مـلـخــص
تبحث الورقة فيما وراء مسارعة المسؤولين الهولنديين إلى مساندة إسرائيل وتبرئة مشجعي فريق “مكابي تل أبيب” الإسرائيلي، بعد الاعتداءات التي ارتكبوها في شوارع العاصمة الهولندية أمستردام، عقب مباراة فريقهم مع فريق أياكس. تعود الورقة إلى جذور ما يمكن تسميته بعقدة الذنب الهولندية، بسبب ما جرى لليهود أثناء الاحتلال الألماني لهولندا، خلال الحرب العالمية الثانية، بين عامي 1940 و1945، إذ شهدت تلك الفترة تواطؤ السلطات الرسمية مع النازيين، للبحث عن اليهود وتسليمهم، تمهيدا لنقلهم إلى معسكرات الاعتقال والإبادة التي أقامها الألمان في أوروبا للتخلص من اليهود.
وتخلص الورقة إلى أن هولندا، كما ألمانيا، تحاول التكفير عما حدث خلال الحرب العالمية الثانية، على حساب الحقوق العربية والشعب الفلسطيني، رغم عدم مسؤوليتهم عن الجرائم التي ارتكبت بحق اليهود.
انتفض المسؤولون الهولنديون، دفاعا عن جماهير فريق مكابي تل أبيب الإسرائيلي، رغم قيامهم بالاعتداء على السكان والمارة وسائقي سيارات الأجرة في العاصمة أمستردام، فضلا عن تخريب ممتلكات وتمزيق أعلام فلسطين وترديد هتافات عنصرية بحق العرب والمسلمين والشعب الفلسطيني، وذلك بعد المباراة التي جمعت فريقهم بأياكس أمستردام الهولندي، في إطار منافسات بطولة الدوري الأوروبي لكرة القدم.
فقد أعلن رئيس الوزراء الهولندي ديك سخوف، أنه لن يشارك في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالمناخ (كوب 29) بعد وقوع الاشتباكات، وسيبقى في هولندا، وكأنه يقود حالة طوارئ وطنية أو معركة كبرى، وذلك بعدما أعرب عن “صدمته”، مما سماها “الهجمات المعادية للسامية ضد المواطنين الإسرائيليين”. ووصف وزير العدل الهولندي ديفيد فان ويل المدافعين عن أنفسهم ضد اعتداءات المشجعين الإسرائيليين بأنهم “مجموعة من البربريين”، زاعما أنهم تجولوا في شوارع العاصمة “بحثًا عن الإسرائيليين واليهود”. وذلك رغم أن العديد من الأدلة ومقاطع الفيديو، أثبتت أن مشجعي مكابي تل أبيب هم من بدأوا الاعتداء والتخريب.
وذهب وزير الخارجية الهولندي كاسبار فيلدكامب إلى أبعد من ذلك، فبعدما وصف ما حدث في أمستردام بأنه “هجمات مروعة على المواطنين الإسرائيليين”، وأعرب عن “رعبه” لنظيره الإسرائيلي جدعون ساعر، ربط بين ما جرى في أمستردام، وما يسمى “ليلة الزجاج المكسور”، التي وقعت في ألمانيا، بتاريخ 9 و10 نوفمبر 1938. ففي هذين اليومين، نفذ نازيون ألمان هجمات وأعمال تخريب ضد مصالح يهودية، شملت دور عبادة ومتاجر ومنازل. وأُطلق هذا الاسم على هذه الليلة لكثرة الزجاج الذي تكسر فيها.
وبالطبع لم يفوت السياسي اليميني المتطرف خيرت فيلدرز، زعيم حزب الأغلبية، الفرصة، فكتب في حسابه على منصة إكس قائلا إنه يشعر “بالغضب والخجل” مما حدث، متعهدا ببذل قصارى “لحماية اليهود ووقف وطرد المتطرفين الإسلاميين”.
لكن البرلماني الهولندي ستيفان فان بارلي، رئيس حزب (فكر)، اتخذ نهجا مغايرا، وذلك عبر الإشارة إلى “نفاق” السياسيين، الذين صمتوا عندما ردد مشجعو نادي مكابي تل أبيب الإسرائيلي “شعارات عنصرية وإبادة جماعية ضد غزة”. وأضاف “كانوا صامتين أيضًا عندما قام هؤلاء المشاغبون من مكابي بتمزيق الأعلام الفلسطينية والاعتداء على سائق تاكسي”، مؤكدا أنه “كان يجب التعامل مع هؤلاء المشاغبين ذوي التوجهات الإبادية من مكابي وترحيلهم”.
لكن كان لافتا خلال موجة تصريحات المسؤولين الهولنديين، ما قاله الملك فيليم ألكساندر، للرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، إذ قارن بين هذه الأحداث، وبين “فشل” هولندا في حماية اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية، قائلا بعد الأحداث بيوم: “لقد خذلنا الجالية اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية، وفي الليلة الماضية فشلنا مرة أخرى”، معربا عن “اشمئزازه العميق”، ومؤكدا أن حكومته “ستبذل كل ما في وسعها لضمان سلامة الزوار وإعادتهم سالمين إلى إسرائيل”.
وأضاف أنه أعرب للرئيس الإسرائيلي عن “صدمته” وزوجته “من العنف الموجه ضد المشجعين الإسرائيليين الذين هم ضيوف في بلدنا. لا ينبغي لنا أن نتجاهل السلوك المعادي للسامية في شوارعنا. لقد علمتنا تاريخنا أن الترهيب يمكن أن يتصاعد إلى الأسوأ، مع عواقب وخيمة. يجب أن يشعر اليهود بالأمان في هولندا، في كل مكان وفي جميع الأوقات. نحن نحتضنهم ولن نتخلى عنهم”.
يشير حديث ملك هولندا، إلى ما يمكن اعتباره “عقد ذنب” هولندية، مماثلة لعقدة الذنب الألمانية التي تدفع الحكومات الألمانية المتعاقبة طوال عقود، إلى الإذعان لإسرائيل والتستر على جرائمها والدفاع عنها، ربما أكثر من الولايات المتحدة نفسها.
على غرار بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال، كونت هولندا إمبراطورية استعمارية، بدءا من القرن السابع عشر، وحتى القرن العشرين، إذ ضمت إندونيسيا وجنوب أفريقيا وغانا ومناطق في غرب القارة السمراء، وأجزاء من ماليزيا وتايوان وسريلانكا، فضلا عن سورينام وأجزاء من البرازيل والولايات المتحدة. وخلال هذه الفترة، ارتكبت جرائم بحق الشعوب التي استعمرتها، من قتل وسرقة وتجارة بالعبيد ونهب للثروات، وغيرها. وارتكبت مذابح في إندونيسيا، أسفرت عن قتل عشرات الآلاف من السكان.
خلال القرن العشرين، تسارع انهيار هذه الإمبراطورية، خاصة بعد الهزيمة الساحقة التي مُنيت بها هولندا بها أمام ألمانيا النازية، في مايو 1940. لم يصمد الجيش الهولندي إلا 4 أيام، بعد بدء المعركة في 10 مايو، إذ استسلمت القوات الهولندية الرئيسية في الرابع عشر من نفس الشهر، ثم احتلت النازيون البلد بأكملها بعد ذلك بثلاثة أيام، في 17 مايو. ولم تتحرر هولندا إلا بعد هزيمة ألمانيا على يد قوات الحلفاء واستسلامها في مايو 1945.
رغم الاحتلال، منح النازيون الهولنديين سلطات الإدارة المدنية، باعتبارهم “شعبا جرمانيا”. كما كان للحزب النازي حضور قوي في صفوف تلك الإدارة، وذلك عكس ما حدث في فرنسا وبلجيكا، اللتين خضعتا لإدارة عسكرية ألمانية.
لم تتمكن هولندا من حماية مواطنيها من اليهود، بل وتواطأت لتسليمهم إلى النازيين. فقد كشفت وثائق أن الألمان دفعوا مكافآت للشرطة الهولندية ومسؤولين رسميين، لتحديد مواقع اليهود والوصول إليهم، والمساعدة في القبض عليهم، وتسليم قوائم بأسمائهم، فضلا عن “تعاون” بعض السكان الهولنديين مع النازيين للإبلاغ عن اليهود، الذين لوحقوا بشراسة ومنهجية في أنحاء البلاد، رغم محاولتهم الاختباء من الملاحقة خشية اعتقالهم وإرسالهم إلى معسكرات الموت النازية.
وتشير دراسات حديثة إلى أن الهولنديين تفاعلوا “بدرجة عالية من التعاون” مع الاحتلال الألماني، بما في ذلك اضطهاد اليهود، واستمر هذا “التعاون” عندما بدأت عمليات ترحيل اليهود إلى معسكرات الإبادة، وذلك حتى بداية عام 1943، عندما بدأت مجريات الحرب تتحول في غير صالح ألمانيا.
أدى هذا التواطؤ إلى مقتل حوالي 70% من اليهود في هولندا على يد الاحتلال النازي، فيما عُرف بالمحرقة أو الهولوكوست، والتي شملت ترحيل اليهود إلى معسكرات الاعتقال، ومن ثم قتلهم بطرق متعددة، تضمنت الخنق بالغاز، وإطلاق الرصاص، والتجويع، والإجبار على الأعمال الشاقة، والإهمال الطبي، والتعذيب.
تعتبر هذه النسبة الأعلى من بين الكثير من البلدان المماثلة، مثل بلجيكا وفرنسا، وغيرها من البلدان التي خضعت للاحتلال النازي. فمن بين 140 ألفا، الذين اعتبرهم النازيون يهودًا هولنديين في عام 1941، لم ينجُ سوى 27%، رغم أن بلجيكا، على سبيل المثال، شهدت نجاة حوالي 66 ألف يهودي، بما نسبته 60%. وفي فرنسا، نجا 320 ألفا من اليهود، بما نسبته 75%.
وحتى بعد تحرير هولندا من الاحتلال النازي، استمر التواطؤ الرسمي الهولندي، هذه المرة بهدف طمس معالم الجريمة، ولذلك، تم تدمير المواد الأرشيفية الأصلية المتعلقة بتسجيل اليهود، بما في ذلك استمارات التسجيل التي أرسلتها البلديات إلى “مكتب حماية اليهود”. ثم أصدرت السلطات تعليماتها إلى البلديات في نهاية أبريل 1946 بإرسال بطاقات تسجيل السكان التي تحمل الحرف “J”، الذي يشير إلى “يهودي” لتدميرها.
وبعد تورط المشجعين الإسرائيليين في أحداث الشغب والاعتداءات بأمستردام، تقرر الحكومة الهولندية “التكفير” عن عقدة الذنب التي تشعر بها، على حساب الحقوق العربية والشعب الفلسطيني والجالية المسلمة، رغم أن الطرف الإسرائيلي هو المعتدي، في تواطؤ لا يقل عما فعلته هولندا أثناء الحرب العالمية الثانية، وإن اختلفت الضحية، وهي سياسة تتبعها الحكومة الألمانية منذ عقود، وهو ما يطرح تساؤلات عن سبب عدم “تكفير” كل من ألمانيا وهولندا عن ذنوبهما تجاه اليهود، عن طريق منح إقامة دولة لليهود على أراضيهما، لا على أراضي الغير التي لا تحق لهم.