لم تكن جماعة “أنصار الله – الحوثيين” قبيل معركة طوفان الأقصى أولوية بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة، فقد اعتُبرت مجرد تهديد محلي فحسب. ولكن الجماعة على مدار شهور الحرب على غزة وإلى حين الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار، في يناير 2025، باتت رقمًا صعبًا في المنطقة تجاوز مستوى بقية شركاء إيران.
فمنذ أكتوبر 2023، بدأت “أنصار الله” عمليات استهداف جوية للمواقع الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، وانتقلت بعدها إلى شن عمليات بحرية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب اللذين يشكلان نقاط اختناق استراتيجية في العالم. واستطاعت الجماعة بذلك إبراز قوتها وفرض نفوذها في نزاع إقليمي انعكس على كافة دول المنطقة، فضلًا عن تعزيز رصيدها في الشارع العربي كمناصر جدي للقضية الفلسطينية.
مراحل التصعيد
رغم ضراوة الحرب الإسرائيلية على غزة، إلا أن “الحوثيين” لم يلقوا بكامل ثقلهم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي منذ البداية، بل قسموا عملياتهم على مراحل تصاعدية تبعًا لتصاعد مجريات الحرب.
بدأت “أنصار الله” في 19 أكتوبر 2023 هجماتها بالصواريخ تجاه المواقع الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، أتبعتها في 15 نوفمبر 2023 بهجمات على السفن المرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر. ثم في ديسمبر 2023، بدأت المرحلة الثانية عبر توسيع العمليات لتشمل السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية وإن لم تكن مملوكة لإسرائيليين، بالإضافة إلى السفن المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بإسرائيل وحتى السفن التي زارت الموانئ الإسرائيلية سابقًا.
في يناير 2024، توسعت العمليات أكثر لتشمل السفن المرتبطة بالولايات المتحدة وبريطانيا، تبعتها في مايو 2024 مرحلة رابعة شملت السفن التي لدى مالكيها سفنًا تتردد إلى الموانئ الإسرائيلية. أما المرحلة الخامسة فمتصلة بالمراحل السابقة، إنما أدخل الحوثيون فيها مسيرة “يافا” التي استهدفت تل أبيب في 19 يوليو 2024.
ورغم الضربات الجوية الأمريكية والبريطانية التي استهدفت مواقعها في اليمن، واصلت “أنصار الله” عملياتها ولم تُبد تراجعًا عن موقفها تجاه الحرب بما يظهر احتفاظها بترسانتها الاستراتيجية من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز والطائرات المسيرة بعيدة المدى.
وباتباعها لهذا التصعيد المتدرج، استطاعت اكتساب مرونة أكبر في مواجهة خاضتها بنفس طويل وأثبتت فيها جدية تهديداتها وقدرتها على خوض صراع في هذا المستوى، رغم الضغوطات والتهديدات والاستهداف اللاحق لمواقعها في اليمن.
إبحار في المياه العكرة
رغم بعدها عن فلسطين المحتلة والمصالح الإسرائيلية الحيوية، إلا أن إشراف اليمن على جنوب البحر الأحمر ومضيق باب المندب أكسب “أنصار الله” ميزة استراتيجية جعل لعملياتها أثرًا كبيرًا ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل على المستوى الدولي أيضًا.
فمنذ بداية عملياتها، انخفضت حركة المرور في مضيق باب المندب بنسبة تجاوزت 50% على أساس سنوي، وانخفض عدد السفن المبحرة عبر قناة السويس من حوالي 2,068 في نوفمبر 2023 إلى حوالي 877 في أكتوبر 2024. وبدلًا من خليج عدن والبحر الأحمر، اتخذت سفن الشحن الدولي طريق رأس الرجاء الصالح الأطول مسافة ما أدى إلى ارتفاع تكاليف الشحن البحري حول العالم. وحتى السفن التي لا زالت تبحر عبر البحر الأحمر فهي بحاجة إلى مرافقة سفن حربية، وهو ما لا يتحقق دائمًا.
وانعكس كل ذلك على الموانئ المشاطئة للبحر الأحمر، وكان أبرزها ميناء إيلات الإسرائيلي الذي بات على شفا الإفلاس، بانخفاض نسبة الشحن فيه بنسبة 85%.
رد الفعل الغربي
فاجأت هجمات “الحوثيين” الجميع حيث طالت خطوط الشحن الدولي، وهو ما يعد خطًا أحمر للولايات المتحدة وحلفائها يستلزم خطوات عملية صارمة. ولذا، أطلق التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا منذ يناير 2024 ثلاث مهام عسكرية مشتركة، هي على التوالي: عملية حارس الازدهار، عملية أسبيدس، وعملية بوسيدون آرتشر. وشنت الطائرات الأمريكية والبريطانية غارات جوية على مواقع الجماعة في اليمن باستخدام طائرات “F-35C” الشبحية، شملت تدمير صواريخ ومسيرات معدة للإطلاق ومواقع رادارات ومستودعات أسلحة وخطوط إنتاج.
كما لم تستطع إسرائيل الوقوف متفرجة، فضربت مواقع “أنصار الله” بأربع هجمات أبرزها في 22 يوليو 2024 التي استهدفت خزانات الوقود ومحطة الكهرباء في ميناء الحديدة، ثاني أكبر الموانئ اليمنية، وفي 26 ديسمبر 2024 التي استهدفت الحديدة مجددًا بالإضافة إلى مطار صنعاء. وفي المقابل، تمسكت الجماعة بموقفها الرافض لوقف إطلاق النار حتى توقف الحرب على غزة، وأكد زعيمها عبد الملك الحوثي “استمرار اليمن في عملياته العسكرية النوعية ضد العدو مهما كانت الضغوط والإغراءات”.
معدلات النجاح
لم تستطع الضربات الإسرائيلية والغربية إيقاف عمليات “أنصار الله” الجوية والبحرية، وهو ما يمكن إرجاعه إلى شُح بنك الأهداف الإسرائيلي والغربي بما يتعلق بالجماعة ومواقعها الحيوية حيث لم تكن أولوية بالنسبة لجهود الجمع الاستخباري قبيل معركة طوفان الأقصى.
وكان شهر فبراير 2024 الشهر الأكثر نجاحًا للحوثيين، حيث نجحت 9 هجمات من أصل 31 محاولة في إصابة أهدافها، أي بنسبة 29%، وسُجلت ذروت محاولاتها في شهر يونيو 2024 بمعدل 48 هجومًا أصابت 8 منها أهدافها. وشملت الهجمات سفنًا تتبع لدول ترتبط بعلاقات دفاعية مع الاحتلال الإسرائيلي، كبريطانيا والولايات المتحدة وقبرص وسنغافورة وألمانيا، أما معظم السفن المملوكة لدول أخرى فتمتلك جزءًا منها دول مشاركة في واحدة أو أكثر من المهام الدولية الثلاث.
ورغم ضعف النجاح العملياتي، بمعدل 48 هجوم ناجح فقط بين نوفمبر 2023 وأغسطس 2024 بما يشمل الهجمات التي أسفرت عن أضرار في السفينة أو اشتباك مع طاقم أمنها، إلا أنها تسببت بتداعيات عالمية كبيرة على خطوط الشحن البحري العالمي وموانئ المنطقة.
وكانت السفن اليونانية السفن الأكثر استهدافًا، نظرًا لكون اليونان أكبر دولة مالكة للسفن بمعدل 20% من مجموع أسطول التجارة العالمي، إلى جانب زيادة التعاون بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي في السنوات الأخيرة.
لا ردع!
رغم التفوق العسكري للاحتلال الإسرائيلي والقوات الغربية، إلا أن الضربات التي نفذتها لم تحد بشكل كبير من قدرات جماعة “أنصار الله”، بينما تبرز صعوبة خيار العمل البري في اليمن تبعًا لطبيعة تضاريسه الوعرة، وخبرة الحوثيين في إخفاء مواقعهم، وخشية المجتمع الدولي من تفاقم الأزمات الإنسانية في البلاد تبعًا لتصاعد المواجهة.
في المقابل، عززت عمليات “الحوثيين”، رغم تأثيرها المحدود من الناحية العسكرية، والضربات الغربية على مواقعها في اليمن موقفها السياسي في الداخل ورصيدها في الشارع العربي.
وحتى داخل محور المقاومة، تقدم الحوثيون إلى الصفوف الأولى بعد انكسار حزب الله في جنوب لبنان، وارتفعت مصداقيتهم بعد ثبات موقفهم بعدم إيقاف الهجمات حتى وقف إطلاق النار في غزة، في مقابل نزول حزب الله عند شرط “فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة”.
ومن شأن هذه المكانة المتزايدة أن تمكن الحوثيين من تطوير روابطهم الخاصة بروسيا والصين كقوتين دوليتين كبيرتين، ما يشير إلى إمكانية جنوحهم نحو مواقف أكثر استقلالية عن إيران في المستقبل. فقد أثبت موقع الحوثيين في نقطة الاختناق الاستراتيجي هذه، جنوب البحر الأحمر وفي خليج عدن، قدرة الجماعة على استغلال هذه الميزة لانتزاع تنازلات داخلية وإقليمية ودولية تعزز حضورهم السياسي.