أبعد من البرنامج النووي.. كيف نقرأ المعركة بين إسرائيل وإيران؟

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
06/15/2025
شارك المقالة

 ” أدركنا إيران في الدقيقة التسعين حيث كانت تسعى لامتلاك قنبلة نووية” بنيامين نتنياهو 14-6-2025

منذ عشرين عاماً ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا ينفك يذكرنا بالفرصة النهائية للهجوم على إيران وإلا فسينتهي كل شيء. وكان أشهر مثال على ذلك خطابه في الأمم المتحدة 2012، حين تقلد شخصية معلم في مدرسة ابتدائية يتحدث لطلبة فاشلين -وهم في هذا الموقف الأمم المتحدة وعلى رأسهم إدارة أوباما- حيث يشرح لهم البرنامج النووي الإيراني والنقطة التي يجب عندها التحرك لإسقاطهم.

إذن فالأمر مجرد ذريعة. وأي محاولة لتصوير ما يحدث على أنه بالأساس محاولة لإيقاف السعي الإيراني عن امتلاك قنبلة نووية هي محاولة مضللة. فبالأساس لا تملك إسرائيل القدرات التي تتيح لها تدمير عناصر البرنامج النووي الإيراني وخاصة المفاعلات الرئيسية المخبأة في أعماق الجبال مثل فوردو. بالتالي يسعى هذا المقال لمناقشة الهدف الفعلي من المعركة الحالية؟ وكيف تسعى إسرائيل لتحقيق هذه الأهداف؟ وما الطرق الممكنة أمام إيران لإفشال هذه المساعي؟ هذا ما سنعمل على مناقشته دون أن نخوض في إعادة سرد الأحداث أو إغراق القاريء بتفاصيل الضربات والخسائر. 

 

الدوافع والأهداف

 

للإجابة عن سؤال السبب وراء توقيت العملية الإسرائيلية، لابد من فهم مسألة هامة في الحروب بشكل عام، وخاصة تلك التي تتزاحم فيها أطماع القادة ورغباتهم الشخصية مع المصلحة الوطنية وتتداخل فيها الأطراف إقليميا ودولياً. ففي هذا النوع من الحروب يكون من الصعب تحديد سبب بعينه أنه المحرك الأساسي وراء الأحداث. بالتالي هناك مجموعة أسباب هي ما أوصلت إسرائيل لهذه الخطوة:

  • لم تكتمل القصة بعد! حتى بعد مرور سنتين وكل هذا الدمار الهائل لا يوجد أفق سياسي واضح يمكن لنتنياهو وحكومته إيقاف الحرب عنده. ومتى ظلت إيران في وضعها الحالي فلن يكون هناك اتفاق مرض. ورغم أن هناك العديد من تصورات الحل والتفاهم على شكل الإقليم، والتي ستتنازل فيها إيران بطيب خاطر، إلا أن الطرف الآخر -إسرائيل- لن يقبل بمثل هكذا تصورات.
  • قانون الفرصة. فقد ألحقت إسرائيل هزائم فادحة بالمحور وقلصت قدرات إيران على الرد إلى حدودها الدُنيا وبتكلفة زهيدة. كما ألحقت أضراراً كبيرة بقدرات الدفاع الجوي الإيرانية وحققت ميزة جوية مطلقة في سورياً. هذا كله دفع إسرائيل لمحاولة حسم الأمور واستغلال فرصة لن تتكرر، خاصة وأن كل هذا لن يبقى على حاله بل تعمل إيران على ترميم قدراتها وإستعادة قدر من التوازن. لذا سعت إسرائيل منذ إبريل الماضي لشن هذا الهجوم ولكن تأخرت لأسباب عملياتية\سياسية.
  • الوضع الداخلي. فتزايد الاستنزاف في قطاع غزة دون هدف واضح وتراكم الضغوط الناجمة من الطلب العسكري على التجنيد بما في ذلك الحريديم، والمساعي المتضاربة في مخطط مركبات جدعون وتحديات التهجير، كل هذا يدفع نتنياهو لفتح فصل جديد في المعركة. 
  • نافذة أمريكية. فحتى لو كان ترامب يناور بتصريحاته إلا أنها توفر مادة للعمل وهامشاً للحركة، ونافذة للتفاهم مع الأمريكي ولو تحت مبدأ تليين الموقف الإيراني. حتى لو لم يكن هذا هدف إسرائيل.

من حيث الأهداف الإسرائيلية من هذا التصعيد، فالأمر بالأساس محاولة لإحداث تغيير جوهري في نظام الحكم الإيراني وتقليم أظافره بحيث يتوقف عن كونه خطراً مجدداً. فالإسرائيلي يعلم أن المشكلة ليست في منظومات الصواريخ ولا في تسارع تخصيب اليورانيوم وإنما في النظام القائم خلف ذلك كله. هذا التغيير يتراوح بين سيناريوهين:

  1. إسقاط النظام بالكامل: وهذا يُستبعد أن يكون المستهدف لأعتبارات كثيرة أبسطها أن الإقليم، بما في ذلك دول الخليج، لا يتحمل سقوط إيران والذي سيكون توابعه أضعاف ما سببته العراق. فضلاً عن أن هكذا مسعى هو إيذان بحرب شاملة تغير وجه الإقليم. الأمر الذي لن تقبله أمريكا أبداً.
  2. المسار الثاني هو تقليم وتعديل وهندسة النظام الحالي بالشكل الذي يناسب تصور إسرائيل لإقليم شرق أوسطي جديد منزوع من كامل التهديدات. 

في كلا الحالتين فهذه الأهداف بعيدة المنال على القدرات الاسرائيلية وحدها، ويمكن لإيران تحمل الكثير دونها، خاصة وأن لديها أوراقها هي الأخرى. لكن قد تتمكن إسرائيل من التقدم مربعات كثيرة على حساب الإيراني مالم يتم مقارعتها بالشكل المطلوب ومن ثم ينتهي الأمر باتفاق منحاز بشدة لصالح اسرائيل.

فن الحرب الاسرائيلي 

 

منذ نشأة إسرائيل وهناك مجموعة من الهواجس والعوامل التي شكلت طريقتها في الحرب. وبالاستناد لهاندل، يمكن إجمال هذه الأمور في:

  1.  التأثر الشديد بالجغرافيا  الصغيرة والضيقة دون عمق استراتيجي أو وعورة طبيعية دفاعية. وهذا دفع إسرائيل للتوجه الهجومي دائما بالاقتران مع الدفاع المحيطي (سياسياً وعسكرياً) عن طريق المستوطنات.
  2. النفسية التاريخية التي تحتضن وتستثمر في ذاكرة الشتات ثم الهولوكوست مما خلق “أزمة أمن” لدى اسرائيل تدفعها لحسم الأمور بشكل حاد والمبالغة في ردود الفعل على التهديدات فضلاً عن الهجمات. 
  3. الأزمة الديموغرافية وندرة عددهم مقارنة بالعرب مما دفعها لتعويض النقص الكمي بـتفوق نوعي: تدريب نخبوي وتطوير الكادر البشري، تكنولوجيا متطورة، مبادرة، خداع..الخ
  4. القيود الاقتصادية التي ألزمت اسرائيل دائماً بالاصطفاف مع داعم وحليف دولي ولو جاء ذلك بشروط وقيود، كما في حدث في أكثر من محطة تاريخية آخرها على سبيل المثال لا الحصر: الاتفاق النووي في عهد أوباما.

تبلور عن هذه النقاط فن الحرب الإسرائيلي الذي يميل للعمل الهجومي المباغت مع إتقان حروب المناورة المشتركة، خاصة المدرعات والطيران والاستخبارت، وذلك بهدف حسم الحروب بشكل سريع وإبادة الخصوم نفسياً وليس مادياً. تحدث هذه الإبادة عن طريق تطبيق مباديء واردن وبويد التي تركز على تدمير عقد القيادة والسيطرة مع فرض إيقاع المعركة بشكل متسارع لا يسمح للخصوم برد الفعل مما يؤدي لوقوعه في حالة “الشلل”. هذه الأمور نجدها جميعاً حاضرة في الحرب طوال العامين الماضيين بما في ذلك هجوم أول أمس. لكن هناك نقطة تحتاج لتفصيل خاص وهي الاستراتيجية التي ابتدعتها إسرائيل في هذه الحرب اعتماداً على فهمها لخصومها وخاصة حزب الله وإيران حيث طبقت فنها العملياتي ولكن في إطار مختلف عن حروبها السابقة.

الاستراتيجية الاسرائيلية: التثبيت مع التصعيد المتدرج

 

“يفشل الردع عندما لا تستعد للحرب”

هذا المبدأ الأساسي الذي فشلت إيران والحزب في تبنيه بشكل حقيقي كان بوابة اسرائيل للتعامل مع المحور. فبحضور أمريكا كعصا غليظة مدمرة، والتي أرعبت حزب الله وإيران من اليوم الأول، عمدت إسرائيل إلى الضرب المفاجيء المتكرر بشكل متصاعد يكسر قواعد الاشتباك وفي كل مرة تعتمد على حرص الطرف الآخر ألا يتورط في الحرب بحيث تضمن دائما أن الرد دون المستوى. في نفس الوقت تمارس أمريكا طقوس الردع والترهيب المختلفة من بدء من التصريحات بالدعم المطلق، مروراً بالتواصل عن طريق الوسطاء والتحذير المباشر، انتهاء بالمظاهرات العسكرية وتحريك المدمرات وحاملات الطائرات. 

لكن وكعادة أي استراتيجية، لم يكن هذا المسعى لينجح لولا رافعتين أساسيتين جعلا مكونات المحور تعيد الحسابات ألف مرة، وهما الاختراق الأمني والتهديد بتفجير البيئة الحاضنة. والأمرين مترابطين فالاختراقات العميقة تودي بالسمعة والهيبة للحضيض، والتلاعب بالبيئة والاستفادة من وضعها المأزوم أحد أهم أسباب الاختراق.

وبالعودة للوضع الحالي فهذا ما فعلته إسرائيل. حيث سددت ضربات شديدة وصادمة بهدف ضرب القيادة والسيطرة وقتل نخبة من ركائز القوات المسلحة الإيرانية بالتزامن مع قصف للمنشآت النووية وقتل لكبار العلماء وتدمير لمنظومات الدفاع الجوي والصواريخ. في نفس الوقت سعت أمريكا للضغط الأقصى على إيران وإبداء الدعم المطلق لإسرائيل مع دفع الوسطاء للتهدئة وجلب إيران لطاولة المفاوضات بغض النظر عما إذا كانت هناك نية جادة في عقدها أم الأمر مجرد مزيد من التلاعب بالإرادة والقرار الإيراني. 

استراتيجية إيران المضادة: “الألف جرح”

 

 رغم الخسائر الفادحة، يُبالغ الكثيرون في تأثير هذه الضربات على الأداء العام لإيران. فحزب الله، الذي لم يكن دولةً وتكبد خسائر أكبر بكثير، ظل متماسكاً حتى اليوم الأخير قبل الاتفاق، وظل قادراً على حصر إسرائيل في شريط حدودي ضيق. بالتالي ينطبق هذا الكلام بشكل أكبر على إيران التي تتمتع بخبرة طويلة، وكوادر بشرية متعددة، وفائض هائل من المواد، وبنية تحتية إنتاجية وتطويرية جعلتها مصدر عالمي للعديد من أهم أسلحة الحرب.

باختصار، أثر العمليات الإسرائيلية يعتمد على العامل النفسي بالأساس، مادامت القيادة والسيطرة موزعة ومادامت العمليات جوية فقط دون تحرك بري واسع. وجميع نظريات القصف الاستراتيجي التي حاولت حسم الحروب عن طريق الجو بأشكال مختلفة، ثبت فشلها تاريخياً.

إذن لدى إيران الفرصة والقدرة للتحرك في العديد من مسارات العمل منها على سبيل المثال:

  • تكثيف واستدامة الضربات الصاروخية الباليستية، مع الأخذ في الاعتبار محاولة خلق وضع جديد على الأرض في إسرائيل. على سبيل المثال، من خلال تركيز القصف على التجمعات العسكرية في الشمال و غزة للتأثير على حرية عمل القوات هناك وخلق فرص محتملة للحلفاء على الأرض. مع الإقرار بأن إصابة التجمعات الميدانية المتنقلة أصعب بكثير من البنية التحتية الثابتة لكن في نفس الوقت فإن بنية الدفاع الجوي الإسرائيل أخف نسبياً في هذه الأماكن -خاصة الشمال- منها في الوسط، الذي تركز عليه إيران حالياً.
  • العمليات السيبرانية بالمفهوم المشترك: ما يغفله الكثيرون هو أن النجاحات الباهرة التي تحققت في العمليات المفاجئة الشهر الماضي -العملية الأوكرانية والعملية الاسرائيلية- لم تكن بفضل براعة تكنولوجية خارقة، بقدر ما كانت بسبب القدرة على تنسيق أدوات عسكرية متعددة مع إتقان كل منها على حدة. لذلك، يجب أن تقترن العمليات السيبرانية بقدرات تجنيد وتنفيذ عمليات أمنية تُمكّن إيران من شن هجمات سيبرانية بالغة الخطورة.  فمثلاً يمكن زرع عميل والذي يُسهل عملية التحكم والوصول إلى أنظمة المنشآت والبنية التحتية والكهرباء ومرافق النقل ومن ثم تعطيلها. 
  • استهداف البنية الصناعية الإسرائيلية. سواء النفطية أو الزراعية أو التكنولوجية،خاصة وأن اسرائيل استهدفت هذه البنية في إيران بالفعل. هذا يخلق تأثيراً كبيرا لما سبق ذكره من القيود على إسرائيل تاريخياً في هذه المساحة. 
  • الاستدراج للاستنزاف. ما يُسمى ب “فخ العسل” أي إغراء إسرائيل بالتوسع المفرط استغلالاً لتضاريس إيران وعمقها الصناعي وقدرتها على الصمود بالتالي تحويل دقة إسرائيل وسرعتها الهجومية إلى نقاط ضعف. بمعنى آخر، عن طريق الاستفادة من اعتماد إسرائيل على الهيمنة الجوية والاستخبارات يمكن تضليلها لجذب الضربات إلى مجمعات وهمية مُحصنة بغرض الاستنزاف. 
  •  قصف منشآت إسرائيلية خارج إسرائيل، وخاصة في الدول ذات النفوذ السياسي المحدود، مما يُضعف قدرتها على رد الفعل على إيران سياسياً، مثل أذربيجان.
  • التلاعب بالكارت النووي: هنا يتم عكس ميزة وجود الأمريكي إلى قيد وتأثير سلبي على إسرائيل عن طريث التهديد والإيحاء بأن هناك احتمالات حقيقية لوصول للعتبة النووية. فبسبب تجربة العراق السابقة لدى صُناع القرار المختلفين ذاكرة عن كيف يؤدي الاعتداء الهجوم إلى تسريع عمليات التخيب للحصول على السلاح النووي. بالتالي يُمكن عن طريق أدوات الدعاية البيضاء والرمادية خلق قدر من الضغط النفسي يقلل من الهامش الزمني وكذلك مستوى الضرب والتصعيد المتروك للإسرائيلي وهذا يكون بالتزامن مع العمليات الهجومية بالتأكيد مما يوفر هامش حركة أعلى لإيران مع نزع هذه الميزة من إسرائيل.
  • العمليات الخارجية. فرغم أضرارها إلا أن ترك المبادرة والزخم لصالح الإسرائيلي سيكون أكثر ضرراً في هذه المرحلة من الحرب. ولإيران سجل وقدرات فعلية في هذه المساحة يمكنها إحداث تأثيرات استراتيجية حقيقية.

إن الهدف الشامل من هذه المسارات المختلفة هو الانتقال من موقف رد الفعل إلى موقف استباقي ومن ثم إفشال طريقة إسرائيل في الحرب عن طريق فرض تكاليف متسلسلة ومتعددة الأنواع والتأثيرات عليها. ليس الهدف تحقيق نصر حاسم، بل تحقيق قدر من السيطرة على الزخم مع إيلام العدو ومن ثم ترك المتواليات السياسية تعمل سواء داخلياً في إسرائيل أو دولياً وخاصة الأمريكي.

أخيراً على إيران اتخاذ إجراءات ثورية في جبهتها الداخلية، فهذا وحده سيُشكل دفاعاً وردعاً حقيقياً. صحيح أن غالبية المعارضة  الإيرانية لا تعبأ بالحرب مع إسرائيل، بل وتنظر لها بشكل سلبي إلا أن اللعب على الأوتار العرقية والقومية متبوعاً بتحقيق قدر من الإصلاحات الداخلية والاستفادة من الضربات الإسرائيلية لحشد الرأي العام فالمستهدف ليس نخب المعارضة بقدر ما هو الشارع الشعبي. هذا الخليط قد يوفر فرصة حقيقية لرأب هذا الصدع والذي يُعد السبب الحقيقي وراء كل هذا التراجع والنزيف.

شارك المقالة
مقالات مشابهة