مقدّمة: سياق اللحظة الحرجة
منذ أن فعّلت الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) في 28 آب/أغسطس آلية “الزناد” لإعادة فرض العقوبات الأممية التي فرضها مجلس الأمن على إيران قبل 2015، دخل الملفّ النووي منعطفا تفاوضيا بالغ الحساسية، تُقاس فيه كلّ ساعة سياسيا وقانونيا واستراتيجيا. جوهر الخطوة الأوروبية لم يكن إعلان القطيعة مع المسار الدبلوماسي بقدر ما كان ضغطا زمنيا مقصودا عبر نافذة ثلاثين يوما تنتهي بحلول 27–28 أيلول/سبتمبر، يعود بانقضائها نظام العقوبات تلقائيا ما لم يعتمد مجلس الأمن قرارا يمدّد تعليقها. هذه النافذة لم تُغلق بعد سياسيا، لكنها كانت كافية لإعادة رسم خريطة اللاعبين والإيقاعات، وإجبار طهران على اختبار خياراتها الحقيقية بين “تأجيل مكلف” و“تصعيد محسوب”. الأوروبيين عرضوا تأجيل العودة التلقائية لمدّة تصل إلى ستة أشهر إذا قبلت طهران حزمة شروط محدّدة هي: تعاونٌ كاملٌ وفوريّ مع الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، بما في ذلك الوصول إلى المنشآت النووية كافة ولا سيّما تلك التي طالها القصف في يونيو/حزيران؛ كشف مصير نحو 440 كلغ من اليورانيوم المخصّب بنسبة 60% مع وصول مباشر للمفتّشين له؛ والبدء بمفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة.
على خطٍّ موازٍ، وجّهت كوريا الجنوبية مشروع قرارٍ إلى مجلس الأمن لتمديد رفع العقوبات الأممية، لكنه سقط في 19 أيلول/سبتمبر بفارقٍ واضح، أربعُ دول فقط أيّدت (الصين وروسيا والجزائر وباكستان)، وصوّتت تسعٌ ضدّ، وامتنعت دولتان عن التصويت. عمليا، مهّد سقوط المشروع لمسار العودة التلقائية للعقوبات بنهاية أيلول/سبتمبر ما لم تطرأ تسوية قبل الموعد.
قبل ذلك بأيام، وتحديدا في 9 أيلول/سبتمبر، وقّعت طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرّية “اتفاق القاهرة” بوساطة مصرية، وهو اتفاق تقني يعيد مسارات التعاون تحت المظلّة القانونية لاتفاقيات الضمانات، ويُفترض أنه يفتح الباب أمام استئناف التفتيش وصولا إلى المواقع ذات الحساسية الأعلى. غير أنّ تفاصيله، كما سُوّقت إيرانيا، جاءت بصياغاتٍ فضفاضة، خصوصا لجهة الجدول الزمني وآليات دخول المفتّشين إلى المواقع التي تضرّرت في يونيو/حزيران، وهو ما أبقى التباعد قائما مع القراءة الأوروبية التي تبحث عن تنفيذٍ سريعٍ وقياسٍ مباشرٍ لمدى نجاح الضربات السابقة في الحدّ من قدرات التخصيب الإيرانية المتقدّمة. وتأتي هنا الإشارة المهمّة إلى أن مدير الوكالة رفائيل غروسي تحرّك بسرعة، فالتقى المسؤولين الإيرانيين مجدّدا في نيويورك لمرتين خلال يومين وأكد أنّ مفتّشيه “في الطريق” إلى إيران وأن دخولهم رهنٌ بالإرادة السياسية في طهران، وهذا تلميحٍ واضح إلى رغبة أوروبية باختبار حقيقي وتحقق سريع لأي اتفاق محتمل مع إيران قبل تفعيل العقوبات، لا وعود مؤجلة بأسابيع.
لا يمكن قراءة هذا المشهد دون وضعه على خلفية يونيو/حزيران 2025، حين استهدفت إسرائيل—ثم الولايات المتحدة—عددا من المواقع النووية الحسّاسة داخل إيران (فوردو، نطنز/أصفهان وآراك)، ما أفرز طبقة إضافية من الغموض العملي حول الأضرار الفعلية وتأثيرها على معدّلات التخصيب وقدرة البنية التحتية الإيرانية على التعافي السريع. بالنسبة لأوروبا، لا معنى لأيّ “تأجيلٍ تقني” دون وصولٍ إلى تلك المواقع تحديدا وقياسٍ لواقعية الأرقام المتداولة عن مخزون اليورانيوم عالي التخصيب؛ وبالنسبة لطهران، إن كشف تلك الأوراق دون مقابلٍ أميركيٍّ مؤثر هو تنازلٌ استراتيجيٌّ مبكّر يجرّدها من أثمن عناصر القوة على الطاولة.
في هذا السياق، تتبدّى معادلة اللحظة الحالية وهي أنّ الأوروبيون يفاوضون على الزمن والشفافية والمباشرة، بينما تحاول طهران أن تفاوض على السلّم التفاوضي نفسه المتمثل بمع مَن تُصرَف الأوراق التفاوضية، وبأيّ تسلسلٍ، وتحت أيّ مظلّةٍ قانونيةٍ وسياسية. وبين “زنادٍ” يحدّد موعده القرار 2231 و“اتفاقِ القاهرة” الذي يفتقر إلى المواعيد الملزِمة، تُصاغ استراتيجية إيران على قاعدةٍ مختلفة وهي التصعيد من أجل خفض التصعيد، ولكن باتجاه الطرف الأميركي لا الأوروبي، وبسقفٍ قانونيٍّ يبقي الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار ورقة تفاوضية لا قرارا نهائيا.
سردية طهران: أوراق القوة والقيود ومخاطر الحسابات الخاطئة
تقرأ طهران الشروط الأوروبية الثلاثة ـ التعاون الكامل مع الوكالة، الكشف عن مخزون 60%، والقبول بمفاوضات مباشرة مع واشنطن ـ ليس بوصفها التزامات قانونية أو تقنية، بل باعتبارها رؤوس أموال تفاوضية. فهي عناصر ردع قابلة للصرف في لحظة سياسية محددة، وليست أوراقاً مجانية لتطمين الأوروبيين. ولذلك، فإن الكشف الشفاف عن المواقع النووية المتضررة أو عن مصير المواد عالية التخصيب سيعني عملياً تسليم الخصوم تقييمات دقيقة حول زمن التعافي النووي، قدرة سلاسل الإمداد، واستدامة التخصيب المتقدم. هذه المعلومات، بالنسبة لإيران، لا تقل قيمة عن أي ورقة مساومة في التفاوض مع واشنطن، التي تحتفظ وحدها بأداة رفع العقوبات القادرة على إعادة إدماج الاقتصاد الإيراني في الأسواق العالمية.
على هذا الأساس، تبني طهران معادلة (الكلفة-العائد)، فالقبول الرمزي بعودة العقوبات الأممية، بما تحمله من حظر أسلحة وتجميد أصول وقيود سفر، يظل أهون بكثير من خسارة عناصر الردع النووي عبر تقديمها للأوروبيين دون مقابل أميركي مباشر. بل إن القيادة الإيرانية تراهن على أن العقوبات الأممية لن تكون حاسمة من الناحية العملية، لثلاثة أسباب رئيسية: أولاً، أن وطأتها الاقتصادية ستكون أقل بكثير من منظومة العقوبات الأميركية الأحادية والثانوية؛ ثانياً، أن الصين وروسيا لن تنخرطا في تنفيذها على نحو كامل، بل ستواصلا تعاملاً انتقائياً يحفظ خطوط التبادل الأساسية مع إيران؛ وثالثاً، أن استبعاد الترويكا الأوروبية من قلب المفاوضات سيعيد تشكيل الطاولة حول مسار ثنائي مباشر مع واشنطن، وهو المسار الوحيد الذي تعتبره طهران قابلاً لإنتاج صفقة قابلة للحياة ومفيدة.
لكن هذا الرهان محفوف بقيود موضوعية. فالأوروبيون لا ينطلقون من “تشدد سياسي” فقط، بل من هواجس تقنية ملحّة تتمثل بسرعة استعادة معدلات التخصيب، أمن مخزون 60%، وقدرة إيران على إعادة تركيب أجهزة الطرد المركزي المتقدمة. أي غموض أو تأجيل في الإجابة عن هذه الأسئلة يُقرأ أوروبياً كإشارة إلى نية إخفاء القدرة المتبقية، وهو ما يعزز ويوضح ضغوط الوكالة الدولية لتسريع الوصول إلى المواقع الحساسة قبل إغلاق نافذة “ آلية الزناد”. هذه المعضلة تكشف حدود المناورة الإيرانية فالتصعيد الوقائي الذي تعتبره طهران وسيلة لإدارة التوازن قد يُقرأ غربياً كتصعيد تمهيدي، بما يفتح الباب أمام إعادة تفعيل منطق “الضربة الاستباقية” التي تلوّح بها إسرائيل دوما وتدفع بها دوائر ضغط ولوبي إسرائيلي مؤثر في واشنطن.
العقوبات الأممية: أثر سياسي أكثر من اقتصادي
ترى طهران أن عودة العقوبات الأممية، مهما كانت شاملة على الورق، ستبقى أداة ضغط رمزية أكثر من كونها شللاً اقتصادياً فعلياً. فهي تستحضر تجربة السنوات السابقة لتؤكد أن القطاعات الحيوية كالنفط والغاز والبتروكيماويات تخضع منذ سنوات لعقوبات أميركية مشددة جعلت أي عقوبة إضافية أقل تأثيراً. كما تروّج أن معظم الشخصيات والكيانات المدرجة على لوائح العقوبات الأممية لم تعد ذات وزن في البنية الحالية للنظام السياسي لإيران فمنهم من مات ومنهم من أصبح خارج دوائر صنع القرار. بهذا الخطاب، تفرغ إيران العقوبات الأممية من بعدها الردعي، وتُحوّلها إلى عنصر في لعبة الشرعية السياسية لا في معادلة الاقتصاد.
هذا التقدير الاستراتيجي يجعل طهران أكثر استعداداً للمغامرة بعودة العقوبات، طالما أنها ترى في ذلك فرصة لإخراج الأوروبيين من قلب العملية التفاوضية. فالمعادلة هنا واضحة فكلما تصاعدت المواجهة القانونية مع أوروبا، كلما انحصر المسار السياسي مع واشنطن، ما يفتح المجال لمقايضة مباشرة بين الورقة النووية من جهة، ورفع العقوبات الأميركية من جهة أخرى. وهنا يظهر المنطق الأعمق لـ “التصعيد من أجل خفض التصعيد”، أي أن تتقدم طهران خطوة إلى الأمام في التصعيد القانوني والسياسي، لتفرض على خصومها خيار العودة إلى طاولة ثنائية، حيث تصبح أوراقها النووية ذات قيمة مضاعفة.
ومع ذلك، لا تقتصر رهانات طهران على البعد النووي وحده. فملف الصواريخ الباليستية يمثل خط الدفاع الأخير في عقيدتها الردعية، إذ يُعوِّض الخلل الجوهري في ميزان القوى التقليدي بينها وبين إسرائيل والولايات المتحدة. ومن هنا، فإن أي محاولة لإدخال هذا الملف إلى المفاوضات، على نحو ما تطالب به واشنطن بتقليص المدى إلى 500 كيلومتر، يُقرأ في طهران كشرط استسلامي غير قابل للنقاش. بل إن التمسك بهذا الملف يعكس تداخل البعد النووي مع البعد الصاروخي، فإيران مستعدة لتقديم أوراق تفاوضية في البرنامج النووي، لكنها تعتبر المساس بترسانتها الصاروخية تجاوزاً للخطوط الحمراء، لأنه يعني تجريدها من أداة الردع الأساسية القادرة على فرض كلفة عالية على أي هجوم محتمل. هذه المعضلة تضاعف أهمية منطق “التصعيد من أجل خفض التصعيد” في العقل الاستراتيجي الإيراني، فكلما حاول الغرب توسيع دائرة المطالب، كلما دفعت إيران باتجاه مزيد من التصعيد لتحصين خط الدفاع الصاروخي من الدخول في معادلة المقايضة.
لكن هذه الاستراتيجية تحمل معها مخاطرتين رئيسيتين. أولاً، أنها تفتح الباب أمام سوء تقدير استراتيجي، ففي سياق معادلة التصعيد لخفض التصعيد قد تقرر إيران الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي وهذا ما قد يُسوَّق غربياً كبداية مسار عسكري أو توجه نحو تصنيع القنبلة النووية، حتى لو كان في ذهن صانعي القرار الإيراني مجرد ورقة تفاوضية. ثانياً، أنها تمنح خصوم إيران ذريعة سياسية لإعادة طرح خيار الاستهداف العسكري المحدود، خصوصاً إذا اقترن الغموض النووي مع أي تدهور إقليمي مفاجئ. عند هذه النقطة، يصبح الخط الفاصل بين التكتيك الوقائي الإيراني والقراءة الغربية الاستفزازية هشاً للغاية، ما يعزز ديناميات التصعيد المتبادل بدل احتوائها.
خاتمة
تكشف اللحظة الراهنة أن استراتيجية إيران لا تقوم على رفض التفاوض بل على إعادة تعريف شروطه. فهي تفاوض على الزمن عبر إدارة نافذة “آلية الزناد”، وتفاوض على الشرعية عبر إبقاء الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار ورقة معلّقة لا قراراً ناجزاً، وتفاوض على الأطراف المقابلة في طاولة التفاوض عبر تحويل المسار من متعدد الأطراف إلى ثنائي مع واشنطن. بهذا المعنى، فإن التصعيد ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لإعادة ضبط الطاولة التفاوضية بحيث تتحول المطالب الأوروبية إلى أوراق مساومة أمام الأميركيين.
في المقابل، تعكس المقاربة الأوروبية إدراكاً متزايداً بأن أي غموض تقني هو تهديد مباشر للاختراق النووي والتوجه نحو العتبة النووية، وأن الشفافية ليست مطلباً سياسياً بل ضرورة استراتيجية لتثبيت أثر الضربات السابقة ولمنع تسارع جديد نحو غموض نووي إيران غير قابل للقياس. أما واشنطن، فهي تبقى الطرف الوحيد القادر على تقديم المقابل الحقيقي عبر رفع العقوبات المؤثرة، ما يجعلها الوجهة النهائية لكل أوراق القوة الإيرانية.
النتيجة أن إيران تحاول لعب معادلة دقيقة: تصعيد محسوب يفتح باب التفاوض، لا مواجهات مفتوحة. لكن خطورة هذه الاستراتيجية أنها تعتمد على ضبط دقيق للانطباعات المتبادلة. فأي انزلاق في التقدير، سواء من طهران أو من العواصم الغربية، قد يحوّل التصعيد من أداة تفاوضية إلى مسار صدامي لا رجعة فيه. وهنا تكمن المفارقة بأن السلاح الأبرز في يد طهران اليوم ليس الصاروخ ولا أجهزة الطرد المركزي، بل القدرة على إدارة الزمن والانطباع، مع إدراك أن ترسانتها الصاروخية وليس برنامجها النووي ولا تخصيب اليورانيوم، تبقى خطها الأحمر الأشد حساسية في أي معادلة تفاوضية مستقبلية.