أعادت العشائر العربية في سوريا تأكيد حضورها كقوة فاعلة ومتعددة الأوجه في المشهد السوري، خاصة بعد التعبئة الواسعة وغير المسبوقة التي شهدتها محافظة السويداء مؤخرًا. هذه التعبئة لم تكن مجرد رد فعل محلي، بل تحرك استراتيجي أعاد صياغة موازين القوى على الأرض، وجعل العشائر لاعبًا لا يمكن تجاهله في حسابات الصراع السوري. فقد فرضت تحركاتها الأخيرة واقعًا جديدًا أجبر الأطراف الإقليمية والدولية على إعادة النظر في استراتيجياتها تجاه الجنوب السوري، وأعاد الاعتبار لدور العشائر كفاعل سياسي واجتماعي مؤثر.
ورغم هذا الصعود الواضح، ما زالت العشائر تواجه تحديات بنيوية أساسية، أبرزها غياب كيان سياسي موحد يمثلها ويعبر عن مصالحها، وهو ما يحول دون تحولها إلى طرف أصيل ومؤثر بفاعلية في معادلة السلطة السورية المقبلة. هذه المعضلة تجعل قوتها حتى الآن قوة مشتتة، قادرة على الحشد العسكري والتأثير الميداني، لكنها غير قادرة على ترجمة هذا التأثير إلى نفوذ سياسي مستدام.
تاريخيًا، شكلت العشائر السورية حجر الزاوية في البنية الاجتماعية للبلاد، خاصة في المناطق الريفية والصحراوية التي تمثل امتدادها الطبيعي. فقد كانت العشيرة دائمًا الملاذ الآمن لأبنائها، توفر لهم الحماية والهوية وتنظم حياتهم الاقتصادية والاجتماعية. وقد تميزت عبر القرون بقدرتها على التكيف مع التحولات السياسية الكبرى وملء الفراغات السلطوية عند انهيار الدول أو ضعفها.
بعد انهيار الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين، برز دور العشائر بصورة أوضح، إذ وجدت نفسها أمام مرحلة سياسية جديدة مليئة بالتحديات. لعبت حينها دورًا بارزًا في مواجهة قوى الاحتلال والاستعمار، وكانت في طليعة الثورات ضد الانتداب الفرنسي، حيث ساهمت في تشكيل ملامح المرحلة الوطنية التالية. ومنذ ذلك الوقت، سعت السلطات المتعاقبة – بما في ذلك سلطة الانتداب الفرنسي – إلى تقييد نفوذ العشائر أو موازنته عبر سياسات استهدفت تقوية الأقليات وإعادة توزيع مراكز القوى بما يحد من تأثير القبائل الكبرى.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011 وما تلاها من انهيار لمؤسسات الدولة في مناطق واسعة، عادت العشائر إلى الواجهة بقوة. وجدت نفسها مرة أخرى في موقع القيادة المحلية، حيث تولت تنظيم شؤون المجتمعات، سواء من خلال تقديم الخدمات الأساسية أو حماية السكان في ظل غياب الدولة. إلا أن مواقف العشائر في تلك المرحلة تباينت بشد؛ بعضها انحاز إلى صفوف المعارضة المسلحة، والبعض الآخر اختار التفاوض مع النظام، فيما فضلت بعض المجموعات التعاون مع الحركات الكردية المسلحة. هذا التنوع في المواقف لم يكن وليد اللحظة، بل انعكاس لطبيعة المجتمع العشائري نفسه الذي يقوم على الولاءات المتغيرة والمصالح المحلية المتشابكة.
حتى داخل القبيلة الواحدة، لوحظت انقسامات حادة بين أجنحة مختلفة تبنت سياسات وخيارات متعارضة، وهو ما يعكس أن المجتمع العشائري ليس كتلة صلبة ذات أيديولوجيا موحدة، بل نسيج متنوع ومعقد. هذه الطبيعة المركبة للعشائر تجعلها لاعبًا غير متوقع في كثير من الأحيان، وتضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى مسار المرحلة الانتقالية في سوريا. وبالتالي، فإن التعامل مع العشائر يتطلب إدراكًا عميقًا لهذا التنوع الداخلي وقدرتها على إعادة التموضع وفقًا للمتغيرات المحيطة.
العشائر العربية كطرف في صراع السويداء
شهدت الاشتباكات الأخيرة في السويداء توحيدًا غير مسبوق في صفوف العشائر العربية، وهو تحول استثنائي يعكس تغيرًا عميقًا في الديناميات الاجتماعية والسياسية داخل سوريا. اندلع الصراع بين مجموعات مسلحة من الدروز والعشائر العربية في محيط المدينة، ليتطور سريعًا إلى عمليات خطف متبادل واشتباكات متصاعدة. كان المحرك الأساسي لهذه التعبئة العشائرية الواسعة المجازر التي ارتكبتها المجموعات الدرزية المسلحة الموالية للشيخ حكمت الهجري ضد المدنيين البدو وأبناء العشائر العربية، في وقت انسحبت فيه القوات الحكومية من المنطقة، تاركة فراغًا أمنيًا خطيرًا جعل العشائر تشعر بأنها محاصرة ومجبرة على الدفاع عن نفسها.
عبّر الشيخ راكان الخضير، رئيس تجمع عشائر الجنوب السوري، عن دهشته واستيائه من قرار الحكومة بالانسحاب، واعتبره تخليًا غير مبرر عن مسؤوليات الدولة في حماية مواطنيها. هذا الانسحاب – سواء كان مقصودًا لتجنب مواجهة مباشرة مع إسرائيل أو محاولة لتهدئة الأوضاع – أدى عمليًا إلى تفجير الوضع، وخلق بيئة دفعت العشائر إلى تولي زمام المبادرة العسكرية. في تلك اللحظة المفصلية، أثبتت العشائر قدرتها على العمل العسكري المنظم، واستعرضت إمكاناتها في ملء الفراغ الذي تركته السلطة المركزية، ما جعلها لاعبًا ميدانيًا لا يمكن تجاهله.
التوتر تصاعد أكثر عندما اتهمت العشائر الشيخ حكمت الهجري بالتعاون مع إسرائيل، خاصة بعد الدعوة الرسمية التي وجهتها الطائفة الدرزية للتدخل الإسرائيلي في سوريا. هذا الاتهام زاد من حدة المواجهة، وأدى إلى إعلان العشائر النفير العام في مختلف المحافظات السورية. استجابت القبائل بشكل واسع لهذه الدعوة، حيث وردت تقارير عن استعداد نحو 50ألف مقاتل عشائري للتحرك نحو السويداء لدعم إخوتهم هناك. بهذه التطورات، تحولت السويداء إلى ساحة اختبار جديدة لقوة العشائر وقدرتها على فرض حضورها في معادلة الصراع السوري.
العشائر كمفاجأة استراتيجية
شكّل الظهور المفاجئ للعشائر العربية كقوة موحدة في السويداء صدمة واسعة لعدد من الأطراف الإقليمية والدولية. فعلى المستوى المحلي، كان وقع هذا الحشد غير المسبوق مزلزلًا بالنسبة للطائفة الدرزية، إذ بلغ عدد المقاتلين العشائريين عشرات الآلاف، ونجحوا في توحيد رد فعلهم العسكري ضد المجموعات الدرزية المسلحة بشكل غير متوقع تمامًا. وفي الوقت نفسه، وجدت إسرائيل نفسها أمام تطور استراتيجي غير محسوب، أجبرها على إعادة تقييم سياساتها تجاه الجنوب السوري، خاصة مع مخاوف من أن تمتد هذه التعبئة إلى العشائر العربية في فلسطين والأراضي المحتلة، بما قد يفتح جبهات توتر جديدة في مناطق حساسة.
الولايات المتحدة لم تكن بمنأى عن هذا الارتباك، خصوصًا أن الانتفاضة العشائرية تركزت في مناطق شرق سوريا الخاضعة لسيطرة قوات قسد، الحليف المحلي الرئيسي لواشنطن. هذه المناطق، ولا سيما دير الزور والرقة، تحتضن موارد نفط وغاز ضخمة وتنتج ما يقارب 150 ألف برميل يوميًا، ما يجعلها محورية في الحسابات الجيوسياسية. سيطرة قسد على هذه الموارد، إلى جانب محاولاتها فرض أيديولوجيتها وتهميش الزعامات التقليدية وفرض التجنيد الإلزامي، فجّرت موجة من الاستياء المتراكم بين أبناء العشائر، وهو ما وفر أرضية خصبة لانتفاضتهم الحالية. المظالم المتراكمة من تهميش سياسي وإقصاء من صنع القرار، إلى جانب استحواذ قسد على الثروات الحيوية، شكلت جميعها دوافع قوية للعشائر للانخراط في الصراع بدور فاعل قد يعيد رسم ملامح المرحلة الانتقالية السورية.
بالنظر إلى هذه التطورات، قد ترى الولايات المتحدة في العشائر العربية مكونًا يمكن إعادة تشكيله مستقبلاً ليخدم مصالحها دون أن يدخل في صدام مباشر مع قسد. من هنا، قد تتبنى واشنطن، مدعومة من إسرائيل، استراتيجية جديدة تقوم على استيعاب العشائر من خلال تقديم بعض المكاسب لهم، وربما إنشاء مكون عربي يتعامل مباشرة مع التحالف الدولي، مستقل نسبيًا عن قسد، ليكون أداة فعالة في مواجهة النفوذ الإيراني. هذه الخطوة، إذا ما تحققت، لن تسهم فقط في احتواء العشائر، بل ستقطع الطريق أمام الرئيس أحمد الشرع في محاولاته توسيع نفوذه السياسي والعسكري.
على الصعيد الإقليمي، أظهرت التعبئة المحدودة لبعض العشائر السعودية والأردنية في السويداء أنها كانت أقرب إلى رسالة سياسية منها إلى تدخل عسكري مباشر. كما يشير هذا التحرك -الذي ربما سُمح به في السعودية- إلى وجود اهتمام سعودي متزايد بتطوير استراتيجية تقوم على دعم غير مباشر للعشائر كاختبار لمدى تأثيرهم، في إطار مواجهة النفوذ الإيراني. إن تبنت السعودية هذه المقاربة بشكل مستدام، فسيشكل ذلك تحولًا استراتيجيًا باتجاه نموذج يعتمد على تحريك وكلاء محليين على غرار ما تفعله إيران عبر محور المقاومة.
أما الأردن، فموقفه يتسم بحذر شديد. تخشى عمان من أن تؤدي المواجهات في السويداء إلى امتداد الصراع إلى مناطق الدروز في شمال الأردن، وهو ما قد يستدعي تدخلًا إسرائيليًا لحماية هذه التجمعات ويعقّد الأزمة الأمنية في المملكة. وبالتالي، ستسعى الأردن لتجنب أي انخراط مباشر يمكن أن يفتح الباب أمام تصعيد إقليمي أكبر، مع مراقبة دقيقة للتحولات الجارية في الجنوب السوري.
بهذه التطورات المتشابكة، يتحول المشهد السوري إلى ساحة تعيد العشائر رسم ملامحها، ليس فقط كقوة محلية، بل كعنصر استراتيجي قادر على إعادة ترتيب موازين القوى بين اللاعبين الإقليميين والدوليين.
استراتيجية أحمد الشرع في التعامل مع العشائر واحتوائها
يمكن قراءة تعامل الرئيس أحمد الشرع مع العشائر العربية باعتباره مقاربة براغماتية تهدف إلى إعادة هندسة العلاقة بين الدولة السورية الناشئة وهذه القوى التقليدية التي أظهرت قدرتها على قلب الموازين. فخطابه العلني الذي شكر فيه العشائر على دورها في أحداث السويداء، مقرونًا بدعوته إلى الالتزام بوقف إطلاق النار، يكشف عن إدراكه لقوة هذه المكونات ورغبته في استيعابها ضمن إطار الشرعية والسيطرة الحكومية. من خلال هذه الخطوات، يسعى الشرع إلى إدماج العشائر سياسيًا، مع تجنب منحها فرصة للتحول إلى سلطة بديلة أو مكون سياسي مستقل قد ينازع الدولة سيادتها.
تظهر المفارقة الكبرى في أن الشرع، رغم حاجته إلى دعم العشائر لضبط الأوضاع ومواجهة الفصائل الأخرى، يجد نفسه أمام تحدٍّ خطير يتمثل في استقلالية هذه القوى وقدرتها على التحرك الذاتي. طلب العشائر الصريح من الشرع عدم التدخل خلال أزمة السويداء يكشف عن رغبتها في الاحتفاظ بهامش من الحرية والعمل المستقل، حتى وإن جاء ذلك في إطار تجنب منح إسرائيل مبررًا لمزيد من الضربات ضد الحكومة السورية الجديدة. لكن هذه الاستقلالية تشكل في الوقت نفسه تهديدًا مباشرًا لسلطة الدولة المركزية ولرؤية الشرع لسوريا موحدة تحت إدارته.
من هنا، تبدو استراتيجية الشرع عملية موازنة دقيقة بين استقطاب العشائر وإضفاء الشرعية على قوتها من جهة، واحتوائها ومنعها من التطور إلى قوة سياسية موحدة ومستقلة من جهة أخرى. الهدف النهائي هو ضمان بقاء سلطة الدولة المركزية مهيمنة على مجريات الأمور، مع تجنب أي مسار قد يقود إلى تفكك الدولة أو نشوء كيانات موازية.
لقد أكدت أحداث السويداء أن العشائر العربية تمتلك قدرة كبيرة على العمل العسكري الموحد وإحداث تغييرات جذرية ضمن مناطق حساسة. هذه القوة تستند إلى جذور تاريخية عميقة، وثقل ديموغرافي، وسيطرة على مناطق استراتيجية غنية بالموارد الطبيعية كدير الزور والرقة. ومع ذلك، فإن انقساماتها الداخلية، واستعدادها التاريخي للتكيف مع الطرف الأقوى، وقابليتها للاستقطاب من قبل أطراف حكومية وخارجية، جميعها عوامل تحدّ من قدرتها على التحول إلى كيان سياسي موحد ومستدام. وفي ظل هذه المعطيات، يبقى مستقبل العشائر مرهونًا بمدى قدرتها على تجاوز هذه التحديات الداخلية، وبكيفية تعامل الدولة السورية والقوى الإقليمية والدولية معها في السنوات المقبلة.