاع على ما كانت عليه، ويعزز فرص هذا السيناريو أن قائد الجيش البنجالي، الجنرال وقر الزمان، يتشارك مع رئيسة الوزراء الهاربة حسينة واجد، في تصوراته للعلاقة مع الهند، ومن المتوقع أن تكون غالبية قيادات المؤسسة العسكرية البنجالية أيضا تنتمي لهذا التصور، لاعتبارات قومية تتعلق بموروث حرب الاستقلال ودور الهند فيها. وترتفع احتمالية السيناريو حين الأخذ في الاعتبار الدور البارز للجيش البنجالي في السياسة خاصة في عقدي ما بعد الاستقلال، والذي من المحتمل أن تسعى قيادات عسكرية لاستعادته، كما أن الهيمنة العميق للهند ليس من المتصور أن تقدر حكومة جديدة في بنجلاديش على الانفكاك منه بصورة سهلة وهادئة.

السيناريو الثاني:

محاولة الانفكاك من النفوذ الهندي في بنجلاديش لصالح التوجه نحو الصين وبدائل أخرى، يدفع في اتجاه ترجيح هذا السيناريو تصاعد العداء الشعبي للهند بسبب السياسات القومية العدائية ضد المسلمين، وبسبب دعم الهند المتواصل لسياسات حسينة واجد واستقبالها بعد فرارها من البلاد، بما يمثل ضغطا على أي حكومة قادمة. كما أن الصين ستسعى بكل جدية لتقديم المساعدات المالية السخية للنظام الانتقالي في بنجلاديش في فترة حرجة ستمر بها البلاد، والتي ستكون مساعدات إنمائية واقتصادية حيوية كعادة الصين في اكتساب النفوذ، وستزداد فرص هذا السيناريو في حال صعود قيادات من الجماعة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني لصناعة السياسة في البلاد. بينما سيصطدم هذا السيناريو بمعارضة هندية شرسة يُتوقع أن تستغل استضافتها لرئيسة الوزراء الهاربة للتأثير في مجريات المرحلة الانتقالية والتعاون مع بقايا قيادات نظامها الأمني والعسكري لضبط التحول في البلاد، وهذا السيناريو المعقد يبدو حتى الآن أكثر احتمالا من السيناريو السابق.

في كل الأحوال؛ ستكون أمام بنجلاديش مرحلة انتقالية حرجة، لا يُتوقع أن تستسلم الهند والولايات المتحدة بسهولة للتغيير الذي قد يؤدي لاختلال جديد في موازين القوى لصالح النفوذ الصيني المطرد والمتنامي، كما أن قدرات المجتمع البنجالي والدولة الهشة على الصمود وفرض الإرادة تواجهها صعوبات اقتصادية وجغرافية معقدة.

شارك المقالة

اشترك في نشرتنا الاخبارية