تناقش الورقة الموقف المحتمل للرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه الحرب في غزة ، واحتمالية توسيع الحرب مع إيران في ولايته الرئاسية المقبلة، واستعين في الورقة بسياسته الخارجية في فترته الرئاسية الأولى كنموذج استرشادي، لرسم السيناريوهات المحتملة لتعامله مع الحرب من المشتعلة حاليا في المنطقة.
وقد استعرضت الورقة العوامل المؤثرة في اتخاذ الرئيس ترامب لقرارته ؛ بداية من السمات الشخصية له، وما يغلب عليه من نرجسية وتقلب وميل للاستبداد باتخاذ القرارات منفردًا، مرورًا برؤيته للعالم باعتباره سلسلة من الصفقات الرابحة والخاسرة، وتجليات هذه الرؤية في سياسته الخارجية وبنائه لعلاقاته وتحالفاته، وصولًا إلى تأثير دائرته المقربة من أعضاء فريقه الرئاسي والموالين له على دفعه لتبني قرارات بعينها.
و انحصرت السيناريوهات المتوقعة تجاه الحرب في غزة ما بين احتمالين، أن يدعم ترامب نتنياهو في المضي قدمًا في حربه حتى يستطيع إعادة احتلال شمال غزة ، واستيطانه مرة أخرى، أو أن يضغط ترامب من جهته لإنهاء الحرب وتسليم إدارة القطاع لمنظمة فلسطينية ، وتحت إشراف قوات عربية مشتركة .
أما الموقف المحتمل من إيران ، فإما أن يدعم ترامب هجمات إسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية ، مع دعم لأعداء إيران في المنطقة ، أو اتباع سياسات الضغط القصوى عليها لإجبارها على التفاوض تحت شروط صارمة، أو اعتماد الضغط العسكري الأمريكي المباشر من خلال إما ضربات نوعية وخاطفة ، أو مواجهة مسلحة شاملة.
وقد خلصت الورقة إلى صعوبة التكهن بموقف ترامب المحتمل، بالنظر لطبيعته الشخصية وتصرفاته الغير متوقعة، وإمكانية أن تلوح صفقة أكثر ربحًا في أي وقت تجعله يعدل عن قرار لآخر، بالإضافة لعدم اكتمال تشكيل فريقه الرئاسي ومن ثم تبدو المنطقة مع فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية على موعد مع المجهول .
مقدمة
في السادس من نوفمبر فاز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بالسباق الانتخابي الأمريكي، فوزًا تاريخيًا، على حد تعبيره. بعد أن حصل على أغلبية مقاعد المجمع الانتخابي الأمريكي البالغة 312 مقعدًا، وغالبية الأصوات الشعبية ما يتجاوز 74 مليون صوتا، بالإضافة لحسمه كافة الولايات المتأرجحة لصالح الجمهوريين. هذه العودة السريعة للبيت الأبيض بعد فترة رئاسية واحدة عن لايته السابقة، وفي سياق تصاعد الأحداث في المنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023، وترقب للرد الإيراني على الهجوم الإسرائيلي الأخير في أكتوبر الماضي، ووعود ترامب بإنهاء الحرب، كل هذا يدفع للتساؤل عن موقفه المرتقب من حرب غزة و احتمالية توسيع الحرب مع إيران؟ وهو ما تحاول الورقة الإجابة عليه.
كيف يأخذ ترامب قراراته السياسية؟
على الرغم من أن ولاية ترامب الأولى “2017-2021” كانت هادئة نسبيًا على الصعيد العالمي والإقليمي مقارنة بولايته المقبلة، وإن كان بعض ما يجني العالم الآن بُذر بها، لكنها توفر تصورًا عن الرجل و كيف يرى العالم ويديره؟ فهناك عدة عوامل متفاوتة من حيث الأهمية والثقل تؤثر في اتخاذ الرئيس الأمريكي ترامب لقرارته. أولها السمات الشخصية؛ حيث يتسم دونالد ترامب بالنرجسية الشديدة و التقلب المزاجي الحاد والغير متوقع، واعتماده نمط القيادة الاستبدادية المنفردة، واتخاذه للعديد من القرارات السريعة دون تأني أو حتى استشارة فريقه الرئاسي، فعلى سبيل المثال فاجأ قراره اغتيال قائد الحرس الثوري، قاسم سليماني، في 2020، مسؤولي وزارة الدفاع والمشاركين في العملية أنفسهم.
بالإضافة لذلك؛ هناك رؤيته للعالم؛ يستعرض دونالد ترامب بنفسه هذه الرؤية في كتابه
“The art of the deal”، حيث يرى العالم من منظور الاقتصادي أو رجل الأعمال، لذا فهو يتعامل بمنطق الربح والخسارة الماديين، يبحث عن الصفقات الكبرى والمربحة دائمًا، ويفضل الأرباح الملموسة كالمال والأملاك والنفوذ ولا تعنيه بالضرورة التأثيرات غير المادية أو الاعتبارات الإنسانية للصفقات، كما يؤمن بضرورة استغلال الفرص طوال الوقت وأن أفضل الفرص عادة ما تأتي في الأوقات الصعبة وغير المتوقعة، ويعتمد في عقد صفقاته أسلوب “التفاوض الهجومي” و يعني أن التفاوض يبدأ عند فرض قوتك وعدم الاستعداد للتراجع، وطرح شروط مجحفة لإجبار الطرف الآخر على اتخاذ موقف الدفاع، واستخدامه كل أساليب الضغط الممكنة كالتهديد بالانسحاب والضغط الإعلامي، أو حتى الهجوم المباغت، ومن ثم فالتفاوض عنده معركة لتحصيل أقصى استفادة ممكنة، لذا لا يكترث الرجل كثيرًا بما يسمى بالمصالح الاستراتيجية وبناء الأحلاف الدولية المستقرة، طالما رآها مجحفة للولايات المتحدة الأمريكية، لذا فالرجل في ولايته الرئاسية الأولى انسحب من العديد من الاتفاقات، مثل انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ 2017، وانسحابه من اتفاقيات تجارية مع الصين وكندا والمكسيك وإعادة التفاوض بشأن بنودها مرة أخرى.
هناك أيضًا فريقه الرئاسي؛ يعتمد ترامب في تشكيل فريقه الرئاسي وتعيين أعضائه على الولاء الشخصي له أكثر من الكفاءة، وفي الأيام الماضية قال إنه يريد مكافأة أولئك الذين وقفوا إلى جانبه خلال العامين الأخيرين من حملته الرئاسية، وعلى الرغم من ميله للتدخل في كل شؤون الدولة، وانفراده باتخاذ أغلب القرارات، لكن تبقى الدائرة المقربة منه ومستشاريه في فريقه الرئاسي يمتلكون تأثيرًا ونفوذًا، في بيان المكاسب الممكنة من بعض القرارات والصفقات مما يدفعه للمضي قدمًا والموافقة عليها، لذا فمن سيقود سياسة الشرق الأوسط في ولايته القادمة سيكون عاملًا مؤثرًا في موقفه من حرب غزة و الملف الإيراني، ولكن في المجموعة المحيطة بالرئيس المنتخب هناك مؤيدون بارزون لإسرائيل، مثل السفير السابق في إسرائيل ديفيد فريدمان، والذي يؤمن بحق إسرائيل الملهم من الله في الاستيلاء على الضفة الغربية، بالإضافة لنائبه الحالي “جيه دي فانس” المعروف بمواقفه المتشددة تجاه طهران .
بالنظر لهذه العوامل، والأخذ في الاعتبار أن ترامب لم يشكل فريقه الرئاسي بعد، وبالاسترشاد بفترة رئاسته الأولى يمكن التنبؤ بموقف ترامب من الحرب واحتمالية اتساع نطاقها مع إيران.
ماذا عن حرب غزة ؟
مثلت الولاية الرئاسية الأولى لترامب 2017- 2021 مأزقا ومنعطفًا خطيرًا للقضية الفلسطينية والمنطقة العربية، بداية من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في ديسمبر2017 ، ثم نقل العاصمة من تل أبيب إلى القدس في مايو 2018، وانسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة 2018 لرفضها انحياز المجلس ضد إسرائيل، وغلق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، ووقف دعم منظمة الأونروا في العام نفسه، وتمرير لتجاوزات المستوطنين وتسهيل استلائهم على أراضي الضفة ، حتى كان إعلان ترامب عن صفقة القرن في يناير 2020، والذي تبعها سلسلة اتفاقات إبراهيم وتطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية٠
و على مدار عام جاءت تصريحات ترامب عن حرب غزة غامضة، ففي بداية الحرب أعرب أكثر من مرة عن دعمه حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وأنه “سيدافع عن صديقنا وحليفنا في دولة إسرائيل كما لم يفعل أحد من قبل”، كما اتهم المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين بمعاداة السامية، و تعهد ترامب بترحيل الطلاب المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين من الولايات المتحدة إذا انتخب رئيسا، لكن من جهة أخرى طلب ترامب من نتنياهو أثناء اجتماعهما في يوليو الماضي إنهاء عمليته أو إنجاز مهمته في غزة قبل عودته للبيت الأبيض إذا أعيد انتخابه.
لذا ففي ظل التصريحات تتعدد السيناريوهات المحتملة للحرب في غزة:
السيناريو الأول: أن يقنع نتنياهو ترامب باستمرار الحرب و الحصول على مزيد من الدعم العسكري الأمريكي، حتى يستطيع نتنياهو إعادة احتلال قطاع غزة، وربما استيطانه مرة أخرى، وقد تحدث جايد كوشنر- صهر ترامب- قبل ذلك عن الأهمية الاقتصادية لغزة كواجهة ساحلية، كما تتحدث جماعة الاستيطان اليهودية المتطرفة عن مخططات لمشاريع استيطانية جاهزة للتنفيذ في القطاع.
السيناريو الثاني: أن ينهي نتنياهو الحرب بالفعل وربما قبل تنصيب ترامب، لكن وفق الشروط الإسرائيلية، وسيلزم هذا تقديم مزيد من الدعم المسلح لنتنياهو، لتسريع وتيرة التقتيل والتجويع والحصار، مما يعجل من وتيرة تحقيق أهدافه، وينتقل لليوم التالي للحرب وتسليم إدارة القطاع إما لمنظمات فلسطينية وليست للسلطة الفلسطينية أو حركة حماس، أو إلى إدارة عربية مشتركة، تدعمها قوات عربية.
ومع الدعم الواضح من ترامب لنتنياهو، لكنه يدرك صعوبة حصوله على كل ما يريد، خصوصًا وأن سياسة ترامب “أمريكا أولًا” تميل للحد من التدخل الأمريكي العسكري، ووقف ضغط المساعدات العسكرية المقدمة على الخزانة الأمريكية، بالإضافة أن استمرار الحرب قد يُعيق بالمضي قدمًا في صفقة القرن والتطبيع الإسرائيلي السعودي المرتقب والذي عرقله السابع من أكتوبر.
وإلى جانب سيناريوهات الحرب، المتوقع أن يستمر تفاقم الأوضاع الإنسانية في غزة ، فمن جهة لا تلقى مثل هذه المواضيع اهتمامًا لدى الإدارة الأمريكية الجديدة، ومن جهة أخرى سيزداد وضع الأونروا سوءًا لأن المتوقع أن يوقف ترامب تمويل منظمة الأونروا مرة أخرى كما فعل في ولايته الأولى.
لكن يبقى موقف ترامب من غزة كأحد جبهات الحرب مرتبط ولو جزئيًا بمسار الأحداث في غيرها من الجبهات الأخرى، تحديدًا مع إيران و أذرعتها العسكرية في المنطقة.
الحرب مع إيران
اتسمت العلاقات الإيرانية الأمريكية بالتوتر المتصاعد طوال الفترة الرئاسية الأولى لترامب، خصوصًا بعد سياسة الضغط القصوى الذي اتبعها تجاه طهران، بداية من الانسحاب من الاتفاق النووي عام 2018، وفرض عقوبات اقتصادية خانقة أضرت بالاقتصاد الإيراني بشكل كبير، وصولًا لتصنيف وزارة الخارجية الأمريكية للحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية 2019، واغتيال قاسم سليماني 2020 بالعراق، جاء هذا للضغط على طهران للحد من مشروعها النووي، ودفعها للتفاوض على شروط ترامب، دفع هذا بطهران بالمقابل لتخصيب كميات أكبر من اليورانيوم ، وتحريك أذرعتها في المنطقة لمهاجمة بعض القواعد الأمريكية، بالإضافة لتهديدها بغلق مضيق هرمز وضرب شاحنات النفط السعودية والإمارتية.
وبالنظر لطبيعة الأحداث التي تشهدها المنطقة منذ أكثر من عام، وفي ظل خروج تقارير استخباراتية بمحاولة إيرانية لاغتيال الرئيس ترامب، ورد إيراني مرتقب على الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، تميل العلاقات مع إيران في الفترة الرئاسية الجديدة لترامب لمزيد من التعقيد، لكن تبقى كافة السيناريوهات مطروحة و محتملة بالنظر لنمط تفكير ترامب غير القابل للتنبؤ، وتغير القيادة الإيرانية:
خاتمة
سلطت الورقة الضوء على موقف ترامب المحتمل تجاه الحرب على غزة ، و توسيع الحرب مع إيران، وقد حاولت الورقة الاسترشاد بالطبيعة الشخصية لترامب ورؤيته للعالم وتأثير فريقه الرئاسي عليه، بالإضافة لتتبع مواقفه في فترته الرئاسية الأولى، وعلى صعوبة التكهن بما يمكن أن يفعله ترامب، لكن ما يمكن الجزم به أنه رجل الصفقات الكبرى وتعظيم المكاسب، فمتى ما لاحت له إمكانية لاقتناص الفرصة وعقد الصفقة سيفعل، وهذا هو المحرك الرئيسي له في سياسته الخارجية، لذا جاءت الكثير من قرارته ولقاءاته في فترة الرئاسية الأولى مفاجئة حتى لأعضاء فريقه الرئاسي أنفسهم، ومن ثم فالمنطقة بأكملها قد تكون على موعد مع المجهول.