بعد نحو 316 يوما من اندلاع عدوان الجيش الإسرائيلي – الأقوى في الإقليم – على القطاع الفلسطيني المحاصر، قطاع غزة، يبدو أن شظايا نيران المقاومة -ومحور المساندة- لم تطل مدرعات وجنود الجيش فقط، بل امتدت لتضرب داخل الاقتصاد الإسرائيلي وتفقده كثيرا من صورة “واحة الرخاء والأمن” في الشرق الأوسط الفقير المشتعل دائما!
نسلط الضوء خلال تلك السطور على مجموعة من المؤشرات والأرقام التي تفصح بنفسها عن مدى ما نال الاقتصاد الإسرائيلي جراء تلك الحرب المستعرة التي أوقدها نتنياهو، وذلك في عدة محاور:
ومع دوران رحى الحرب، وفي ظل الأشلاء المتناثرة من أجساد أهل غزة، تتوارى حقيقة ما يناله الجانب الإسرائيلي من ضربات موجعة. وإن كان التوثيق المرئي يجلّي تلك الضربات من الناحية العسكرية، فإن هذه السطور تحاول تجلية الآثار الاقتصادية.
تبعات الحرب في مرآة الاقتصاد الكلي
من المعروف أن التبعات الاقتصادية للحرب تطال أول ما تطال الوضع الاقتصادي لأي دولة أو كيان. وهو بالطبع ما حدث في الاقتصاد الإسرائيلي. فوفقًا لبيانات الاقتصاد الكلي الصادرة عن السلطات الإسرائيلية، فإن الاقتصاد يبدو أنه يواجه فترة صعبة قد تمتد تبعاتها للمدى البعيد.
و بحسب بيانات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، شهد الناتج المحلي الإجمالي انكماشا على أساس سنوي بنحو 4% خلال الربع الرابع من 2023 وتبعه انكماش بنسبة 1.4% خلال الربع الأول 2024.
وقبل بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كان البنك المركز الإسرائيلي يتبع اتجاه تشديد نقدي مسايرة للظرف الاقتصادي الدولي، حيث قام برفع الفائدة من 0.1% في مارس 2022 حتى سجلت 4.75% في مايو 2023، ومع أن أثر رفع الفائدة شهد تأخر بعض الشيء في انعكاسه على اتجاه التضخم، إلا أن التضخم اتخذ مسارا هابطا من مستوى 5.4% في يناير 2023 حتى سجل 2.5% في فبراير 2024. ثم لم يلبث هذا الاتجاه الهابط أن عاود الصعود بداية من فبراير حتى سجل مستوى 3.2% في يوليو الماضي.
وحين النظر إلى مكونات سلة التضخم، نجد أن تكاليف السكن كان لها أثر كبير في تلك الزيادة والتي ارتفعت بنسبة 0.5%، وذلك نظرا لضعف النمو في عرض الوحدات السكنية والذي كان بدوره نتيجة لقيام الحكومة الإسرائيلية بترحيل العمال الفلسطينيين خارج الأراضي المحتلة، حيث تعتمد أعمال البناء بشكل رئيسي على الأيدي العاملة الفلسطينية.
وقد تزامن ذلك بالطبع مع تزايد الطلب على الوحدات السكنية خاصة من بعد قيام السلطات بإخلاء مستوطنات غلاف غزة ومستوطنات الشمال المحاذية للحدود اللبنانية.
وإضافة إلى ذلك، فإن أحد المكونات الأخرى لسلة التضخم والتي ساعدت أيضا في دفع التضخم لأعلى كان “تكاليف السفر” حيث شهدت تكاليف السفر ارتفاعا بنسبة 1.3% بما يعكس الطلب المتزايد على رحلات السفر للخارج وارتفاع مخاطر شركات الطيران.
وفي ظل الصدمة التي تلقاها الناتج المحلي الإسرائيلي، والتي انعكست في تحقيق انكماش لربعين متتاليين، فقد ارتفعت نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي من 60.7% في 2022 إلى 63.4% عام 2023 وفقا لأحدث البيانات.
خفض التصنيف الائتماني.. لا حرب بدون تمويل
إن تاريخ الاقتصاد السياسي يخبرنا بشكل واضح أن أكثر الظروف التي تكون الدول في أمس الحاجة فيها إلى التمويل هي ظروف الحرب، وحديثا، ظروف الانتخابات (حيث يستجدي الحزب الحاكم أصوات ناخبيه بالحزم المالية السخية).
وكثيرا ما شهد التاريخ الاقتصادي انهيار لعملات وانخفاض لقيمتها، بل وزوال لأنظمة نقدية بكاملها جراء الإسراف في الإنفاق العسكري الذي تتطلبه ظروف الحرب أو العدوان أو الاحتلال وما يتبع ذلك من تعاظم في مستويات الدين وتآكل للقوة الشرائية للعملة.
وفي هذا السياق، فقد شهدت إسرائيل خفض متتالي لمستوى التصنيف الائتماني الخاص بها من عدد من وكالات التصنيف. ففي فبراير الماضي، شهدت إسرائيل أول خفض للتصنيف الائتماني على الإطلاق من جانب وكالة “موديز” التي خفضت التصنيف الائتماني من A1 إلى A2، ثم تبعتها وكالة ستاندارد آند بورز بتخفيض التصنيف أيضا، ثم أخيرا وكالة “فيتش” في 13 أغسطس الجاري بخفض التصنيف الائتماني لإسرائيل لدرجة واحدة، من (A+) إلى (A) في ظل استمرار الحرب ومخاوف توسعها.
وقالت فيتش إن خفض التصنيف يعكس تأثير الحرب المستمرة في غزة، والتوترات الجيوسياسية المتزايدة والعمليات العسكرية على جبهات متعددة. وإضافة إلى ذلك فقد أبقت الوكالة على نظرتها المستقبلية السلبية، وهو ما يعني إمكانية خفضه مرة أخرى.
وقد عززت الوكالة من تلك المخاوف تجاه الاقتصاد الإسرائيلي بأن توقعت أن يسجل عجز الموازنة العام الحالي نحو 7.8% بما قيمته 33 مليار دولار وبما يمثل 65.7% من الناتج المحلي، وذلك مقارنة بالعجز المستهدف من وزارة المالية البالغ 6.6%.. وأن يبلغ 4.6% في العام المقبل. لكنه قد يكون أعلى إذا استمرت الحرب عام 2025 وامتدت إلى مناطق أخرى بالمنطقة.
في واقع الأمر لم تكن تلك المخاوف من ادعاء وكالات التصنيف الائتماني، فقد شهد على دولة الحاخامات شاهد من أهلها، حيث أصدر البنك المركزي الإسرائيلي تحديثا لتوقعات أداء الاقتصاد، معربا خلاله صراحةً عن مخاوف عالية من أثر الوضع الجيوسياسي على مستقبل الاقتصادي.
وقد ورفع البنك المركزي الإسرائيلي من توقعاته لمستوى التضخم لعام 2024 إلى 3% مقابل المستوى المتوقع سابقا عند 2.7%، ولعام 2025 عند مستوى 2.8% مقابل المستوى المتوقع سابقا عند 2.3%. كما خفض توقعاته للنمو الاقتصادي إلى 1.5% و4.2% خلال عامي 2024 و2025 على التوالي.
وفي بعد آخر من انعكاسات الحرب، فقد عكس أداء الشيكل الإسرائيلي “نيو شيكل” تلك المخاوف الائتمانية منذ أكتوبر الماضي، فعلى الرغم من ارتفاع الفائدة الإسرائيلية عند مستوى 4.5% -أي أعلى مستوياتها منذ يناير 2007- إلا أن الشيكل الإسرائيلي شهد تراجعا بنسبة 18% من قيمته فيما بين نهاية أكتوبر وحتى منتصف أغسطس.
الموانئ وطرق التجارة.. السواعد اليمنية تضرب سواحل إسرائيل
لم تتأثر أرقام الصادرات الإسرائيلية بالأزمة فحسب، بل تأثرت أيضًا مراكزها اللوجستية وطرق التجارة التي تربطها بالاقتصاد العالمي.
فقد وصل ميناء إيلات، بوابة إسرائيل على البحر الأحمر والبوابة الرئيسية للتجارة البحرية مع آسيا والخليج وأفريقيا، إلى حد التوقف التام والإفلاس وتراجع النشاط الملاحي في الميناء بنسبة 85% وتوقف الإيرادات لنحو 8 أشهر -بحسب موقع ورلد كارجو- وذلك نتيجة لضربات المقامة اليمنية المتمثلة في الحوثيين واستهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر والميناء نفسه، وبعض السفن المتجهة للموانئ الإسرائيلية من جنسيات أخرى.
وقد أعلن الرئيس التنفيذي لميناء “إيلات” عن نقل أعمال الميناء إلى مينائي “أسدود” و “حيفا” كما تدرس الإدارة تسريح نصف عدد موظفي الميناء والبالغ عددهم 120 موظفا وفقا لإحصاءات مايو الماضي.
وقبل شهرين تقريبا، نفذ الحوثيون إلى جانب المجموعات المتمركزة في العراق، هجومًا بطائرات بدون طيار على السفن الراسية في ميناء حيفا، ذلك الميناء الذي حذر “حزب الله” اللبناني من استهدافه بشكل واسع في حال تصاعد النزاع في شمال إسرائيل، وبالتالي فحتى الموانئ البديلة لا تعتبر في مأمن من النيران.
وكما هو واضح، فمع استمرار العدوان على غزة واحتمالات توسع الحرب، فستكون التهديدات الأمنية للموانئ الإسرائيلية وطرق التجارة البحرية في تزايد، حيث إن ضرب خطوط الشحن، حتى بدون حدوث أضرار مادية للموانئ، يمكن أن يؤدي إلى إفلاس هذه المرافق.
تضرر قطاع السياحة.. هل صارت إسرائيل وجهة منبوذة؟!
إن أحد أبرز العواقب المترتبة على تضرر صورة إسرائيل الدولية أمام شعوب العالم، وتزايد مؤشرات توسع الحرب، هو انخفاض عدد السياح الوافدين.
وتخبرنا الأرقام بشكل واضح عن مدى التضرر الذي طال قطاع السياحة في إسرائيل جراء تلك الحرب المشتعلة على مختلف الجبهات، ففي سبتمبر من 2023 سجل عدد السائحين نحو 304.1 ألف سائح، وانخفض هذا العدد بنسبة 70.5% خلال شهر واحد لتسجل 89.7 ألفا في أكتوبر، بما في ذلك يهود الشتات الذين يقيمون زيارات عائلية أو دينية، وبحسب أحدث البيانات فقد ارتفع ذلك الرقم قليلا إلى 108.3 ألف.
ويعد قطاع السياحة هو أقوى صناعة في القطاع الخدمي بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي، وهو الاقتصاد الذي يمثل القطاع الخدمي نحو 85% منه، كما أننا نجد أن خدمات السفر والنقل تأتي في المرتبة الثالثة والرابعة في ترتيب الصادرات الخدمية الإسرائيلية، واللذين بلغت قيمتهما 7.6 مليار و 4.3 مليار دولار على الترتيب وفقا لبيانات 2019 المنشورة في بوابة oec.world.
تراجع القطاع التكنولوجي يشكل تهديدا كبيرا
لطالما اكتسب الاقتصاد الإسرائيلي ميزة تنافسية في مجال التكنولوجيا الفائقة سواء بدعم من الشركات الناشئة أو الشركات العملاقة. وهو القطاع الذي صعد صعودا كبيرا في هيكل الاقتصاد الإسرائيلي حتى شكل نحو 20% من الاقتصاد وذلك وفقا لهيئة الابتكار الإسرائيلية.
وفي23 من يونيو للعام الجاري، أعادت صحيفة “ذا ماركر الاقتصادية” نشر تقريرا لوكالة بلومبرغ عن مجموعة كبيرة من رجال الأعمال البارزين وأصحاب الشركات العملاقة، وخاصة من قطاع التكنولوجيا الفائقة، الذين يفكرون ويخططون لدخول الساحة السياسية في إسرائيل، بسبب إحباطهم من الحكومة الحالية.
وذكر بإنهم يجرون مشاورات ومناقشات سرية – وإن كانت أولية – لدراسة خيارات مختلفة، بما في ذلك إنشاء حزب جديد، أو دعم أحد الأحزاب في إسرائيل اليوم.، جاءت هذه المداولات في وقت دعا فيه منتدى الأعمال الإسرائيلي، الذي يشارك فيه أعضاء أكبر 200 شركة إسرائيلية، لإجراء انتخابات مبكرة “لإنقاذ إسرائيل من أزمة اقتصادية عميقة.
وهذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها قطاع التكنولوجيا الفائقة التأثير على النقاش العام والمشهد السياسي في إسرائيل في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد أن قدمت الحكومة خطتها لتقييد القضاء في العام 2023. والقطاع اكتفى حتى الآن بلعب دور داعم وممول لحركات الاحتجاج ضد الخطة المذكورة، والتحذير من مخاطرها على الاقتصاد الإسرائيلي بشكل عام، وقطاع التكنولوجيا العالية بشكل خاص. فضلاً عن ذلك، فمنذ بداية الحرب على غزة، بادر هذا القطاع في عدة مناسبات إلى التعبير عن مواقف علنية تنتقد وتعارض سياسات حكومة نتنياهو، بما في ذلك السياسات الأمنية والاقتصادية بل وإعفاء طلاب المؤسسات الدينية من الخدمة العسكرية.
وقد بدأت نقاط الضعف تظهر في الوضع الحالي. فوفقاً لتقرير صادر عن مؤسسة “RISE Israel”، وهي أحد مراكز الأبحاث الإسرائيلية المستقلة، تراجع تمويل الشركات الناشئة في البلاد لما متوسطه 1.6 مليار دولار من التمويل في كل ربع سنوي منذ بدء الحرب، مقارنة بحوالي 2 مليار دولار قبل الحرب، وهو المستوى الذي لم يهبط إليه مستوى تدفقات التمويل منذ عام 2017.
وفي هذا السياق فقد سجل مؤشر ثقة المستثمر انخفاضا حادا إلى -1.92 نقطة في أكتوبر الماضي (وهو أدنى مستوى منذ مايو 2020، ثم عاد ليتعافى إلى مستوى 18.2 نقطة، غير أن ذلك المستوى لا يزال أدنى مستوى منذ أبريل 2021.
انخفاض 23% في عدد كيانات الاستثمار الأحنبي النشطة
هذا بالإضافة لبعض التأثيرات السلبية أيضا التي أحدثتها الحرب على قطاع التكنولوجيا، ومنها التباطؤ في عمليات التطوير والتأخير في الجدول الزمني لتسليم المنتجات، وتجنيد عدد كبير من العاملين في قطاع التكنولوجيا الحديثة في قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي والذي بلغ نحو 7% من إجمالي العاملين في القطاع. ك
كما قامت بعض الشركات بنقل مكاتبها إلى خارج إسرائيل، في حين انتقل بعض الموظفين إلى دول أوروبية. وهو ما يبشر بأن استمرار وتوسع الحرب يمكن أن يوجه ضربة خطيرة لواحد من أقوى القطاعات الاقتصادية لدى إسرائيل.
إلى أين تقود الحرب الاقتصاد الإسرائيلي؟
يمكن قراءة ما قد تؤول إليه الأمور فيما نقلته وكالة “بلومبيرج” عن تفكير مجموعة كبيرة من كبار رجال الأعمال، خاصة في مجال التكنولوجيا، في تكوين حزب سياسي ينافس الحزب الحاكم الحالي، في إشارة كبيرة لإحباطهم من اتجاه الحكومة الحالية وإشارة أيضا إلى المخاوف الاقتصادية التي يرونها مستقبلا من استمرار الحرب وتوسعها.
وتعكس الأرقام الواقعية بالفعل تلك المخاوف، فحين نرى أن معدل النمو في التوظيف، في أحد أسرع القطاعات نموا، تراجع من 10% في2022 إلى 2.6% في 2023 ندرك حجم الضغوط التي يتعرض لها الاقتصاد وإلى أي دركٍ يمكن أن يهبط به نتنياهو.