لم يكن صعود دولة الإمارات العربية المتحدة إلى مصاف القوى الإقليمية الفاعلة حدثًا عابرًا، بل جاء نتيجة استخدام مدروس لثرواتها وتحالفاتها، ووعي استراتيجي بأهمية التموضع الجغرافي والتأثير السياسي. فمن دولة ناشئة خرجت من عباءة الحماية البريطانية في سبعينيات القرن الماضي، إلى قوة شبه إمبريالية تُعيد رسم موازين النفوذ في الشرق الأوسط وأفريقيا، اتخذت الإمارات من أدواتها الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية وسيلة لبناء تأثير عابر للحدود، بات محسوسًا في دوائر القرار الإقليمي والدولي.
ومن أبرز تجليات هذا النفوذ، الحضور الإماراتي المتزايد في أفريقيا، والذي ارتكز على استراتيجية دقيقة تتمحور حول السيطرة على الموانئ ومحاور الخدمات اللوجستية. فقد بلغت استثمارات أبوظبي ودبي في القارة ما يناهز 60 مليار دولار على مدى العقود الماضية، مما جعل الإمارات رابع أكبر مستثمر أجنبي مباشر في أفريقيا، بعد الصين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. اللافت أن وتيرة هذا الاستثمار تصاعدت بشكل غير مسبوق، إذ تعهدت الإمارات خلال العامين الماضيين وحدهما بضخ ما يقرب من 97 مليار دولار جديدة، وهو رقم يتجاوز بثلاثة أضعاف ما التزمت به الصين في الفترة ذاتها.
تركّز جوهر الاستراتيجية الجيوسياسية الإماراتية في أفريقيا على الهيمنة على الموانئ البحرية الممتدة حول القارة، من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي، كمدخل للسيطرة على مسارات التجارة العالمية وكمفاتيح ضغط جيوسياسي. وتكامل هذه السيطرة البحرية مع بنية لوجستية داخلية تشمل مناطق تخزين، وسلاسل توريد، ومراكز توزيع في العمق الأفريقي، ما يمنح الإمارات نفوذًا يتجاوز الاقتصاد إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية.
اللاعبان الرئيسيان في هذا التمدد هما “مجموعة أبوظبي للموانئ”، التي تديرها شركة أبوظبي التنموية القابضة (ADQ) التابعة لصندوق الثروة السيادي، و”موانئ دبي العالمية”، المملوكة بالكامل لحكومة دبي عبر شركة الموانئ والمناطق الحرة العالمية (FZE). وبينما تتخذ الأولى من البحر الأحمر محورًا لحركتها، تركز الثانية على موانئ القرن الأفريقي والبوابات الاستراتيجية على المحيط الهندي، في تناغم واضح بين الطموح الاقتصادي والمقصد الجيوسياسي.
استراتيجية السيطرة على الموانئ
واصلت الشركات الإماراتية، وفي مقدمتها “موانئ دبي العالمية” و”مجموعة أبوظبي للموانئ”، توسيع حضورها عبر القارة الأفريقية، من خلال مشاريع بنى تحتية بحرية وبرية تشمل إنشاء وتشغيل موانئ ومراكز لوجستية في مواقع استراتيجية. وقد وقعت هذه الشركات اتفاقيات تشغيل أو شرعت فعليًا في إدارة موانئ تمتد من شمال أفريقيا على شواطئ البحر الأبيض المتوسط (كما في الجزائر ومصر)، إلى سواحل غرب وجنوب القارة على المحيط الأطلسي (أنغولا، جمهورية الكونغو، الكونغو الديمقراطية، غينيا، السنغال)، وصولًا إلى الموانئ الواقعة على المحيط الهندي في شرق أفريقيا (كينيا، موزمبيق، تنزانيا).
أما منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، فقد شكّلت محورًا مركزيًا في الاستراتيجية الإماراتية، مع مشاريع قائمة أو قيد التفاوض في مصر، أرض الصومال، بونتلاند، والسودان، إضافةً إلى ميناء جيبوتي الذي أصبح موضع نزاع قانوني طويل بين “موانئ دبي العالمية” والحكومة الجيبوتية. كما يُذكر أن للإمارات سابق تجربة تشغيل ميناء في إريتريا، استُخدم أيضًا لأغراض عسكرية في اليمن، قبل أن يتوقف في ظروف سياسية متغيرة. وفي السودان، تم توقيع اتفاق موانئ لاحقًا أُلغي على خلفية التحولات الجذرية في المشهد الأمني والسياسي.
ولم يقتصر الحضور الإماراتي على الموانئ الساحلية، بل امتد إلى الداخل الأفريقي عبر الاستثمار في الموانئ الجافة ومراكز الحاويات، حيث أنشأت الإمارات محاور لوجستية مهمة في المغرب ونيجيريا ورواندا وتنزانيا وجنوب أفريقيا، ضمن شبكة أوسع تضم أكثر من سبعين مركزًا لوجستيًا عبر القارة. وتؤدي هذه المنشآت دورًا مركزيًا في الاستراتيجية الإماراتية “شبه الإمبريالية”، إذ لا تقتصر وظيفتها على تسهيل عمليات النقل والاستخراج، بل تُستخدم كأذرع للتحكم بسلاسل الإمداد، وتعزيز النفوذ العسكري والاقتصادي في القارة، وربط أفريقيا بخطط النفوذ الإقليمي الإماراتي التي تمتد من البحر الأحمر إلى عمق القرن الأفريقي والمحيط الهندي.
الإمارات وبناء النفوذ عبر الاستحواذ على المعادن الأفريقية
على مدى السنوات الأخيرة، صعّدت دولة الإمارات العربية المتحدة من انخراطها في قطاع التعدين في القارة الأفريقية، مركزة استثماراتها على معادن استراتيجية كالليثيوم، الكوبالت، النحاس، الجرافيت والنيكل، في دول مثل أنغولا، جمهورية الكونغو الديمقراطية، زامبيا، وزيمبابوي. غير أن ما يثير القلق بصورة متزايدة هو الدور المتنامي للإمارات، وبالأخص لإمارة دبي، في تجارة الذهب غير النظامية. إذ تُعد دبي ثاني أكبر مستورد للذهب عالميًا، والوجهة الأبرز للذهب الأفريقي، حتى من دول لا تنتج فعليًا كميات كبيرة من المعدن، مثل رواندا وأوغندا. وفي كثير من الأحيان، تُظهر البيانات تفاوتًا صارخًا بين صادرات هذه الدول من الذهب والواردات المُعلنة من الجانب الإماراتي، ما أثار اتهامات متكررة بتحول دبي إلى محور رئيسي لتهريب الذهب وغسل الأموال، عبر مصافيها وأسواقها غير الخاضعة لرقابة صارمة.
وقد أكدت وزارة الخزانة الأمريكية عام 2022 أن أكثر من 90٪ من الذهب المُستخرج في جمهورية الكونغو الديمقراطية يُهرَّب إلى دول الجوار كأوغندا ورواندا، ومنها يُعاد تصديره إلى الأسواق العالمية، وعلى رأسها الإمارات العربية المتحدة. السودان، كذلك، يشكل نموذجًا لافتًا؛ إذ يُقدّر أن كميات ضخمة من الذهب السوداني تُهرَّب إلى الإمارات، حتى في خضم الحرب الأهلية الراهنة. وتورطت في هذه العمليات كل من قوات الدعم السريع والجيش السوداني، وهو امتداد لتحالفهما السابق في مواجهة الحكومة المدنية خلال المرحلة الانتقالية بين عامي 2019 و2021. ما يتكشف في هذا السياق هو دور مزدوج: الإمارات ليست فقط مستثمرًا في الثروات المعدنية، بل أيضًا منصة لتدوير الثروات المنهوبة من دولٍ أفريقية هشة، عبر أدوات التمويل غير الشفافة، والأنظمة التي تسهّل الإفلات من المحاسبة، في مشهدٍ يُعيد إلى الأذهان صيغًا إمبريالية بأدوات معاصرة.
محاولات هيمنة إماراتية عبر الشراكات العسكرية
لم تعد الاستثمارات الإماراتية في أفريقيا تقتصر على الموانئ والمعادن، بل تمددت لتشمل ملفًا حساسًا واستراتيجيًا: التعاون العسكري. فقد أبرمت دولة الإمارات العربية المتحدة سلسلة متصاعدة من الاتفاقيات العسكرية مع الدول التي تنشط فيها اقتصاديًا، ما يعكس نمطًا واضحًا من الدمج بين النفوذ الاقتصادي والتوسّع العسكري. وغالبًا ما تبدأ هذه الاتفاقيات بمبادرات تدريب وتأهيل عسكري، ليتطور الأمر لاحقًا إلى تصدير أسلحة إماراتية، بل ونشر قوات ومعدات لوجستية في مناطق نزاع فعلي. ويتّضح هذا بجلاء في مشاركتها بعمليات قتالية ضد الجماعات المتطرفة في الساحل والصومال، فضلاً عن تدخلها في حملة حلف الناتو في ليبيا.
وعلى الأرض، أسست الإمارات قواعد عسكرية في كل من تشاد، إريتريا، ليبيا، الصومال، وبالأخص في إقليمي بونتلاند وصوماليلاند غير المعترف بهما دوليًا. واستخدمت هذه القواعد في دعم العمليات العسكرية الإماراتية أو لتأمين مصالحها بالوكالة، بما في ذلك دعم ميليشيات محلية كما في ليبيا، حيث كانت أحد أبرز ممولي وداعمي قوات اللواء خليفة حفتر منذ الحرب الأهلية الثانية عام 2014، إذ وفّرت له الدعم السياسي والعسكري والمالي، بل وانتهكت قرارات مجلس الأمن بحظر توريد السلاح عبر شحنات صينية وروسية، واستعانت بمرتزقة لخدمة أجندتها.
وفي إثيوبيا، برزت أبوظبي كفاعل مفصلي في تغيير موازين الحرب، إذ أمدّت حكومة آبي أحمد بطائرات مسيّرة كانت حاسمة في ضرب قوات التيغراي.
دراسة حالة الإمارات والسودان: طموحات إمبريالية بثوبٍ ليبرالي
في السودان، تبرز بوضوح ملامح ما يمكن وصفه بـ”الإمبريالية الإماراتية” التي تمارسها دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تُجسد امتدادًا لنهجها القائم على إعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي، واستغلال الأزمات لتوسيع دوائر نفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي. فقد جاء انخراط الإمارات المتزايد في الشأن السوداني خلال العقد الأخير ليعكس طموحات تتجاوز حدود الشراكة التقليدية، متجهة نحو ممارسة أدوار حاسمة في رسم ملامح السلطة وتوجيه مسارات الحكم في دول تمر بمراحل انتقالية حساسة.
فبالتعاون مع المملكة العربية السعودية، انخرطت الإمارات في السنوات الماضية في تجنيد آلاف المقاتلين السودانيين – سواء من الجيش النظامي أو من قوات الدعم السريع – للقتال ضمن قوات التحالف في حرب اليمن، ما فتح بوابة التأثير العسكري والسياسي على مراكز القرار في الخرطوم. كما موّلت الإمارات الحكومة اليسارية بقيادة عبد الله حمدوك، إثر انتفاضة شعبية عارمة بدأت في ديسمبر 2018، وأسقطت الرئيس الأسبق عمر البشير، فيما عُرف بثورة ديسمبر.
وعقب الإطاحة بالبشير، سعت أبوظبي، إلى صياغة مشهد سياسي جديد في السودان، عبر فرض عملية انتقالية ليبرالية تقوم على تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين. غير أن هذه الصيغة الهجينة سرعان ما انكشفت عن دعم غير مشروط للعسكر، إذ عمدت أبو ظبي إلى تحجيم الدور المدني، وتعزيز هيمنة العسكريين بالمال والسلاح والدعم السياسي، ما أدى إلى تقويض آمال السودانيين في التحول الديمقراطي.
في هذا السياق، مارست الإمارات ضغوطًا مباشرة لحمل السودان على الانضمام إلى اتفاقيات التطبيع المعروفة بـ”اتفاقيات إبراهيم”، ما أدرجه ضمن المحور الإقليمي الذي تسعى الإمارات لتشكيله، والقائم على التعاون الأمني والسياسي مع إسرائيل. ومع احتدام التوتر بين الجيش وقوات الدعم السريع، انحازت الإمارات بشكل متزايد إلى صف ميليشيا حميدتي، ووفرت لها دعمًا سياسيًا ولوجستيًا وماليًا وإعلاميًا واسع النطاق، وصولًا إلى اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، التي تحولت إلى واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية على مستوى العالم.
وقد شكّلت الإمارات مركزًا إقليميًا لتمويل وتسيير أنشطة قوات الدعم السريع، عبر قنوات متعددة، شملت شركات وشخصيات مقربة من السلطة، وتعاونًا خفيًا مع جهات دولية وإقليمية مثل مجموعة فاغنر الروسية (التي كانت تعمل قبل تفكيكها)، وميليشيا حفتر الليبية، فضلًا عن علاقات مع أطراف في تشاد. ووصل الأمر إلى استقدام مرتزقة من دول مثل كولومبيا للقتال إلى جانب قوات حميدتي، في انتهاك صريح للقانون الدولي، وللمعايير الأخلاقية والسيادية.
ومع كل هذا الانخراط الجلّي، واصلت الإمارات نفي تورطها المباشر، زاعمة أنها طرف محايد يسعى إلى الوساطة وتحقيق السلام. إلا أن الصمت الدولي – الأميركي والبريطاني تحديدًا – فاقم من تعقيد المشهد، إذ امتنعت هاتان القوتان عن توجيه أي لوم جاد لأبوظبي، خشية خسارة شراكاتها الاستراتيجية معها. ويُذكر أنه في أبريل 2024، ألغت الإمارات اجتماعات رفيعة مع بريطانيا احتجاجًا على موقفها غير الحازم في الدفاع عنها بمجلس الأمن. كما أعرب مسؤولون أميركيون عن امتعاضهم عندما دعم المبعوث الخاص توم بيرييلو مغني الراب الأميركي ماكليمور في إلغاء حفل له في دبي، احتجاجًا على دعم الإمارات لقوات الدعم السريع.
رغم جميع التقارير الأممية في هذا السياق، تُبدي القيادة الإماراتية حساسية مفرطة تجاه أي تغطية إعلامية من شأنها أن تُسيء إلى صورتها العامة أو تُحرجها أمام شركائها الدوليين. فالإعلام، لا سيما الغربي، يُعدّ بالنسبة لأبوظبي بوابة ضغط لا يمكن تجاهلها.
وتُبرهن الحرب في السودان على مدى تأثر سلوك الإمارات بهذا البعد الإعلامي، حيث يتجلّى ذلك في تفاعلها مع التقارير الصحفية الدولية وتوقيت إعلان المبادرات الإنسانية والعسكرية. فعلى سبيل المثال، في الرابع من يوليو 2024، وبعد مرور أربعة أيام فقط على كشف أحد متتبعي حركة الطيران عن زيادة ملحوظة في الرحلات الجوية الإماراتية المتجهة إلى منطقة أم جرس في تشاد – وهي نقطة استراتيجية قريبة من ميدان الصراع السوداني – بادرت الإمارات إلى إعلان افتتاح مستشفى في المنطقة، في خطوة بدا أنها جاءت كاستجابة استباقية لتجنّب الانتقادات.
تكرّر المشهد بصورة أكثر وضوحًا في نهاية سبتمبر من العام نفسه، حين نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تحقيقًا مُوسعًا أدان ما وصفه بالعملية السرية التي نفذتها الإمارات لتزويد قوات الدعم السريع بالأسلحة والطائرات المسيّرة، فضلًا عن علاج جرحى تلك القوات. لم يمضِ سوى يومين، حتى ظهرت الإمارات في الإعلام الرسمي عبر وكالة أنبائها، من خلال خبر استقبال رئيس تشاد في أبوظبي، مشيدًا بالجهود الإنسانية الإماراتية في بلاده. وفي اليوم التالي مباشرة، أعلنت وزارة الدفاع الإماراتية عن مناورات عسكرية مشتركة مع تشاد. كل تلك التحركات، وتوقيتاتها المدروسة، تؤكد أن السلوك الإماراتي محكوم بمنطق التوازن بين الطموح السياسي والاقتصادي من جهة، وحسابات الصورة الدولية والضغط الإعلامي من جهة أخرى. إذ تدرك الإمارات تمامًا أن صورتها ليست ترفًا، بل أداة استراتيجية تحفظ بها حضورها وسط منافسة إقليمية وعالمية محتدمة.
في المقابل، بدأ الشارع السوداني يدرك أن ما يجري يتجاوز مسألة النفط أو محاربة الإسلاميين، فحتى داخل قيادة قوات الدعم السريع عناصر من النظام السابق نفسه. الواضح أن ما يحرك أبوظبي هو استراتيجية قائمة على كبح أي حراك شعبي أو ديمقراطي في المنطقة، حفاظًا على النموذج السلطوي الذي تتبناه. فباسم “شراكات اقتصادية” ومشاريع التنمية، يجري تبرير تدخلات لا تختلف – في الجوهر – عن ممارسات القوى الاستعمارية القديمة. لكنها اليوم تُنفذ بأدوات ناعمة، ومفردات حديثة، وبتكلفة بشرية باهظة لا يدفعها إلا أبناء السودان وحدهم.
ختامًا: اتضحّ للعالم الإسلامي مؤخرًا، أن هذا التشابك بين الاستثمارات الاقتصادية والتمدد العسكري يعكس ما يمكن وصفه بـ”العقيدة الجيوسياسية الإماراتية”، حيث تتجاوز أدوات النفوذ التقليدي، لتتخذ شكلاً هجينيًا من القوة الناعمة والصلبة وشراء الولاءات ودعم الميليشيات لإسقاط أي حلم ديمقراطي، بما يؤكد الطابع شبه الإمبريالي لسلوكها الخارجي، ويعيد رسم الجغرافيا السياسية للقرن الأفريقي وأفريقيا جنوب الصحراء على وقع مصالح ضيقة تقودها أبوظبي من خلف الستار، ضاربةً أمن واستقرار أفريقيا.