إن الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصر الله يمثل شخصية محورية في الشرق الأوسط، حيث يعترف كل من حلفائه وخصومه بحقيقة لا يمكن إنكارها وهي أن اغتياله سيكون نقطة تحول في المنطقة. جاءت الخطوة الإسرائيلية هذه بمثابة جهد مدروس لزعزعة استقرار قيادة حزب الله وإرسال رسائل إلى محور المقاومة بأكمله. ومن خلال القضاء على نصر الله، تسعى إسرائيل إلى تفكيك القلب الرمزي والعملياتي لحزب الله، مما يؤدي إلى إثارة الاضطرابات الداخلية مع تعزيز موطئ قدمها النفسي والاستراتيجي في الإقليم. ومن شأن تداعيات مثل هذه الخطوة أن تمتد إلى ما هو أبعد من حدود لبنان، مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط. يتناول هذا التحليل المعمق الاستجابات المحتملة من حزب الله وإيران وإسرائيل، ويفحص ديناميكيات القوة المؤثرة والعواقب البعيدة المدى لعملية الاغتيال وسيناريوهات المواجهة الإقليمية.
اغتيال إسرائيل لنصر الله: البحث عن مسارح جديدة للانتصار
لقد كشفت الحرب الإسرائيلية الشعواء في غزة بأنّ قدرة حماس على الصمود أقوى مما كان متوقعاً. وعلى الرغم من الضغوط العسكرية المستمرة، ظلت سلامة حماس البنيوية والعسكرية، فضلاً عن قاعدتها الشعبية الداعمة، متماسكة. والحقيقة أن استشهاد العديد من قادة حماس تم في معارك مفتوحة وليس من خلال عمليات استخباراتية أو عمليات اغتيال بناء على معلومات يوفرها جواسيس إسرائيل، وهذا يُظهِر أن الاستراتيجيات العسكرية التقليدية التي تنتهجها إسرائيل لم تفكك قيادة الحركة بشكل كبير أو تضعف فعاليتها الاستراتيجية في استعادة المناطق في غزة. وقد أجبرها هذا الإدراك على إعادة ضبط استراتيجيتها فبدلاً من الاستمرار في بذل جهود متزايدة العبث لتفكيك حماس من خلال العمليات العسكرية وحدها، حولت إسرائيل تركيزها نحو مسارح بديلة للصراع حيث يمكنها تحقيق شعور أكثر وضوحاً بالنصر، ويلهي جمهورها عن قضية المحتجزين وكان أبرز هذه المسارح هو لبنان.
ويؤكد هذا التحول على مبدأ أساسي في الاستراتيجية العسكرية هو أنه إذا كان تحقيق النصر الحاسم أمراً مستحيلاً في أحد المسارح، فقد يتم البحث عنه في مكان آخر للحفاظ على تصور الهيمنة. وهنا أدركت قيادة الاحتلال، وخاصة رئيس الوزراء نتنياهو، أن لبنان، موطن حزب الله قد يمثل طريقاً أكثر قابلية للاستغلال لتحقيق النجاح العسكري.
والفكرة هنا هي أن حزب الله، على الرغم من قوته الهائلة، ونفوذه الواسع بالنسبة للطائفة الشيعية في لبنان إلا أنه قد لا يكون راسخاً أو مرناً من حيث الدعم الشعبي في بيئة متعددة الطوائف والتوجهات السياسية مثل حماس في غزة، الأمر الذي يجعله هدفاً أكثر عرضة للضربات الحاسمة. ويشير هذا التغيير في التركيز إلى محاولة من جانب إسرائيل لاستعادة النفوذ النفسي والسياسي بعد مواجهة الجمود المتكرر في غزة.
الاغتيال بوصفه أداة للتفوق الأمني
إن التركيز على اغتيال قيادات حزب الله وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله، يشير إلى اعتماد إسرائيل المتزايد على القوة الرمزية للتصفية البارزة. إن اغتيال القادة السياسيين والعسكريين يخدم عدة أغراض: فهو يسعى إلى تفكيك بنية القيادة، وتعطيل التماسك التنظيمي، وإرسال رسالة نفسية عن الضعف لحركات المقاومة ومحاولة تقليص دورها السياسي المستقبلي في لبنان وضرب حاضنته الشعبية.
إن قرار إيران وحزب الله بعدم شن حرب شاملة ضد إسرائيل في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول يمكن اعتباره خطأً استراتيجياً كبيراً. فمن خلال المشاركة في هجمات محدودة فقط، نقلت كل من إيران وحزب الله عن غير قصد رسالة واضحة هي أن محور المقاومة ككل غير راغب في المشاركة الكاملة في مواجهة عسكرية مباشرة ومفتوحة مع إسرائيل. وقد أرسل هذا التردد إشارات متضاربة إلى إسرائيل، مما شجعها على مواصلة عملياتها العسكرية، سواء في غزة أو في استراتيجيتها الإقليمية الأوسع القائمة على الاغتيال. في الحقيقة حولت إسرائيل عدم رغبة محور المقاومة في خوض معركة مفتوحة إلى عملية تطبيع للاغتيال لقادة هذا المحور سواء في لبنان أو سوريا.
على مدى العام الماضي، دارت أغلب المناقشات المحيطة بالوضع في جنوب لبنان حول “قواعد الاشتباك”، التي قُدِّمَت باعتبارها ضمانة لمنع الحرب المفتوحة مع إسرائيل. ولكن الواقع على الأرض كشف أن هذه القواعد أصبحت بمثابة مقياس لاستعداد حزب الله للرد على هجمات إسرائيل سواء في عمليات الاغتيال أو حتى تدمير البنى التحتية للحزب في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت.
وبدأت إسرائيل، التي التزمت بهذا النهج الحذر، في اختبار حدود ردود حزب الله بشكل تدريجي. وكان استهداف كبار قادة حزب الله والتركيز المتزايد على تعطيل أنظمة اتصالاته، بما في ذلك أجهزة اللاسلكي وأجهزة البيجر، بمثابة تأكيد على ثقة إسرائيل في أن حزب الله لن يصعد الصراع، حتى في الرد على الاستفزازات الكبيرة. وبدا أن القيادة الإسرائيلية توصلت إلى استنتاج مفاده أن حتى اغتيال حسن نصر الله، أبرز شخصية في حزب الله ومحور المقاومة، لن يؤدي إلى تغيير جذري في ردة فعلهم جميعاً. وقد شجع هذا إسرائيل على التفكير في المزيد من الاغتيالات رفيعة المستوى، معتقدة أن العواقب ستظل قابلة للإدارة.
وما زاد من تعقيد الموقف هو إطلاق اليمن لصاروخ فرط صوتي إيراني الصنع باتجاه إسرائيل. في حين كان من الممكن أن يُنظَر إلى مثل هذا الإجراء باعتباره استعراضاً للقوة من قِبَل محور المقاومة، فإن التأثير المحدود للصاروخ لم يفعل الكثير لتغيير الحسابات الاستراتيجية الإسرائيلية. في الواقع جاء هذا الفعل العسكري كخطأ استراتيجي وبنتائج عكسية، حيث عزز عدم حدوث أضرار كبيرة نتيجة لضربة هذا الصاروخ، اعتقاد إسرائيل بأنها يمكن أن تمضي قدماً في تكتيكاتها العدوانية، بما في ذلك اغتيال شخصيات رفيعة المستوى في حزب الله، دون مواجهة انتقام شديد.
من وجهة نظر عسكرية، هناك قاعدة معروفة مفادها أن استخدام الأسلحة المتقدمة في المعركة يمنح العدو الفرصة لتحليل قدراته وتطوير التدابير المضادة. سمح استخدام الصاروخ الأسرع من الصوت لإسرائيل بتقييم مستوى التهديد وتعديل موقفها الدفاعي وفقًا لذلك. وهذا بدوره أعطى إسرائيل المزيد من الثقة في استراتيجيتها لاستهداف قيادة حزب الله، حيث رأت أن فعالية الصاروخ المحدودة هي علامة على أن حتى الأسلحة الإيرانية الأكثر تقدماً لن تغير بشكل كبير مسار الصراع.
وبناء على هذه التطورات قررت إسرائيل تصفية نصر الله بعملية أمنية معقدة وخطيرة ستغير المشهد السياسي والعسكري لمنطقة الشرق الأوسط لسنوات قادمة.
التكنولوجيا والاختراق الأمني والتفوق الجوي مقابل الإيديلوجيا
إن المواجهة بين إسرائيل وحزب الله تكشف عن ديناميكية متعددة الأوجه تتشابك فيها التطورات التكنولوجية، والاختراق الأمني، والتحولات الإيديولوجية. وفي جوهره، يتم تعريف هذا الصراع من خلال التفاعل بين التفوق الجوي وهيمنة الاستخبارات مقابل الإيديولوجية الثابتة التي كانت تغذي عمليات حزب الله ذات يوم. ومع ذلك، فإن ميزان القوى يخضع لتغييرات كبيرة مع تحول دور حزب الله في لبنان، مما كشف عن نقاط ضعف تستغلها إسرائيل بشكل متزايد.
لقد تطور حزب الله، الذي كان في الأصل “حركة مقاومة مسلحة” تهدف إلى تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة، إلى كيان سياسي راسخ بعمق في الإطار السياسي الهش في لبنان ويعمل أحياناً خارج حدود بلاده ضمن أجندات إقليمية لإيران. وقد أدى هذا التحول إلى إضعاف نقائه الإيديولوجي، وتحويله من قوة مقاومة إلى قوة سياسية قادرة على إسكات المعارضين، والتلاعب بالحكومات، والمساهمة في انهيار لبنان الاقتصادي بسبب مشاركته السياسية في الحكومات اللبنانية المتعاقبة. وقد فتح هذا التغيير من المقاومة إلى الهيمنة السياسية الأبواب أمام إسرائيل لإعادة ضبط نهجها، والتركيز بشكل أقل على الاجتياحات البرية ورجحت بدلاً من ذلك بذل المزيد النفوذ الاستخباراتي وزعزعة الاستقرار الداخلي للحزب.
إن أحد المكونات الرئيسية لهذا التحول هو تركيز إسرائيل على اختراق الأمن وتجنيد المخبرين والجواسيس. وقد أصبح هذا ميزتها الأساسية في لبنان، على النقيض من المواجهات السابقة حيث كانت القوة العسكرية هي الأداة الأساسية. ومن خلال هذه الجهود الاستخباراتية، تمكنت إسرائيل من الكشف عن العمليات والمواقع الحساسة لقادة حزب الله، وهي الاستراتيجية التي بلغت ذروتها في اعتراف حسن نصر الله العلني بالنجاحات الإسرائيلية غير المسبوقة في تعطيل أنشطة حزب الله.
وفي الوقت نفسه، يبدو أن اعتماد حزب الله على استراتيجيته لعام 2006 القائمة على التصنيع المحلي للأسلحة وحشد الصواريخ الإيرانية والطائرات بدون طيار والحفاظ على هيكل عسكري واحد، أصبح عتيقًا بشكل متزايد في مواجهة القدرات التكنولوجية والاستخباراتية المتفوقة لإسرائيل وحلفائها الغربيين والولايات المتحدة الأمريكية. إن هذا يعتبر مثالاً واضحاً على كيف أن التفوق الجوي والتسلل الاستخباراتي يحددان الآن ساحة المعركة. كما أنّ أسطول إسرائيل من طائرات إف-35 وإف-15 إي يوفر ميزة متطورة في المراقبة والاستهداف والضربات الجوية، مما يمنحها اليد العليا الحاسمة على التكتيكات الأرضية التقليدية لحزب الله.
خيارات حزب الله: محددات التكيف مع الوضع الجديد
إن الموقف الاستراتيجي الحالي لحزب الله يتشكل من خلال تفاعل معقد بين القدرة العسكرية والقيود السياسية والديناميكيات الإقليمية. وفي حين تظل ترسانته من الصواريخ والقدرات العسكرية كبيرة، فإن قدرته على استخدامها محدودة بسبب ضبط النفس الداخلي والضغوط الخارجية. إن قرار حزب الله بالامتناع عن استخدام أسلحته الثقيلة ضد إسرائيل ليس مجرد مسألة الحفاظ على الموارد؛ بل إنه خيار محسوب لتجنب إشعال حرب شاملة مع إسرائيل. وقد تؤدي مثل هذه الحرب إلى تدمير كبير ليس فقط لحزب الله بل وللبنان ككل، وهو السيناريو الذي من المرجح أن يؤدي إلى تآكل نفوذه الطويل الأمد في لبنان والمنطقة.
إن العامل الرئيسي في هذه المعادلة هو الاستخدام التخريبي لإسرائيل للاستخبارات والحرب السيبرانية. إن أي عملية واسعة النطاق لحزب الله ضد إسرائيل تحتاج بشكل كبير إلى شبكات الاتصالات التي قوضتها إسرائيل بشكل منهجي، مما يجعل المناورات العسكرية المعقدة صعبة للغاية. وعلاوة على ذلك، فإن الاستهداف المنهجي لقيادة حزب الله من قبل إسرائيل، وخاصة أمينه العام حسن نصر الله، أدى إلى تآكل هيكل قيادة الحزب مما أجبره على اتخاذ موقف دفاعي كرد الفعل.
ويتفاقم هذا الوضع بسبب حقيقة مفادها أن حزب الله من غير المرجح أن يستعيد قدراته السابقة بنفس السرعة التي أظهرها بعد حرب عام 2006. فالبيئة الاستراتيجية اليوم مختلفة تماما، حيث أصبحت البنية الأساسية الأمنية لإسرائيل أكثر قوة وقدراتها الاستخباراتية أكثر تطورا. والآن أصبحت قدرة حزب الله على إعادة تجميع صفوفه وإعادة تسليح نفسه، كما فعل بعد عام 2006، معوقة بسبب التآكل المستمر لقيادته والعجز التكنولوجي. وأي محاولة لاستعادة قوته السابقة سوف تتطلب الوقت والموارد التي قد لا يتمكن حزب الله من حشدها في المدى القصير.
وفي هذا السياق، قد يختار حزب الله إعادة تقييم استراتيجيته مؤقتاً من خلال منح الحكومة اللبنانية والجهات الفاعلة الدولية مساحة للتفاوض على سلام هش. ومن شأن هذه الخطوة أن تسمح لحزب الله بالتقاط أنفاسه، وإعادة تنظيم نفسه، والتكيف مع الحقائق المتغيرة على الأرض. ولكن هذه الاستراتيجية ليست خالية من المخاطر، لأنها تعتمد إلى حد كبير على استعداد إسرائيل للانخراط في خفض التصعيد. تاريخياً، أظهرت إسرائيل القليل من الاهتمام بالتسويات الدبلوماسية التي لا تنطوي على تفوق عسكري كامل. وحتى لو نفذ لبنان قرارات الأمم المتحدة بالكامل وانسحب حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، فلا يوجد ما يشير إلى أن إسرائيل قد تخفف من موقفها العسكري العدواني. بل على العكس من ذلك، يبدو أن إسرائيل مصرة على الحفاظ على حملتها من الضربات والتدمير والاغتيال، بغض النظر عن التنازلات التي قد يقدمها لبنان.
وإذا تصاعدت هذه التوترات أكثر، فقد يتوقع حزب الله بل ويرحب بغزو بري إسرائيلي، معتقداً (وهو على صواب) أن مثل هذا الهجوم من شأنه أن يلعب دوراً في تعزيز نقاط قوته في حرب الشوارع وحرب العصابات المسماة الحروب غير المتكافئة. وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبدها حزب الله، وخاصة فيما يتصل بالقيادة والموارد، فإن ميزته التكتيكية في العمليات البرية تظل هائلة. والواقع أن الشبكة الواسعة من الأنفاق والمواقع المحصنة والدعم المحلي في جنوب لبنان التي يمتلكها قد تسمح له بالحفاظ على دفاع مطول، وتحويل الغزو البري الإسرائيلي إلى مستنقع مكلف.
ولن يؤدي هذا السيناريو إلى زعزعة استقرار المناطق الشمالية لإسرائيل فحسب، بل سيعزز أيضاً رواية حزب الله باعتباره مدافعاً عن لبنان. وعلاوة على ذلك، فإن الغزو البري قد يوفر لغزة استمرار جبهة الإسناد من لبنان. ومن شأن استمرار انعدام الأمن في المناطق الشمالية لإسرائيل أن يرهق القوات والموارد الإسرائيلية، مما يخلق فرصاً لاستغلالها من قِبَل المقاومين في غزة.
الجغرافية والسياسة: كيف تتحرك طهران إقليمياً بعد نصر الله
جميع التصريحات والبيانات التي أطلقها القادة الإيرانيين العسكريين والسياسيين بعد عملية اغتيال حسن نصر الله تؤكد على حقيقة واحدة وهي أن إيران غير معنية بالمواجهة المباشرة مع إسرائيل وهي تكرر القول بأن الرد على اغتيال نصر الله سيكون من قبل محور المقاومة، نعم قد توفر إيران جسر إمداد للأسلحة لحزب الله وقد توفر الدعم اللوجستي ولكنها لن تتدخل بشكل مباشر على الأقل في الوضع الحالي.
تلعب الجغرافيا دورًا حاسمًا في قدرات إيران الدفاعية. فعلى الرغم من ترسانتها من الصواريخ والطائرات بدون طيار، تفتقر إيران إلى القوة الجوية اللازمة لدعم حرب شاملة ومتعددة الأبعاد مع إسرائيل. وقد تضاءل اعتماد إيران على قدرات حزب الله الصاروخية، التي كانت تعتبر ذات يوم أداة قوية لردع خصومها، مع استهداف إسرائيل بشكل متزايد لهذه الأنظمة من الأسلحة. وقد كشف هذا عن ثغرة بالغة الخطورة في استراتيجية إيران. كما لم يعد للتهديد بضرب القواعد الأمريكية في المنطقة تأثيره السابق في ظل المواجهات المفتوحة الحالية لإنّ أي خسارة كبيرة في أرواح الأميركيين في مثل هذا الصراع قد تؤدي إلى اشتباك عسكري مباشر تحرص إيران على تجنبه.
تتجه إيران بعد عملية اغتيال نصر الله نحو نهج أكثر تحفظاً في سعيها إلى الحفاظ على الهيكل الحالي لحزب الله مع تجنب المواجهة المباشرة. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية محفوفة بالتحديات أيضًا. فحتى لو توقفت الضربات الإسرائيلية إلى لبنان فإن الولايات المتحدة وحلفائها سيعملون بنشاط على الحد من نفوذ حزب الله في لبنان، وتعزيز التغيرات والتحالفات السياسية، ودعم الدولة اللبنانية لتقويض القوة العسكرية والسياسية للحزب.
وفي خضم هذه التحديات، هناك مؤشرات متزايدة على أن إيران قد تتجه نحو تعزيز برنامجها النووي كوسيلة لاستعادة قدراتها على الردع. لقد تراجعت إيران، في الوقت الراهن، عن الخطابات الانتقامية الذي كان يحدد ذات يوم سياستها الخارجية إلا أن هناك أصوات ترتفع في إيران تطالب الحكومة بالتركيز على القدرات النووية كوسيلة لاستعادة النفوذ الاستراتيجي.
ولكن هذا المسار محفوف بالمخاطر أيضاً. فحتى لو سعت إيران إلى تطوير قنبلة ذرية، فمن غير المرجح أن تظل القوى الغربية، وخاصة إسرائيل والولايات المتحدة، مراقبين سلبيين. ومن المرجح أن ترتفع احتمالات توجيه ضربات عسكرية استباقية إلى المنشآت النووية الإيرانية بشكل كبير، مما قد يغرق المنطقة في صراع أوسع نطاقاً. وعلاوة على ذلك، فإن مثل هذا الإجراء سوف ينسف أي احتمالية لإعادة إحياء المفاوضات النووية.
ما من شك بأنّ غياب حسن نصر الله، الذي كان له دور فعال في الحفاظ على نفوذ حزب الله وتوسيع نطاق نفوذ إيران في المنطقة، من شأنه أن يزيد من تعقيد وضع النفوذ الإيراني في المنطقة. ففهم نصر الله العميق للديناميكيات السياسية والعرقية في لبنان والمنطقة يجعله خسارة لا تعوض لإيران، وبدونه، قد يتضاءل نفوذ طهران في لبنان والعالم العربي الأوسع. وبدونه سيعاني الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس أيضاً للتكيف مع الديناميكيات المحلية. إن هذه القوى، على الرغم من قوتها، إلا أنها أقل انسجاماً مع تعقيدات السياسة اللبنانية والعمليات الميدانية، وهو ما قد يؤدي إلى خطوات خاطئة من شأنها أن تضعف موقف إيران في لبنان والمنطقة ككل.
خاتمة
بات من الواضح أن إسرائيل بدأت تبحث عن مسارح أخرى لعملياتها العسكرية بعد فشلها بتحقيق أهدافها في غزة. وتهدف محاولات إسرائيل لتعطيل هيكل السلطة والقادة لحزب الله، بما في ذلك اغتيالها لحسن نصر الله، إلى استغلال نقاط الضعف المتصورة في السياق السياسي والعسكري لحزب الله وتطوره من جماعة مسلحة بحتة إلى كيان سياسي ضمن بيئة معقدة ومحاولتها تعطيل جبهة إسناده لغزة وضرب هرم قيادته بالكامل. يوضح الاعتماد على الاستخبارات والتكنولوجيا والاغتيالات استراتيجية إسرائيل لإضعاف سلامة حزب الله التنظيمية والأيديولوجية. ومع ذلك، فإن ضبط النفس الحذر من جانب حزب الله في تجنب الحرب الشاملة مع إسرائيل، إلى جانب إحجام إيران عن المواجهة المباشرة، يسلط الضوء على ديناميكية معقدة حيث يناور الجانبان لتجنب التصعيد الإقليمي الأوسع. وعلى الرغم من هذه الاستراتيجيات، فإن إمكانات حزب الله في شن حرب غير متكافئة، المتأصلة في معقله في جنوب لبنان، تظل رادعًا مهمًا ضد الغزوات البرية الإسرائيلية، مما يضمن أن أي تصعيد عسكري من شأنه أن يؤدي إلى صراع طويل الأمد ومكلف لإسرائيل. إن العواقب الإقليمية المترتبة على اغتيال نصر الله، وخاصة فيما يتصل بالنفوذ الإيراني والتحول المحتمل نحو ردعها النووي، تزيد من تعقيد المشهد الجيوسياسي الهش بالفعل وتشير إلى احتمالات توسيع نطاق الصراع والحروب. ويبدو بعد سنة من الحرب على غزة والهجمات الإسرائيلية على لبنان واليمن وسوريا بأنّ إسرائيل تمضي قدما في سياسات عدائية وغير راغبة في توقف هذا المسار.