مثلت العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة نقطة تحول مهمة في الصراع العربي الإسرائيلي، وتحديدًا بين إسرائيل وفصائل المقاومة ومن بينها حركة حماس الفلسطينية، حيث تسعى إسرائيل إلى استغلال الأوضاع الإقليمية الراهنة من أجل معالجة التهديدات التي تشكلها حماس للأمن الإسرائيلي، في ظل انشغال الدول العربية بمشاكلها الاقتصادية والسياسية الداخلية، وكذلك ضعف السلطة الفلسطينية المتواجدة في الضفة الغربية.
وتحاول هذه الورقة تقدير موقف الأطراف المختلفة من العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة ومحاولة رسم سيناريوهات لمستقبل القطاع بعد العمليات العسكرية.
العملية العسكرية في القطاع بين الأهداف الحقيقية والمعلنة:
كانت العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة بمثابة ردة فعل لما قامت به حركة حماس في صباح السابع من أكتوبر نحو عدد من المواقع العسكرية والمستوطنات المحيطة بقطاع غزة فيما يسمى” بغلاف “، وذلك عبر إطلاق آلاف الصواريخ تجاه إسرائيل، والذي نتج عنه تحطيم الجدار الأمني وسقوط المواقع العسكرية الإسرائيلية والمستوطنات بيد المقاتلين الذين اجتازوا الحدود بسيارات الدفع الرباعي والدراجات النارية والطائرات الشراعية.
والحقيقة أن هذا الهجوم هو ذاته ردة فعل طبيعية على ممارسات إسرائيل في حصار لقطاع غزة وسلوكها في الضفة الغربية، الذي يمكن تلخصيه في:
وحددت إسرائيل هدفها المُعلن من الحرب على غزة في القضـاء علـى قـدرات حمـاس العسـكرية، ومنعها من أي هجوم على الأهداف الإسرائيليّة الحيوية فــي المســتقبل، ومنع نشوء أي سلطة سياسية لحركة حمــاس في غزة، وتحرير المختطفين، وإعــادة ثقــة المجتمــع الإسرائيلي في حكومة نتنياهو مرة أخرى[1].
كما صرحت حكومة نتنياهو بأن القوات الإسرائيلية لن تخرج من قطاع غزة إلا إذا حققت أهدافها العسكرية والسياسة؛ حيث ذكر نتنياهو أن موقفه في هذه القضايا المصيرية واضح جدًا، وأنه مصر على القضاء على كتائب حماس، كما يعارض إدخال السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة وإقامة دولة فلسطينية، والتي حتمًا ستكون دولة إرهاب”. وأوضح أن حكومة الطوارئ مهمة لإنجاز كل أهداف الحرب بما في ذلك استعادة المخطوفين[2]، بجانب أنه أكد أنهم ملزمون بخلق واقع جديد في قطاع غزة، وأنه يذهب للحرب وخلفه عائلات الضحايا والمحتجزين يطالبونه بالمضي قدماً للقضاء على حماس.
نتائج العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة:
قامت القوات الإسرائيلية بعملية برية بحرية مستهدفة القضاء على جميع مظاهر الحياة في القطاع، والتي أسفرت عن مجموعة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية منها:
سيناريوهات اليوم التالي للحرب:
دارت مجموعة كبيرة من النقاشات في الأطر الأكاديمية حول السيناريوهات المتوقعة في غزة منها:
(1) السيناريو المُفضل إسرائيليًا: تتمثل رؤية إسرائيل في إيجاد منظومة سياسية وإدارية حاكمة تكون بديلاً لحماس، هو ما جعل واحد من السيناريوهات المطروحة على الطاولة العسكرية الإسرائيلية[4] إسقاط حماس أو القبول ببقائها ضعيفة، وتتحدث بعض الإحصاءات عن استهداف 50-70% من قدرات حماس العسكرية والحكومية، غير أن الخبرة التي تتمتع بها حماس في التعامل مع إسرائيل وطبيعة الأعمال العسكرية وصمودها إلى الآن بجانب الثقة التي تظهرها استطلاعات الرأي في قدرات حماس كشفت أن 69% في الضفة و56% من غزة يعتقدون أن حماس ستنتصر في نهاية الحرب، وأعتقد 64% في الضفة و52% من غزة أن حماس ستستمر في السيطرة على القطاع بعد انتهاء الحرب[5].
(2) سيناريو إعادة هندسة القطاع جغرافيًا: تشير بعض التقارير إلى سيناريو قوامه زيادة عمليات الاستيطانية بالتهجير الطوعي للمستوطنين في مناطق داخل غزة، رغبةً في إعادة هندسة القطاع جغرافياً وديموجرافياً، بغرض عدم تكرار الواقع السائد فيه طوال العقود الماضية، وحرمان المقاومة من مواقعها وأماكن تمركزها.
يدفع هذا السيناريو بأن استمرار المعاناة الإنسانية والظروف المعيشية الطاردة لسكان غزة ستجبرهم على الخروج منها عبر معبر رفح، وإمكانية استخدام الرصيف البحري على شواطئ في غزة لهذا الغرض، لخلق واقع جديد في شكل الخرائط ميدانية، لكن وقد تأتي المعونات المالية والمساعدات الإنسانية ثمّ إعادة الإعمار ما بعد الحرب للأماكن المنكوبة من الحرب قد يشكل للفلسطينيين فرصاً لتعزيز بقائهم في غزة.
(3) سيناريو الاحتفاظ بقوات في غزة: يُطرح بقاء قوات من الجيش الإسرائيلي في غزة لفترة طويلة، وإقامة إدارة مدنية أو حكم عسكري والسيطرة على نحو مليونيْ فلسطيني، سيناريو متداول، رغم أنه أمر بالغ الصعوبة، وربما يخلق جماعات بديلة لحماس، وهو ما لا يقدّم الإجابات المرجوة للإسرائيليين عن التخلّص من تهديد المقاومة، فضلًا على التكلفة التي يتحملها الاقتصاد الإسرائيلي من هذا الخيار، إذ إن تكلفة التواجد الدائم في القطاع قد تصل الى 14 مليارات شيكل سنوياً.
(4) سيناريو البقاء العسكري المؤقت: يتضمن هذا السيناريو البقاء العسكري المؤقت في غزة لتنفيذ بعض المهام العملياتية، وإنشاء منطقة أمنية عازلة في شرق وشمال القطاع بعرض كيلو متر واحد من بيت حانون إلى رفح، لوضع مزيد من الصعوبات أمام إطلاق القذائف الصاروخية باتجاه مستوطنات الغلاف، والحيلولة دون تكرار سيناريو اختراق الحدود، وإقامة الطريق القاطع وسط القطاع الواصل بين شرقه وغربه من منطقة شمال وادي غزة المعروفة سابقاً باسم مستوطنة نتساركم، وذلك لمنع عودة فلسطينيي شمال القطاع من جنوبه، والحدّ من تحركات المسلحين بين شقّي القطاع شماله وجنوبه، وبعض المحاور مثل محور صلاح الدين جنوب القطاع، واحتمالية السيطرة على معبر رفح خلال عملية اجتياحها، بغرض فرض مزيد من الإجراءات الأمنية الاحترازية لمنع تهريب الأسلحة والمقاتلين والمعدات، تحت الأرض وفوقها.
(5) سيناريو تسليم القطاع للسلطة الفلسطينية: وفقًا لأحد التقارير تعمل إسرائيل على إعادة القطاع لسيطرة السلطة الفلسطينية بعد التخلص من حماس، لكن هذا موقف غير رسمي لإسرائيل، لأن أغلبية واضحة من حزب الليكود تعارض هذا الأمر، لأنه سيفتح الباب عليهم في مسألة الاعتراف بدولة فلسطين في ظل التحركات العربية والدولية في انضمام فلسطين كعضو في الأمم المتحدة.
كما أنه لا توجد ضمانات لإمكانية قيام السلطة الفلسطينية بدورها في غزة، في ظلّ غياب إصلاحات عميقة داخل صفوفها تتناسب مع المعايير الإسرائيلية، كما أن تواجد السلطة الفلسطينية في رام الله للعودة إلى غزة، غير مجدي طالما أن المقاومة ما زالت هناك قائمة، ويفرض عليها تحديات أمنية ترى نفسها في غنى عنها، على الرغم من أنها حاولت إرسال بعض عناصرها الأمنيين بالتنسيق مع مصر ومع الاحتلال لإدخال المساعدات للقطاع، لكن أمن حماس اعتقلهم[6].
وهناك خيارات أخرى مطروحة متعلقة بتعزيز السلطات المحلية، ودور العشائر على المستوى المدني، ذوي خبرة إدارية، وليسوا منتمين إلى دول أو جهات تدعم المقاومة، والحفاظ على استمرار الفصل بين الضفة وغزة، ومأمنه بتسوية سياسية مبنية على المفاوضات، واستبدال العشائر والعائلات الكبيرة بحكم حماس.
مواقف الأطراف المختلفة من السيناريوهات المطروحة:
فصائل المقاومة في قطاع غزة:
تسعى قوى المقاومة وعلى رأسها حماس إلى وقف العدوان على غزة، وانسحاب العدو، وعودة النازحين، وفتح المعابر وبدء برنامج الإعمار، وتحقيق صفقة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل بالمفاوضات عبر النقاش بين الأطراف المحلية، بعيداً عن التدخلات الخارجية، بما يضمن انخراط الفلسطينيين في ترتيب شؤونهم الداخلية، بما في ذلك تشكيل حكومة توافقية، والتحضير لانتخابات عامة.
السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية:
تراقب السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية العمليات العسكرية في غزة والأوضاع الأمنية والسياسية داخل القطاع، لكن موقفها من العملية جعلها في موقف مُحرج بسبب عدم قيامها بأي دور يُذكر في الصراع بين إسرائيل وحماس، واقتصر دورها على الرفض والإدانة، والمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، وإنهاء العدوان على الشعب الفلسطيني.
ولذلك، درات جميع محاولات الهدنة السياسية بعيدة عن السلطة في الضفة الغربية، كما لم تحسب إنجاز، إذ تم التوصل إلى الهدنة الأولى باتفاق بين إسرائيل وحماس لإطلاق سراح 50 رهينة ووقف القتال للسماح بدخول الإمدادات الإنسانية إلى قطاع غزة.
الدول العربية والإسلامية:
لعبت مصر بدورها التاريخي والجغرافي دورًا في تهدئة الأوضاع في القطاع وساهمت قي لمبادرات لإنهاء الحرب، لأنه أمر يمس الأمن القومي المصري لمنع التدهور إلى حرب إقليمية وتعريض مصالحها للخطر، دون زج بنفسها بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للساحة الفلسطينية قناعة منها بأنها مستنقع سيكون صعباً الخروج، فضلا عن المواقف الصارمة التي أصدرتها المقاومة، واعتبارها لأي قوات تدخل إلى قطاع غزة بوصفها قوات احتلال.
وعلى الأرض، أنشأت عدد من دول المنطقة، خصوصاً قطر والسعودية والإمارات وتركيا والأردن على تحسين المرافق تحلية المياه في غزة، وأرسلت مساعدات إنسانية، وأنشأت مستشفيات داخل القطاع. وأنشطه إنسانية الواسعة النطاق.
وأصدرت الدول الإسلامية إدانة للأعمال في غزة واتخذت خطاباً مفصلاً يشرح قضية لشعب الفلسطيني مركز على صيانة وجودها في أرضها وحق تقرير مصيره وإقامة دولته الوطنية دون ادخل خارجي كما شكل الموقف العربي والتركي الإيراني دور مهم في رفض الأعمال العسكرية والتشجيع في أكثر على وفق إطلاق النار وتسريع حركة المفاوضات[7].
وأوضحت الدول انه لن اقبل باي تسوية في غزة إلا إذا قدمت لها خريطة طريق ذات رؤية واضحة من حيث الإطار الزمني، وسعت في الحصول على اعتراف دولي بدولة فلسطين والتأكيد على اثبات تعرضتم لانتهاكات واسعة النطاق.
وفي ظل الإصرار القوات الإسرائيلية على التوغل في القطاع أفشلة أي وساطة في أكثر من مرة، وكان المبرر ان حكومة إسرائيل تقوم بواجبها في حماية أمنها وحقوقها وأنه بعد تحقيق الأهداف العسكرية سيقوم بالاحتلال بإشراك دول المنطقة والعالم في إعادة التأهيل الاقتصادي والمادي للقطاع.
المواقف الغربية والأمريكية:
أوضحت وتيرة الأحداث وجود خلافات ناشئة بين الإدارة الأمريكية وحكومة نتنياهو، فالإدارة الأمريكية تريد الحفاظ على مساحة أراضي قطاع غزة كما هي، وتعارض أي تغييرات في المنطقة، بما في ذلك إنشاء “المنطقة” الأمنية العازلة على بعد كيلومتر واحد من أراضي القطاع على طول الحدود مع إسرائيل[8].
وتسعى لإيجاد صيغة ما لإشراك حماس في المشهد السياسي لغزة، بعد أن ظلت متواجدة في المشهد العسكري، وسعت لإيجاد حالة من التوازن ومعالجة الضغوط من جانب الحركات والاحتجاجات الجماهيرية والجامعية والنقابية وغير الحكومية من مظاهرات تضامنية مع الفلسطينيين، ورافضة لمواقفهم في الوقوف منظر المراقب للأوضاع.
وتحاول الوصول لخيار وسيناريو من شأنه وقف حالة الحرب الدائرة، شريطة عدم تصدر حماس للمشهد السياسي في غزة، وبما يضمن أمن غلاف غزة، وعدم تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر، وضمان حالة من الهدوء الأمني في غزة وخشيتها من تمدد الحرب إلى جبهات إقليمية أخرى في المنطقة، الأمر الذي من شأنه تهديد مصالحه في المنطقة وخلق نموذج آخر من المهاجرين الجدد[9].
ومع تقدم الأوضاع واستمرار حالة الحرب والضغوط الدولية والشعبية أظهرت دول كثير موقفا الدولية من الحالة في غزة ويبدوا الان الاتجاه العالمي يسير نحو ادراج فلسطين كضو دائم في الأمام المتحدة فبحسب بيانات السلطة الفلسطينية، اعترفت 142 من إجمالي 193 دولة في الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية[10]، ومع الاعتراف بوجود دولة كعضو دائم سيعمل على إيقاف حالة التواجد العسكرية في القطاع والإدانة الكاملة للتدخل العسكري على نطاق واسع.
خلاصة…
تبدو أن الأعمال العسكرية الإسرائيلية في غزة ستستمر لمدة طويلة، وأنها تدخل كل يوم في موجات من الصعود والهبوط بين محاولة في إبعاد حماس عن صدارة المشهد السياسي، والانفتاح على ما سواها من خيارات جديدة. لكن إسرائيل لم تعد لوحدها صاحبة القول الفصل في الوضع القائم، فهناك العديد من العوامل والمحددات التي باتت تُشكّل قيوداً على مواقفها، بما في ذلك عجزها عن استعادة أسراها، وحالة الاستقطاب الداخلية التي بدأت تعود إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وتفاقم الضغوط الدولية والخارجية عليها، والرسمية والشعبية، بالإضافة إلى استمرار المقاومة في التصدي لجنود إسرائيل وقواتها وإيقاع مزيد من الخسائر المادية والبشرية في صفوف جيش الدفاع.
ومع السعي للاعتراف الدولي بدولة فلسطين سيكون سيناريو تواجد السلطة الفلسطينية دور أكثر في القطاع، تعمل فيه على ضمان خلق واقع جديد للدولة والاشراف على عمليات التسليح وخاصة حماس وقواتها ومعداتها العسكرية.
[1] سبعة أشهر من الحرب على غزّة… إسرائيل في ضائقة دوليّة، https://shorturl.at/XfZh0
[2] نتنياهو يرفض مهلة غانتس.. ويتحدث عن “الدولة الفلسطينية”، سكاي نيوز عربية على الرباط: https://shorturl.at/GXaJd
[3] International Labour Organization, Impact of the war in Gaza on the labor market and livelihoods in the Occupied Palestinian Territory, Beirut – Lebanon, 2024, P4.
[4] تقدير موقف موسع: الرؤى والسيناريوهات الإسرائيلية لمستقبل إدارة قطاع غزة بعد الحرب على الرابط:https://shorturl.at/pRO8G
[5] المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، نتائج استطلاع الرأي العام رقم (91)، 5-10 آذار(مارس) 2024، موقع المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، 15/4/2024، انظر: https://www.pcpsr.org/sites/default/files/Poll-91-Arabic-full%20text%20April%202024.pdf
[6] تقدير موقف موسع: الرؤى والسيناريوهات الإسرائيلية لمستقبل إدارة قطاع غزة بعد الحرب، مركز الزيتون مرجع سابق.
[7] مؤشر “طوفان الأقصى“4”، مجموعة الحوار الفلسطيني، على الرابط: https://shorturl.at/HGzR0
[8] موشيه بن ديفيد، اليوم التالي يستدعي حلولاً تمنع وقوع الفشل القادم، موقع ميدا، 10/1/2024، انظر: https://shorturl.at/kilco
[9] مؤشر “طوفان الأقصى“4”، مجموعة الحوار الفلسطيني، على الرابط: https://shorturl.at/HGzR0
[10] موشيه بن ديفيد، اليوم التالي يستدعي حلولاً تمنع وقوع الفشل القادم، موقع ميدا، 10/1/2024، انظر: https://shorturl.at/kilco