تشهد تونس تنظيم انتخابات رئاسية بتاريخ 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024، وهي ثالث انتخابات من نوعها منذ الثورة، والأولى منذ إعلان الرئيس الحالي قيس سعيّد “التدابير الاستثنائية” يوم 25 يوليو/تموز 2021، التي تعتبرها المعارضة “انقلابًا على الديمقراطية”. إذ أرسى رئيس الدولة منذ ثلاث سنوات مسارًا تأسيسيًا جديدًا علق الانتقال الديمقراطي المتعثر، وهو ما أكده تدحرج ترتيب تونس في المؤشر السنوي للديمقراطية، حيث بلغت المرتبة 82 عالميًا عام 2023، بعد أن كانت المرتبة 54 عام 2020، مما يجعلها تخرج من فئة البلدان ذات الديمقراطية غير الكاملة إلى فئة البلدان ذات النظام الهجين.
وبدأت المرحلة الجديدة بحل العديد من المؤسسات السيادية والوطنية (البرلمان، المجلس الأعلى للقضاء، المجالس البلدية، هيئة مكافحة الفساد، هيئة الانتخابات، وهيئة مراقبة دستورية القوانين). واستمرّت بكتابة دستور جديد بواسطة الرئيس، وتم الاستفتاء عليه في 25 يوليو/تموز 2022، والذي أسس لنظام سياسي جديد يركز سلطاته بشكل كبير بيد رئيس الدولة ويضعف ضمانات استقلالية القضاء.
وتأتي الانتخابات الرئاسية المنتظرة في سياق تردّي الوضع الحقوقي، وفي ظلّ ارتفاع المحاكمات السياسية بما شمل مرشحين رئاسيين مع تراجع منسوب ممارسة الحريات العامة، على نحو جعل مقومات نزاهة العملية الانتخابية وتنافسيتها موضع شكّ متصاعد. ثم كان رفض الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، التي عيّن الرئيس سعيّد أعضائها، تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية بإرجاع ثلاثة مرشحين بارزين للسباق الرئاسي، مؤشرًا على استفحال أزمة عدم سيادة القانون بما يمسّ من سلامة المسار الانتخابي بشكل جوهري. وضع يفتح الباب لاحتمالات متعدّدة بخصوص مآلاته، خاصة بعد ما ظهر خيارًا واضحًا من السلطة الحالية لبسط الطريق لمرشحها من أجل ولاية رئاسية جديدة وذلك بكل الوسائل الممكنة.
انتخابات في سياق سياسي وحقوقي حرج
عرفت تونس، التي طالما كان يُنظر إليها أنها نموذج الانتقال الديمقراطي بعد موجة الثورات العربية عام 2011، انحدارًا في ممارسة الحقوق والحريات بعد استفراد الرئيس الحالي قيس سعيّد بالسلطة منذ 25 جويلية/يوليو 2021 من مؤشراته تصاعد المحاكمات السياسية ضد المعارضين والصحفيين والمحاميين والقضاة خاصة بعد وضع السلطة التنفيذية يدها على القضاء إثر نسف ضمانات استقلاليته الهيكلية والوظيفية بشكل ممنهج طيلة السنوات الأخيرة.
كما أرسى الرئيس أدوات تشريعية جديدة لضرب حرية الرأي والتعبير على غرار المرسوم عدد 54 الذي يتضمّن عقوبة مشددة تصل لعشر سنوات سجن ضد مروّجي “الأخبار الزائفة والإشاعات”، وهو المرسوم الذي أحيل على أساسه عشرات الناشطين السياسيين والمدوّنين والصحفيين أمام المحاكم بمختلف جهات البلاد.
وفي هذا السياق، تراجع الترتيب العالمي لتونس في مؤشر حرية التعبير حسب التقرير السنوي للمنظمة “المادة 19” بعشرين مرتبة من المرتبة 59 عام 2020 إلى المرتبة 76 عام 2023 مع تسجيل تراجع حاد أيضًا في الترتيب العالمي في مؤشر حرية الصحافة من المرتبة 73 عام 2021 إلى المرتبة 121 عام 2023 مع فقدان الصدارة العربية. مكسب حرية التعبير الذي افتكه التونسيين إثر إسقاط نظام الرئيس السابق بن علي عام 2011، بات موضع استهداف ممنهج من السلطة السياسية.
وقد شمل هذا المناخ التقييدي أيضًا إيقاف قيادات الصف الأول لأحزاب النهضة، والجمهوري، والدستوري الحرّ إضافة لناشطين سياسيين بارزين[1]، وأيضًا إغلاق مقرات جبهة الخلاص الوطني وحركة النهضة، وهو ما أدى بالتبعية لعرقلة حرية التنظم والاجتماع. كما صبغت المرحلة استهدافًا لممارسة حرية الإعلام سواء عبر التضييقات لوسائل الإعلام الخاصة أو وضع اليد على الإعلام العمومي الذي تحوّل إلى “بوق دعاية” للسلطة السياسية على حساب التعددية مع إقصاء ممنهج لحضور ممثلي المعارضة، على خلاف ما كانت عليه الصورة طيلة سنوات ما بعد الثورة. كما أثار القضاء، في جانب متصل، تتبعات ضد عدد من الجمعيات بما أدى لإيقاف بعض منتسبيها، بما زاد المخاوف من استهداف المجتمع المدني الفاعل، خاصة في ظلّ إعداد الحكومة لمشروع قانون جديد للجمعيات قد يهّدد مكاسبها.
وقد ترافق استهداف الفضاء السياسي والمدني العام وتردّي الوضع الحقوقي مع تصدير رئيس الدولة لخطاب رسمي قوامه اتهام معارضيه بـ”التآمر” و”العمالة للخارج”، فيما يعتبره مراقبون امتدادًا للخطاب الشعبوي القائم. وعمد الرئيس الحالي على فرض القطيعة مع الأحزاب السياسية وحتى المنظمات الوطنية، مكتفيًا دائمًا بمقابلة وزراء الحكومة فقط، وهو ما عزّز الواقع الفرداني والانغلاقي في إدارة شؤون البلاد.
الحصيلة الاقتصادية لسعيّد: عبء ثقيل
في خضمّ هذا الوضع السياسي المحتقن، تشهد تونس أزمة اقتصادية واجتماعية مستدامة منذ سنوات كانت قد عمّقتها أزمة وباء كوفيد 19، وكان جزء من الاحتفاء العامّ بقرارات التدابير الاستثنائية صيف 2021 هو طيّ صفحة هذه الأزمة التي ظهرت حينها ليست ذات أولوية في ظلّ تصاعد الصراع بين مكونات النخبة السياسية داخل البرلمان المنحلّ على وجه التحديد. بيد أن حصيلة استفراد رئيس الدولة بإدارة البلاد دون أي منازعة صلاحيات خاصة في ظل النظام الرئاسوي بحكم الأمر الواقع، تؤكد تواصل استفحال الأزمة بما تمثّله، بالنهاية، من عبء جديد في تقييم حصيلة الخماسية الرئاسية.
ولا تزال نسبة النمو الاقتصادي تشهد بطءً شديدًا، فلم تبلغ خلال الربع الأول من العام الانتخابي الحالي إلا نسبة 0.2 في المائة، مقارنة بـ1.1 في المائة في الفترة نفسها من العام الماضي، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء (حكومي). وشهد التضخم ارتفاعًا غير مسبوق، إذ بلغ أكثر من 10 نقاط في موفى عام 2022 وبداية عام 2023، وهو رقم لم تعرفه البلاد طيلة العقود الأخيرة، وذلك قبل تسجيل تراجع لتبلغ النسبة 7.3 في المائة في شهر يونيو 2024 (بلغت النسبة 6.4 في المائة عشية إعلان “التدابير الاستثنائية” في يوليو/تموز 2021). تراجع مردّه الترفيع في نسبة الفائدة المديرية من 6.25% سنة 2021 إلى 8% في جويلية 2024 بما أثر بالتبعية في نسق الاستهلاك. كما شهدت البلاد تسجيل نقص كبير في المواد الأساسية وهو ما أرجعه الرئيس لـ”لوبيات وأطراف” لا يسمّيها.
وتصدّى الرئيس للأزمة بخطاب رسمي قوامه التعويل على الذات خاصة مع تعطّل المضي في إبرام اتفاقية الاقتراض مع صندوق النقد الدولي بحزمة قدرها 1.9 مليار دولار التي تتضمّن “إصلاحات” تشمل التخفيض في حجم الدعم بما يحمله، في المقابل، من كلفة اجتماعية. غير أن الواقع أثبت التعويل المطرّد لميزانية الدولة على الاقتراض إذ ارتفع مستوى المديونية إلى 80% في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2023[2]. وخططت الحكومة في نفس العام للاقتراض من الخارج نحو 10.56 مليارات دينار (3.2 مليارات دولار) لكنّها لم تنجح إلا في اقتراض نحو 5 مليارات دينار (1.5 مليار دولار) إلى نهاية نوفمبر2023، والنتيجة هي التأثير على نسق استيراد المواد الأساسية كالأدوية والقهوة والسكر والحبوب وخلق طوابير أمام المخابز[3].
وفي العام الانتخابي الحالي، برمجت الحكومة، في ميزانية 2024، اقتراض غير محدّد المصدر بقيمة 10.3 مليار دينار (3.2 مليار دولار)[4]. وكانت قد توقعت وكالة “فيتش رايتنغ” أن يوازي تمويل الميزانية 16 في المائة من الناتج الداخلي الخام أو يتجاوز هذه النسبة خلال الفترة 2024 / 2025، وهي النسبة الأعلى لدى الدول من ذات التصنيف، وقد لا تكون الحكومة قادرة على تعبئة 2.5 مليار دولار كتمويلات خارجية في 2024 وهو من شأنه أن يخلق فجوة بهذه القيمة فيما يتعلّق بالتمويل الخارجي، وفق نفس المصدر. واضطرت الحكومة بداية، العام الحالي، لطلب تمويل من البنك المركزي بقيمة 2.25 مليار دولار، وهو ما زاد من المخاوف حول استقلالية المؤسسة النقدية خاصة بعد دعوة الرئيس لمراجعة قانونها.
وكان يعوّل رئيس الدولة، في الأثناء، على حقن الميزانية بعائدات الأموال المنهوبة عبر لجنة الصلح الجزائي التي أحدثها، والتي قدّرها بنفسه بـ13 مليار دينار (3.8 مليار دينار)، ولكن لم تحقق اللجنة أي عائدات تذكر. كما صدّر مشروع “الشركات الأهلية” التي أحدثها بغاية دفع الاستثمار المحلّي في البلاد عبر تحفيزها بامتيازات عديدة آخرها منحها الأولوية في تسويغها بأراضي الدولة، ولكن لازالت لم تظهر بعد فائدة هذه الشركات على الاقتصاد، مع تصاعد الخشية أنها مطيّة لزبونية جديدة تسعى السلطة السياسية لفرضها لفائدتها.
المشهد الانتخابي: بين تعنّت هيئة الانتخابات وملامح أزمة شرعية
لم يكن إعلان تاريخ الانتخابات الرئاسية المحدد يوم 6 أكتوبر 2024 من طرف رئيس الدولة بنفسه إلا بعد مرحلة من الغموض وعدم الحسم حول المضي في تنظيمها، خاصة في ظلّ الأزمة السياسية المستمرّة. تباعًا، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، التي كان قد عيّن الرئيس أعضائها بعد “الانقلاب” إثر حلّ الهيئة المنتخبة السابقة، شروط تقديم الترشحات بمقتضى أمر ترتيبي على ضوء الشروط التي أوردها الدستور الجديد (الترفيع في سن الترشح، والجنسية التونسية الوحيدة، والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية)، والحال كان المفترض أن يستوعب القانون الانتخابي هذه الشروط. وفرضت الهيئة على كل مترشح تقديم بطاقة السوابق العدلية بيد أن وزارة الداخلية امتنعت عن تسليمها لعديد المترشحين الرئاسيين. لاحقًا، أعلنت هيئة الانتخابات قبول ثلاث ترشحات فقط وهم الرئيس الحالي قيس سعيّد، ورئيس حركة الشعب (قومي) زهير المغزاوي، ورئيس حركة “عازمون” العياشي زمّال، ورفضت بقية الترشحات لأسباب متعددة منها عدم استيفاء شرط التزكيات (10 آلاف تزكية موزعة على 10 دوائر انتخابية).
وإثر طعون المرشحين المرفوضين، قضت الدوائر الاستئنافية للمحكمة الإدارية، في مرحلة أولى، برفضها، ولكن، قضت الجلسة العامة للمحكمة (أعلى هيئة حكمية في القضاء الإداري)، في المقابل، بإلغاء قرارات هيئة الانتخابات وقبول ثلاث مترشحين رئاسيين بعد التحقق من استيفائهم شروط الترشح وخاصة شرط التزكيات (باعتبار أن أسباب إسقاطها من هيئة الانتخابات لم تكن وجيهة) وبالتأكيد على عدم إمكانية تحميل المترشح امتناع وزارة الداخلية عن منحه بطاقة السوابق العدلية. وشملت قائمة المرشحين المقبولين منذر الزنايدي (وزير سابق زمن بن علي)، وعماد الدائمي (مدير الديوان الرئاسي السابق زمن المنصف المرزوقي ورئيس مرصد “رقابة” لمكافحة الفساد)، وعبد اللطيف المكي (رئيس حزب العمل والإنجاز والقيادي السابق في حركة النهضة). ولكن امتنعت هيئة الانتخابات عن تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية بتعلّة عدم توصلّها بها في الآجال القانونية، والحال أن المحكمة أكدت إرسالها منطوق قراراتها في الآجال. وقد دعم أساتذة القانون الإداري والدستوري موقف المحكمة الإدارية أمام هيئة الانتخابات التي زادت الشكوك حول استقلاليتها وحيادها. وقد أكدت المحكمة الإدارية، في وقت لاحق، في إطار مطلب شرح (تعلق بالمرشح عبد اللطيف المكي) ومطلب مساعدة في التنفيذ (تعلق بالمرشح المنذر الزنايدي)، على وجوب إدراج المرشحين في القائمة النهائية للمرشحين، بما قد يستلزم مراجعة الرزنامة الانتخابية.
أثار رفض هيئة الانتخابات تنفيذ أحكام القضاء الإداري غير القابلة لأي وجه من أوجه الطعن إمعانًا، لدى مراقبين، في الدوس على مبادئ دولة القانون وبالخصوص نفاذ الأحكام القضائية وخاصة في المادة الانتخابية باعتبار ارتباطها بحقوق سياسية في مقدمتها الحق في الترشح وحق الفرد في اختيار مرشحه في انتخابات تنافسية. أداء هيئة الانتخابات، وعلى خلاف جميع الانتخابات بعد الثورة، تعززت الشكوك بشأن نزاهته أيضًا بعد رفضها قبول ملاحظة جمعيتين بارزتين (مراقبون وأنا يقظ) للانتخابات بتعلّة تلقيها تمويلات مشبوهة.
وفي خضم هذا المناخ أيضًا، أثارت النيابة العمومية تتبعات قضائية عديدة ضد المرشح النهائي المقبول العياشي زمال بتعلّة وجوه تلاعب في التزكيات على نحو أدى لإصدار 5 بطاقات بالسجن ضده حتى الآن، مع منعه من توكيل أحد أفراد حملته لفتح حساب بنكي لإدارة حملته الانتخابية. لتتصاعد بذلك وبشكل بيّن أن السلطة ماضية في منع ولوج المرشحين الجديين للسباق الانتخابي وعرقلة ذلك بغاية بسط الطريق للرئيس الحالي قيس سعيّد.
الخاتمة
يؤشر رفض هيئة الانتخابات تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية وإرجاع ثلاث مرشحين بارزين للسباق الرئاسي، بالتوازي مع سجن المرشح الرئاسي العياشي زمال، مع استمرار وضع اليد على الإعلام وتصاعد محاكمات الرأي، على ضعف مؤشرات النزاهة في المسار الانتخابي وتراجع التنافسية بشكل ممنهج. ولكن الأخطر أن رفض تنفيذ القرارات القضائية يدفع للمزيد من تأزيم الوضع السياسي في الأفق عبر ملامح أزمة شرعية انتخابية في المستقبل، إذا أصرّت السلطة على تمرير مرشحها لولاية رئاسية ثانية ضاربة بعرض الحائط أحكام القضاء دون عن واقع تضييق الخناق على الحريات العامة.
[1] عبر سلسلة من قضايا “التآمر على أمن الدولة” على وجه الخصوص.
[2] تقرير بعنوان ” استدامة الدين العمومي في تونس: التحديات والديناميكيات”، المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية، أفريل 2024.
[3] التداين في عهد سعيّد، كلّ القروض مباحة إلا مع صندوق النقد، سميح الباجي عكاز، موقع نواة.
[4] عودة على مسار ميزانيّة 2024: التّمادي في نهج التّقشّف والمديونيّة رغم الشعارات السيادوية، موقع بوصلة.