استراحة بين حربين: نحو نقطة اللاعودة في المواجهة بين إسرائيل وحزب الله

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
11/10/2025
شارك المقالة

مقدمة:

ما يجري اليوم على حدود لبنان الجنوبية ليس مجرد جولة تصعيد جديدة في السجال التقليدي بين إسرائيل وحزب الله، ولا مجرد لعبة ضغط دبلوماسي – عسكري هدفها الحصري نزع سلاح الحزب وفق القرار 1701 أو غيره من الصيغ المطروحة. إن توصيف اللحظة الراهنة بأنها «استراحة بين حربين» صار أقرب إلى الواقع من أي وقت مضى، لكن الأهم من ذلك هو إدراك طبيعة الحرب المقبلة فهي ليست حرباً على الجنوب اللبناني، بل حلقة مفصلية في مشروع أشمل يهدف إلى إعادة هندسة ميزان القوى في الشرق الأوسط على نحو يجعل من إسرائيل قوة مهيمنة إقليمياً وامتداداً مباشراً للهيمنة الأميركية، بما يسمح لواشنطن بإعادة توزيع ثقلها الاستراتيجي نحو بحر الصين الجنوبي في مواجهة بكين، وإلى الجبهة الأوكرانية في مواجهة موسكو.

في هذا السياق، تصبح عملية «طوفان الأقصى» وحرب الإبادة في غزة نقطة انعطاف تاريخية لا من حيث الكلفة الإنسانية وحسب، بل من حيث أنها شكلت المختبر الأول لصيغة «الردع المتدرّج» التي اعتمدها محور المقاومة، وخصوصاً إيران وحزب الله، في مواجهة حرب شاملة كانت تنفَّذ على غزة مع الحفاظ على قواعد اشتباك مضبوطة على الجبهات الأخرى. اليوم يبدو أن واشنطن وتل أبيب تحاولان استثمار خلاصة تلك التجربة للبناء عليها في معركة جديدة يُفترض أن تبدأ من لبنان، ولا تنتهي قبل نقل خطوط الاشتباك إلى حدود إيران نفسها.

من هنا، فإن السؤال المركزي ليس ما إذا كانت إسرائيل ستهاجم لبنان، بل أيّ نمط من أنماط التدخل سيختاره محور المقاومة هذه المرة؟ هل سيُعاد إنتاج معادلة «الإسناد المحدود» التي طبعت مرحلة ما بعد طوفان الأقصى، أم سنكون أمام تدخّل جماعي مبكر يرفع كلفة الحرب إلى مستوى قد يفرض التراجع عن المشروع في مراحله الجنينة؟

مشروع الهيمنة الأمريكي-الإسرائيلي في الشرق الأوسط

اليوم يقف الشرق الأوسط أمام مشروع إسرائيلي-أمريكي مشترك يسعى إلى تكريس إسرائيل قوةً مهيمنة في المنطقة. تتعامل واشنطن مع تل أبيب كامتداد إستراتيجي لمصالحها الإقليمية، بهدف أن تتولى إسرائيل دور الوكيل الذي يضمن النفوذ الأمريكي بينما تُفرغ الولايات المتحدة قدراتها لمقارعة خصوم عالميين في ساحات أخرى، وعلى رأسها احتواء الصين في بحر الصين الجنوبي وإضعاف روسيا عبر حرب الاستنزاف في أوكرانيا. ضمن هذا التصور، يصبح تحجيم قوى المقاومة في الشرق الأوسط ضرورة لضمان تفوق إسرائيل وهيمنتها.

في هذا السياق، مهّدت التهدئة في غزة الطريق للانتقال إلى الخطوة التالية التي يخطط لها صقور واشنطن وتل أبيب، فيما يُعرف بمشروع “ترمب-نتنياهو لفرض السلام عبر القوة” وجوهرها نزع سلاح حزب الله بالقوة وفرض سيطرة إسرائيلية تامة على جنوب لبنان. ولا يُخفي المخططون أن طموحهم قد يتجاوز ضرب قدرات الحزب إلى السعي نحو احتلال مستدام لأجزاء من الجنوب، فلا يقتصر على المواقع الحدودية التي تحتفظ بها إسرائيل حاليا، بل ربما توسيع التوغل لما هو أبعد إذا سمحت الظروف.

تعتمد واشنطن وتل أبيب مزيجا من الضغط الدبلوماسي والتهديد العسكري للمضي قدما في هذا المشروع. فمن جهة، تُستخدم الدبلوماسية القسرية عبر طرح إنذارات ومطالب، مثل مطالبة الحكومة اللبنانية بتنفيذ التزاماتها بنزع سلاح حزب الله بالتوازي مع التلميح إلى أن البديل سيكون الحسم بالقوة. ومن جهة أخرى، يُلوّح بالخيار العسكري بشكل صارخ. التصريحات الإسرائيلية الرسمية الأخيرة المتوعدة بـ”هجوم غير مسبوق” على لبنان ترافقها تحذيرات أمريكية وجهها وزير الدفاع الأمريكي لنظيره العراقي، تفيد بتحرك عسكري أمريكي وشيك وأن أي تحرك من قبل الفصائل العراقية سيستدعي تدخلا عسكريًا أمريكيا مباشرا. هذا التناغم بين الترهيب السياسي والتهديد العسكري يهدف إلى تهيئة المسرح الإقليمي لعملية ترى فيها واشنطن وتل أبيب فرصة حاسمة لتغيير قواعد اللعبة لصالحهما.

خيارات محور المقاومة: المواجهة الشاملة أم الهزيمة التدريجية؟

الفرضية الإستراتيجية هنا هي أن محور المقاومة (إيران وحلفاؤها) يجد نفسه اليوم في ظرف مشابه لما كان عليه بعد “طوفان الأقصى”. فإثر تلك العملية وما تلاها من حرب إسرائيلية ضارية على غزة، اختار المحور، وتحديدا إيران وحزب الله، عدم الانخراط المباشر في المعركة واكتفى بدور إسنادي محدود عبر مناوشات محسوبة على الحدود اللبنانية. هذه المقاربة الحذرة جنّبت المحور حربا إقليمية شاملة حينها، لكنها في الوقت نفسه أتاحت لإسرائيل تنفيذ ضربات متراكمة استنزفت فصائل المقاومة تدريجيا.

اليوم، إذا كرّر محور المقاومة النهج ذاته وظل متمسكا بقواعد الاشتباك السابقة، أي ترك كل جبهة تواجه مصيرها منفردة وامتناع إيران عن التدخل المباشر، فإنه بذلك يغامر بتجرع هزيمة متدرجة على مراحل. تُظهر الخطط الإسرائيلية سيناريو تصعيد متدحرج يبدأ بضربة قوية لحزب الله في لبنان، ثم ينتقل الزخم العسكري إلى مواجهة الفصائل العراقية على أرض العراق، ومنها إلى تحييد ورقة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، قبل أن يكتمل المشهد باستفراد إسرائيل والولايات المتحدة بإيران نفسها في نهاية المطاف. بعبارة أخرى، الاستفراد بكل حلقة من حلقات المحور على حدة يضمن للطرف المقابل تقليل المخاطر وتجنب حرب شاملة، مما يمكّنه من إضعاف خصومه واحدا تلو الآخر.

في المقابل، يملك محور المقاومة خيارا آخر أكثر مجازفة وربما أقل كلفة إستراتيجية على المدى البعيد؛ يتمثل في توسيع المواجهة لتشمل كل الجبهات بشكل جماعي ومتزامن إذا اندلعت الحرب في لبنان. هذا يعني أن تعتبر قوى المحور معركة حزب الله المقبلة معركتها هي أيضا منذ اللحظة الأولى، فتدخل على خط المواجهة مباشرة، سواء عبر تكثيف عمليات الفصائل العراقية ضد الوجود الأمريكي في المنطقة، أو تصعيد الحوثيين ضرباتهم في جبهة البحر الأحمر وضد إسرائيل نفسها، وربما فتح جبهات أخرى. مثل هذا التحرك الجماعي سيضع خصوم المحور أمام حرب إقليمية شاملة عالية الكلفة منذ البداية، على أمل أن يؤدي ذلك إلى ردع المخطط الأمريكي-الإسرائيلي وإفشاله في مراحله المبكرة.

بطبيعة الحال، قرار كهذا ينطوي على مخاطر هائلة ويعني المجازفة بصدام مباشر مع قوى عظمى. لكن الكلفة الباهظة لحرب متعددة الجبهات قد تكون تحديدا ما سيدفع واشنطن وتل أبيب إلى إعادة الحسابات والتراجع عن مشروعهما إذا أدركتا أن المواجهة لن تبقى محدودة. هكذا يمكن صياغة المعادلة الردعية التي تواجه محور المقاومة فإما التصدي الجماعي الشامل منذ البداية لتحويل الحرب المقبلة إلى مقامرة غير مضمونة النتائج للطرف الآخر، وإما الاستمرار في سياسة ضبط النفس وانتظار كل ساحة على حدة، مما قد يمنح إسرائيل وحلفاءها فرصة التفوق التدريجي وتحقيق أهدافهم خطوة بخطوة.

إسرائيل ومحاكاة إستراتيجية إيران: نحو تطويق طهران

طوال السنوات الماضية عملت إيران عبر حلفائها على الاقتراب من حدود إسرائيل ضمن ما يعرف بعقيدة حلقات النار، بدءا من وجود حزب الله الراسخ جنوب لبنان، مرورا بترسيخ نفوذها في سوريا قبل سقوط نظام بشار الأشد وصولا إلى دعمها لفصائل المقاومة في غزة، وحتى تعزيز أوراقها الإقليمية في ساحات إقليمية كالعراق واليمن. وجدت إسرائيل نفسها أمام طوق ممتد من القوى المتحالفة مع طهران يطوّقها من الشمال والشرق والجنوب، وهو ما اعتبرته تهديدا وجوديا لأمنها القومي.

اليوم تحاول إسرائيل عكس هذه المعادلة عبر نقل المعركة تدريجيا إلى المحيط الإقليمي لإيران نفسها. فإذا نجحت في توجيه ضربة قاصمة لحزب الله وإنهاء خطره في لبنان، فإن المسرح التالي سيكون على الأرجح الساحة العراقية. ستسعى إسرائيل إلى تقويض نفوذ الحشد الشعبي والفصائل الموالية لإيران هناك، وربما تدعم توسيع حضورها الأمني والاستخباراتي داخل العراق وعلى تخوم إيران الغربية. وليس هذا تصورا نظريا؛ فلإسرائيل أصلاً موطئ قدم قريب من إيران عبر تعاون أمني وثيق مع إقليم كردستان العراق وعلاقة إستراتيجية مع أذربيجان في شمال إيران. كما أن انخراطها المتزايد مع بعض دول الخليج يتيح لها وجودا عسكريا واستخباراتيا في الممرات البحرية القريبة من إيران.

بذلك، تسعى إسرائيل إلى تطويق إيران إستراتيجيا خطوة خطوة. كلما أزاحت عقبة إقليمية وانتزعت نفوذا في ساحة معينة، انتقلت إلى التالية مقتربة أكثر من المجال الحيوي الإيراني. ومن الواضح أن إسقاط حلقة حزب الله من سلسلة محور المقاومة يمثل لدى صناع القرار في تل أبيب أولوية قصوى، باعتباره المفتاح الذي سيعبد الطريق نحو شرق أوسط جديد يخضع لمعادلات أمنية جديدة تتصدرها إسرائيل حتى تخوم إيران.

خاتمة

نحن إذا أمام لحظة إقليمية فارقة ستترك بصمتها على خارطة توازن القوى لعقود مقبلة. التصريحات الرسمية في بيروت، التي أكدت أنه لا خيار للبنان سوى التفاوض مع إسرائيل في ظل عجز الدولة عن نزع سلاح حزب الله توحي بأن اللبنانيين يدركون حجم الخطر المقبل وإن كانوا يبدون بلا حيلة أمامه. في المقابل، رفعت إسرائيل مستوى تهديداتها إلى الحد الأقصى؛ من التوعد بهجوم غير مسبوق على لبنان إلى تكثيف الغارات اليومية على مواقع الحزب وبناه التحتية. وفي الوقت نفسه، وجهت واشنطن تحذيرات صريحة إلى حلفاء إيران، مطالبةً بغداد بكبح جماح الفصائل المسلحة تفاديا لاندلاع حرب أوسع، حتى إنها لمحت إلى استعدادها للتفاوض مع طهران لكبح التصعيد ومنع انفلات الأزمة. كل هذه المؤشرات تدل على أن إسرائيل والولايات المتحدة تتحضّران لمنازلة يعتبرانها حاسمة ويريدان حصر نطاقها قدر الإمكان.

إنها بالفعل مواجهة نقطة اللاعودة لكل من إيران وإسرائيل. إذا فخسارة محور المقاومة هذه الجولة يعني فشل مشروع طهران في إبقاء إسرائيل معزولة داخل حدودها، وسيُطلق يد تل أبيب للتغلغل حتى العراق وربما تخوم إيران ذاتها بعد أن تكون قد حطمت أعمدة المحور تباعا لتصل إلى المركز ذاته وتضربه.  الأغلب أن إيران ستحاول تجنب الانخراط المباشر قدر الإمكان وتعتمد في الحرب على الحلفاء، مثل دعم قدرات الحوثيين وتكثيف عمليات الفصائل العراقية، عند اندلاع القتال. لكن تكرار سيناريو ما بعد طوفان الأقصى، حين اقتصر دور المحور على إسناد محدود، قد يفضي إلى نتيجة مماثلة، وهي تسهيل مهمة إسرائيل في إضعاف حزب الله ثم التفرغ لمواجهة إيران لاحقًا.

المشهد برمته مفتوح على احتمالين رئيسيين فإما انفجار إقليمي كبير يفرض واقعا جديدا ويوقف مشروع الهيمنة الإسرائيلية، أو صدام محدود يتم احتواؤه ليغدو محطة نحو ترتيبات إقليمية جديدة تُكرّس اليد العليا لإسرائيل. القرار الذي سيتخذه الطرفان، وكيفية خوضهما للمواجهة المقبلة، هو ما سيحدد أي السيناريوهين سيصبح واقع الشرق الأوسط المقبل.

شارك المقالة
مقالات مشابهة