حقق حزب العمال البريطاني، انتصاراً ساحقاً في الانتخابات التشريعية التي شهدتها بريطانيا الخميس الرابع من يوليو/ تموز 2024، برئاسة كير ستارمر، بعد حصوله على 410 مقعد في مجلس العموم البريطاني، المكون من 650 مقعداً، وهو ما يعني حصول الحزب الغائب عن مقاعد السلطة منذ 14 عاماً على أغلبية برلمانية هي الأكبر لأي حزب حاكم خلال الربع قرن الأخير من تاريخ بريطانيا.
ففي انتخابات عام 2019، انتزع المحافظون، بقيادة بوريس جونسون، مناطق الطبقة العاملة التقليدية من حزب العمال، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن الناخبين في تلك المناطق كانوا على استعداد لدعمه لإكمال مشوار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكان حزب العمال بحاجة إلى ما يشبه المعجزة السياسية كي يفوز في الانتخابات بأغلبية بسيطة (50% + 1) (أي 326 مقعداً)، لكن الحزب حقق ما هو أكبر من المعجزة، مستفيداً من تحول تركيز الناخبين إلى الأداء الاقتصادي الضعيف للمحافظين منذ عام 2016.
لكن الزاوية الأهم في هذا الحدث، تتمثل في شخصية الزعيم الجديد لحزب العمال، صاحب الدور الأكبر في تحقيق هذا الإنجاز وهو كير ستارمر، الذي نجح في تغيير توجهات الحزب وتحويله من اليسار الواضح إلى يسار الوسط حتى يعيد الزخم للحزب، ويعيد بناء صورته الذهنية، فقد تبنى الدفاع عن العديد من القضايا خاصة فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي وقضايا العمل التي تراجع فيها عن موقف الحزب المعروف من الدعم المطلق إلى الدعم المشروط للعمال، كما تبني خطابًا داعمًا لرجال الأعمال، وغيَّر موقف حزبه من القضية الفلسطينية.
وقد تولى ستارمر قيادة حزب “العمال” خلفًا لجيريمي كوربين بعد أن تعرض الحزب في 2019 لأسوأ هزيمة له منذ عام 1935، الأمر الذي أجبر جيريمي كوربين على الاستقالة، وفاز ستارمر بقيادة حزب العمال بأجندة يسارية ركزت على تأميم شركات خدمات الطاقة والمياه، والتعليم الجامعي المجاني، ثم قرر ستارمر تعليق عضوية جيريمي كوربين في حزب العمال بسبب الخلاف حول التقرير الخاص بالتصدي لمعاداة السامية داخل الحزب خلال فترة قيادة كوربين.
لقد اكتسب ستارمر شخصيته السياسية وحضوره المؤثر من تخصصه، بعد حصوله على شهادة المحاماة، في الدفاع عن حقوق الإنسان، وعن النقابات المهنية ومكافحة عقوبة الإعدام، كما عمل على اتخاذ إجراءات قانونية ضد انتهاكات حقوق الإنسان خلال الصراع في إيرلندا الشمالية 1968 – 1998 وساهم عام 2000 في إنشاء قوة شرطة جديدة لحفظ السلام، وفي 2008، أصبح مدعيًا عاما لإنجلترا وويلز، وأشرف على ملاحقات قضائية طالت نوابا متهمين بالاختلاس وصحافيين متهمين بالتنصت على الهواتف، وحاز على وسام “الفارس” في 2014 من الملكة إليزابيث الثانية تكريما لمسيرته القانونية الطويلة.
وقد تعهد ستارمر بقيادة إدارة صارمة للإنفاق العام، دون زيادة الضرائب، والعمل على استعادة الاستقرار والتوسع في استثمارات البنية التحتية لإنعاش النمو، وتصحيح وضع المرافق العامة التي تراجع أداؤها منذ إجراءات التقشف في أوائل 2010.
إن قيادة ستارمر لحزب العمال، وتحقيق هذا الانتصار الكاسح لليسار من شأنه أن يساهم في إعادة صياغة الكيفية التي يمكن بها للتقدميين الفوز في الانتخابات الوطنية، ورفع سقف ما يمكن أن يحققه الديمقراطيون الاشتراكيون (اليسار)؛ فهذا الانتصار من شأنه أن يعيد تشكيل السياسة البريطانية بطرق جديدة وغير متوقعة قد تكون أكثر أهمية من النصر نفسه؛ بجانب السعي نحو إعادة هيكلة توجهات السياسة الخارجية البريطانية، وخاصة في علاقاتها بالدول الكبرى، وكذلك مع الاتحاد الأوروبي، بجانب الموقف من الأزمات الدولية والإقليمية التي يشهدها العالم المعاصر.
إن أحد أسباب فوز ستارمر التركيز على النتائج وليس فقط الاعتماد على “الشعارات الأخلاقية”، وبخاصة في قضايا الحرب الثقافية مثل حقوق المتحولين جنسياً وماضي بريطانيا الاستعماري وملف الهجرة، وغيرها من قضايا حاول اليمين البريطاني توظيفها، وتعهد ستارمر، بإلغاء خطة “ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا”، وارتكز في تعهده على أساس التطبيق العملي لهذه الخطة، وليس انطلاقا من التعهد الأخلاقي الأوسع.
لقد كان لشخصية ستارمر دوراً بارزاً في هذا التحول الكبير الذي شهده حزب العمال، فقد وضع ستارمر خلفيته الأسرية المتواضعة في مركز الصدارة في الحملة الانتخابية في المملكة المتحدة وتحدث عن السقف الطبقي السائد في المجتمع البريطاني، وكان لهذا التركيز على النشأة والأصول تأثيره الكبير على جمهوره، حيث كان يردد في الكثير من المناسبات قوله: “كان والدي صانع أدوات، وكان يعمل في مصنع، وكانت أمي ممرضة. لم يكن لدينا الكثير عندما كنا نكبر. ومثلي مثل الملايين من أطفال الطبقة العاملة الآن، نشأت في ظل أزمة تكاليف المعيشة. أعرف ما هو شعورك بالحرج عندما تقوم بإحضار زملائك إلى المنزل لأن السجادة رثة والنوافذ متصدعة”.
لقد نشأ ستارمر في بيت مؤيد لحزب العمال، بل إن والده قرر أن يطلق عليه اسم كير؛ تيمنا بالزعيم السياسي العمالي “كير هاردي”، الذي كان من قيادات الحزب، والذي كان معروفا بدفاعه عن العدالة الاجتماعية والدفاع عن الطبقة العاملة، ويقول ستارمر، إن “كير هاردي” كان من الشخصيات التي ألهمته دراسة القانون والدفاع عن قيم العدالة.
وبعد النجاح الكبير الذي حققه في منصبه رئيسا للنيابة العامة الملكية، أصبح شخصية عامة تحظى باحترام الرأي العام البريطاني، الأمر الذي شجعه على الترشح للانتخابات البرلمانية باسم حزب العمال سنة 2015 في منطقة هولبورن سانت بانكراس، وبالفعل نجح في الفوز بالمقعد، وارتقى في المناصب داخل حزب العمال، حيث تم تعيينه وزيرا للهجرة في حكومة الظل سنة 2015 وبعدها وزيرا مكلفا بالخروج من الاتحاد الأوروبي في حكومة الظل، وهذا المنصب جعله صوتًا مسموعًا ومشاركًا قويًا في كل النقاشات المتعلقة بهذا الملف، وكان من أنصار إجراء استفتاء جديد حول الانسحاب والإبقاء على علاقات قوية مع الاتحاد الأوروبي.
وبعد إعادة انتخابه في دائرته الانتخابية شمال لندن، وقف ستارمر موجهًا رسالته ليس فقط للمحافظين في بريطانيا، ولكن لليسار في كل الدول الأوروبية، قائلاً: “الناخبون هنا وفي كل أنحاء البلاد قالوا كلمتهم، وهم مستعدون للتغيير ولإنهاء سياسة الاستعراض، وللعودة إلى السياسة بوصفها خدمة للجمهور”.
ويبدأ رحلته رئيسًا للوزراء، بعد تكليفه رسميًا من الملك تشارلز، في الخامس من يوليو/ تموز 2024، في مرحلة شديدة الأهمية ليس فقط في تاريخ بريطانيا، بل في تاريخ القارة الأوروبية، إن لم يكن في تاريخ العالم في ظل صعود اليمين في أوروبا، وتداعيات الحرب الروسية ـ الأوكرانية المستمرة من فبراير 2022، وكذلك اشتداد حدة الصراع على قمة النظام الدولي بين كل من روسيا الاتحادية والصين الشعبية والولايات المتحدة الأمريكية.