من بنغازي التي شهدت أولى الغارات الإماراتية في ليبيا، إلى الفاشر التي تتساقط عليها اليوم المسيّرات في السودان، تمتد خيوط مشروع خفيّ يسميه باحثون “محور الانفصاليين”. محورٌ يربط بين ميليشيات ليبية، وسلطات بربرة الانفصالية في الصومال، وقوات الدعم السريع في السودان، ضمن شبكة نفوذ إماراتية تُعيد رسم خرائط المدن قبل الدول، وتحول الجغرافيا العربية والأفريقية إلى رقعٍ متناحرة تُدار بالمال والسلاح تحت شعار مكافحة الإسلاميين، بينما الهدف الأعمق هو تفكيك المفكك وإضعاف مراكز القرار الوطني.
على مدار العقد الأخير، اتبعت الإمارات سياسة خارجية هجومية تتجاوز منطق “النفوذ الهادئ” إلى نهج إمبريالي يقوم على قاعدة “فرّق تسد”. برز هذا التوجه بوضوح في مرحلة ما بعد الثورات العربية عام 2011، حين تصدرت أبوظبي جهود الثورة المضادة لإجهاض التحولات السياسية الناشئة. ومع تراجع أدوار دول عربية محورية كـسوريا ومصر والعراق بعد 2011، وجدت الإمارات في الفراغ الاستراتيجي فرصة لبناء نفوذها الخاص. فحين تعجز عن إقصاء الإسلاميين من الحكم مباشرةً، تلجأ إلى تأجيج الانقسامات الداخلية لإضعاف الدولة من الداخل.
يرى الباحث الفرنسي جان-بيير فيليو أن الإمارات تتبع منذ أكثر من عقد استراتيجية متعمدة لتغذية النزعات الانفصالية وإبقاء بنية الدولة العربية ضعيفة ومفككة. ووصف فيليو محمد بن زايد بأنه “مهندس الفوضى الدائمة”، لتبنيه سياسة تطيل أمد الحروب الأهلية وتكبح التحولات الديمقراطية بغية تحويل الدول إلى كيانات هشة تدور في فلك أبوظبي.
ترتكز رؤية أبوظبي الأمنية على اعتبار الإسلام السياسي الخطر الأول، وهي مستعدة للذهاب إلى حدّ التقسيم حين يعجز حلفاؤها المحليون عن الإمساك بالسلطة. ورغم أن هذه المقاربة تضمن إقصاء خصومها الإسلاميين، فإنها تخدم – بقصد أو من دونه – أجندة أوسع ذات أبعاد غربية وصهيونية، تهدف إلى إعادة هندسة المنطقة سياسياً عبر إضعاف المراكز الوطنية القوية. تنفذ الإمارات هذه السياسة بمزيج من القوة الناعمة(المساعدات والاستثمارات والضغوط الدبلوماسية) والقوة الخشنة (التسليح والتدخلات العسكرية بالوكالة)، ما يمنحها نفوذاً عميقاً في الدول المستهدفة. ولهذا، وصف باحثون هذه المنظومة من التدخلات بأنها “محور الانفصاليين” الذي يربط جماعات مسلحة وشخصيات تدور في فلك أبوظبي بغرض فرض رؤيتها وإضعاف الدولة المركزية.
في ليبيا، تجسّد هذا النهج بوضوح منذ عام 2014 حين انتهكت أبوظبي حظر السلاح الأممي وقدّمت الدعم العسكري والمالي للجنرال خليفة حفتر ضد الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس. استخدمت الإمارات طيرانها الحربي لضرب أهداف في العاصمة، ما عمّق الانقسام بين الشرق والغرب وأفشل جهود الأمم المتحدة لإعادة توحيد البلاد.
وبررت أبوظبي تدخلها بأنه جزء من الحرب على الإرهاب، متهمة حكومة طرابلس باحتضان جماعات متطرفة، لكن هذا الخطاب وفّر غطاءً لاستمرار الصراع. كما فتحت شراكتها مع حفتر الباب أمام تدخل روسي مباشر، إذ تحولت بنغازي إلى منصة تنسيق عسكري بين موسكو وأبوظبي مع انحسار الدور الروسي في سوريا. ورغم فشل حفتر في اقتحام طرابلس عام 2019، واصلت الإمارات دعمه لترسيخ سلطته في الشرق وبعض مناطق الجنوب، محوّلة بنغازي إلى قاعدة نفوذ إقليمي.
كشفت تقارير استخباراتية عن تزويد الإمارات قوات حفتر بمنظومات دفاع جوي إسرائيلية ومعدات متقدمة حصلت عليها من خلال تعاون استخباري ثلاثي (إماراتي-إسرائيلي-أوروبي). النتيجة كانت إطالة أمد الحرب وترسيخ واقع التقسيم الفعلي، لتتحول ليبيا إلى دولة منقسمة المؤسسات وضعيفة السيادة.
في اليمن، تجسدت الاستراتيجية نفسها. فبينما شاركت الإمارات في التحالف الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين عام 2015، ركزت عملياً على بناء نفوذ مستقل في الجنوب. دعمت وسلّحت ميليشيات المجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي، ومكّنته من السيطرة على عدن ومناطق واسعة، وأقصت الحكومة الشرعية من العاصمة المؤقتة عام 2019.
لم يكن هدف أبوظبي استعادة وحدة اليمن، بل إقامة كيان جنوبي موالٍ لها تحت شعار محاربة الحوثيين. سعت كذلك لتقويض نفوذ حزب الإصلاح المحسوب على الإخوان المسلمين، وشكلت قوات محلية خارج سيطرة الدولة مثل “أحزمة الأمن” و”قوات النخبة”، ما خلق جيوشاً موازية. كما بسطت نفوذها على جزيرة سقطرى الاستراتيجية بإدارة عسكرية مباشرة. وبهذا، ساهمت في تحويل اليمن إلى كيانين متناحرين بدل دولة موحدة.
في القرن الأفريقي، ردّت الإمارات على حياد الصومال في أزمة حصار قطر عام 2017 بإيقاف مساعداتها لمقديشو ووقف تمويل رواتب الجنود الصوماليين. وفي 2018، ضبط الأمن الصومالي طائرة إماراتية تحمل عشرة ملايين دولار نقداً، فازدادت القطيعة.
منذ ذلك الحين، وجّهت أبوظبي دعمها نحو الأقاليم الانفصالية، فوقّعت اتفاقاً لإنشاء قاعدة عسكرية وإدارة ميناء بربرة في “أرض الصومال” الانفصالية، في خطوة اعتبرتها مقديشو تمهيداً للاعتراف بالانفصال وتقويضاً لوحدة البلاد. كما وسّعت أنشطتها إلى إقليم بونتلاند عبر عقود لتطوير الموانئ والتعاون الأمني، ما اعتبر تحدياً إضافياً للحكومة المركزية.
أدان البرلمان الأوروبي تلك الممارسات داعياً لاحترام وحدة الصومال، بينما عززت مقديشو تحالفها مع قطر وتركيا لمواجهة النفوذ الإماراتي. فقد استثمرت الدوحة مليارات الدولارات في البنية التحتية الصومالية، وأنشأت أنقرة أكبر قاعدة عسكرية لها خارج حدودها لتدريب الجيش الصومالي. وهكذا، تحول الصومال إلى ساحة تنافس إقليمي بين محور أبوظبي–الرياض ومحور أنقرة–الدوحة.
بعد سقوط نظام عمر البشير عام 2019، سارعت الإمارات والسعودية إلى ضخ ثلاثة مليارات دولار لدعم المجلس العسكري الانتقالي لضمان نفوذهما في مرحلة ما بعد الإسلاميين. أقامت أبوظبي علاقات وثيقة مع البرهان وحميدتي نتيجة مشاركتهما في حرب اليمن، ثم دعمت حميدتي زعيم قوات الدعم السريع ليصبح قوة موازنة للجيش.
استفادت الإمارات من سيطرة حميدتي على مناجم الذهب في دارفور، وسهّلت تهريب المعدن عبر دبي لتمويل ميليشياته. وعندما اندلع الصراع بين الجيش والدعم السريع عام 2023، اتُّهمت أبوظبي بدعم حميدتي بالسلاح والمعلومات، وهو ما أكدته تقارير أميركية وبريطانية حديثة بعد سقوط الفاشر. رفعت حكومة الخرطوم دعوى رسمية تتهم الإمارات بـ“التواطؤ في الإبادة الجماعية”، مع توثيق استخدام طائرات مسيّرة إماراتية ضد المدنيين.
كما ارتبطت أبوظبي بدفع السودان نحو التطبيع مع إسرائيل عام 2020 ضمن اتفاقيات إبراهيم، مستغلة حاجة الخرطوم للدعم المالي ورفعها من قائمة العقوبات، وهو ما يكشف تداخل مشروعها الإقليمي مع الأجندة الإسرائيلية.
تتضح خريطة النفوذ الإماراتي في دول مثل ليبيا واليمن والصومال والسودان، وهي دول كانت على مدى عقود محسوبة على محاور مناوئة لإسرائيل أو داعمة للمقاومة. انهيارها أو تقسيمها يخدم هدفين متوازيين: إضعاف التيارات الإسلامية، وتحييد الخصوم الإقليميين لإسرائيل.
تذكر هذه الوقائع بمشروعات فكرية إسرائيلية قديمة دعت إلى تفتيت الدول العربية إلى كيانات طائفية ومناطقية صغيرة لضمان تفوق تل أبيب. فالمفكر الإسرائيلي عوديد ينون، مثلاً، طرح في الثمانينات خطة “الشرق الأوسط الجديد” التي تقوم على دعم الانقسامات الداخلية. ويبدو أن الواقع الذي تُسهِم الإمارات في صناعته يحقق كثيراً من تلك الرؤى.
حتى في ليبيا، كشفت تقارير عن زيارة سرية أجراها صدام حفتر إلى إسرائيل عام 2021 لبحث التطبيع مقابل دعم عسكري، ما يعكس الترابط بين معسكر الإمارات وتل أبيب في مواجهة محور تركيا–قطر.
بالنسبة لإسرائيل، تفتيت الدول العربية والأفريقية يعني إزالة أي تهديد استراتيجي محتمل وتقليص الدعم العربي للفلسطينيين. والدول الممزقة والمنهكة لا يمكنها مواجهة التوسع الإسرائيلي. أما القوى الغربية، فقد غضّت الطرف عن التدخلات الإماراتية طالما تُرفع تحت شعار “مكافحة الإرهاب” وتخدم أهدافها في تأمين الطاقة والهجرة. وقد حذرت صحيفة لوموند الفرنسية من خطورة هذه الاستراتيجية التي “تفكك العالم العربي والأفريقي من الداخل تحت غطاء الاستقرار”.
أصبحت الإمارات اليوم لاعباً إقليمياً يمارس شكلاً من الإمبريالية الفرعية في العالمين العربي والأفريقي، مستغلة ثرواتها النفطية وغياب موقف عربي موحد لفرض رؤيتها الخاصة على حساب الآخرين. إن رفع شأن الميليشيات والقوى غير الرسمية على حساب الجيوش الوطنية يهدد أسس الدولة الحديثة ويمهد لانتشار نموذج “الدولة الفاشلة”.
تعتمد أبوظبي نهجاً براغماتياً عدوانياً يوظف خطاب “مكافحة الإرهاب” لتبرير تدخلاتها، لكن النتيجة الواقعية هي إضعاف الاستقرار وتعميق الانقسامات. وعلى المدى الطويل، سيؤدي هذا النهج إلى خلق فراغات تملؤها قوى أجنبية جديدة، فيما تدفع الشعوب ثمن انهيار مؤسساتها وأمنها.
إن استمرار الصمت العربي والدولي على هذه الممارسات سيكرّس نمطاً خطيراً من تفكيك الدول من الداخل، ويُشرعن تحويل الانهيار إلى حالة دائمة، حتى يصبح مفهوم “الدولة الفاشلة” سمة راسخة في الجغرافيا العربية والأفريقية — وهو أخطر ما يمكن أن يواجه مستقبل هذه المنطقة وشعوبها.