لطالما عُرفت جنوب إفريقيا بمواقفها الداعمة للقضية الفلسطينية، مستندة إلى تجربتها في مواجهة نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) الذي عاشته في الماضي. وترى جنوب إفريقيا في الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين صورة مشابهة لما مرّت به من قمع وظلم، مما جعل التضامن مع الفلسطينيين جزءًا أساسيًا من سياستها الخارجية. ومع تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة (GNU) في عام 2024، والتي تضم أحزابًا مؤيدة لإسرائيل، أثيرت تساؤلات حول إمكانية تغيّر موقفها من القضية الفلسطينية.
تاريخ دعم جنوب إفريقيا لفلسطين
يعود تضامن جنوب إفريقيا مع فلسطين إلى حقبة الفصل العنصري (الأبارتهايد). فقد تبنى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC)، الذي قاد الكفاح ضد الأبارتهايد، موقفًا مؤيدًا لفلسطين، معتبرًا القضية الفلسطينية قضية تحرر ومناهضة للاستعمار. واستمر هذا الارتباط بعد انتهاء نظام الفصل العنصري 1994، حيث واصلت الحكومات المتعاقبة بقيادة حزب المؤتمر دعم حق الفلسطينيين في تقرير المصير ومعارضة للسياسات الإسرائيلية التي رأوا أنها امتداد لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
وتحت قيادة الرئيس نيلسون مانديلا، تبنت جنوب إفريقيا موقفًا حازمًا في المحافل الدولية، داعيةً إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية. وصرّح مانديلا في أحد خطاباته الشهيرة قائلاً: “نعلم جيدًا أن حريتنا غير مكتملة دون حرية الفلسطينيين”. وقد تكررت هذه المشاعر على لسان القادة اللاحقين وظلت حجر الزاوية في السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا.
قضية جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل
في السنوات الأخيرة، اتخذت جنوب إفريقيا خطوات مباشرة على الساحة الدولية؛ ففي ديسمبر 2023، بعد أن بدأت إسرائيل حربها الدموية الحالية في غزة – التي أسفرت حتى الآن عن مقتل أكثر من 42,000 فلسطيني – رفعت جنوب إفريقيا دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، متهمةً إياها بارتكاب إبادة جماعية خلال عملياتها العسكرية في غزة. جاءت هذه الخطوة بعد سنوات من تصاعد العنف في المنطقة، بما في ذلك حرب 2023 التي شهدت مقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين.
و لعبت وزيرة الخارجية السابقة، ناليدي باندور، دورا رئيسيًا في هذه القضية، مؤكدة أن ما تفعله إسرائيل في غزة يرتقي إلى جرائم ضد الإنسانية. ومنذ تقديم الدعوى الأولى في ديسمبر 2023، قدمت حكومة جنوب إفريقيا عدة مذكرات إضافية إلى المحكمة بشأن أحداث مختلفة، مثل الهجوم على مدينة رفح.
عُيّن رونالد لامولا وزيرًا للخارجية في 2024، وتولى مسؤولية متابعة هذه القضية، وهو الذي لعب دورًا محوريًا في تقديم الملف أثناء عمله كوزير للعدل في الإدارة السابقة، حيث تعاون مع الفرق القانونية لتقديم رفوعات جنوب إفريقيا. ويعكس توليه وزارة الخارجية استمرارية النهج تجاه القضية الفلسطينية رغم التغيرات السياسية داخل حكومة الوحدة الوطنية.
المخاوف حول تشكيل حكومة الوحدة الوطنية
تشكلت حكومة الوحدة بعد فشل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في تحقيق أغلبية مطلقة في الانتخابات الوطنية لعام 2024، حيث حصل على 40% فقط من الأصوات، وهي المرة الأولى التي يضطر فيها إلى الحكم في ائتلاف مع بقية الأحزاب منذ توليه السلطة عام 1994. ويضم الائتلاف حزب التحالف الديمقراطي (DA)، الذي يعتبر مؤيدًا لإسرائيل تاريخيًا، إلى جانب حزبي إنكاثا والائتلاف الوطني، اللذين تبنيا مواقف مؤيدة لإسرائيل في الماضي. وأثار هذا التشكيل مخاوف من احتمال تأثير هذه الأحزاب على سياسات الحكومة المستقبلية تجاه فلسطين.
لكن المدير التنفيذي لمركز إفريقيا والشرق الأوسط، نعيم جينا، قلل من أهميه هذه المخاوف، حيث أكد أن وجود أحزاب مؤيدة لإسرائيل في الحكومة لا يعني بالضرورة تغيّر سياسة جنوب إفريقيا تجاه فلسطين. وقال: “لا ينبغي أن نتوقع تغيّر موقف جنوب إفريقيا من فلسطين، ولا تراجع حماسها في متابعة القضية أمام محكمة العدل الدولية”. وأشار إلى أن تعيين لامولا وزيرًا للخارجية دليل واضح على التزام الحزب بالقضية الفلسطينية.
وأضاف جينا أن التحالف الديمقراطي، رغم كونه أكبر الأحزاب المؤيدة لإسرائيل في الائتلاف، اختار التركيز على القضايا المحلية بدلاً من السياسة الخارجية، قائلاً: “التدخل في السياسة الخارجية، خاصة بشأن فلسطين، لن يخدم حملتهم الانتخابية لعام 2029”.
توازن القوى داخل حكومة الوحدة الوطنية
الرغم من مشاركة أحزاب ذات توجهات مختلفة في حكومة الوحدة، يظل حزب المؤتمر الوطني مسيطرًا على وزارة الخارجية. كما تضم الحكومة أحزابًا مؤيدة لفلسطين بقوة، مثل حزب المؤتمر الإفريقي وحزب الجماعة. وقد ذهب حزب الجماعة إلى حد المطالبة بتقديم دعم عسكري للمقاومة الفلسطينية في غزة.
هذا التنوع الأيديولوجي يعكس أن حزب المؤتمر لن يواجه معارضة كبيرة داخل الحكومة فيما يتعلق بموقفه المؤيد لفلسطين.
وأكد جينا أن حزب التحالف الديمقراطي لن يخاطر بزعزعة استقرار الحكومة بسبب قضية خارجية مثل فلسطين. وقال: “لن يخاطر التحالف بانهيار الحكومة على خلفية قضية خارجية قد تضر بمصلحته الانتخابية”. وسيعكس هذا النهج استراتيجية التحالف داخل الحكومة، حيث يسعى لإثبات جدارته في الوزارات التي يديرها لتعزيز فرصه في انتخابات 2029.
دور جنوب إفريقيا في الساحة الدولية
تمثل قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية أكثر من مجرد معركة قانونية؛ فهي تعكس المبادئ التي تقوم عليها السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا، والتي طالما دعت إلى حل النزاعات الدولية عبر التعددية واحترام حقوق الإنسان والعدالة.
سيكون للنتائج المحتملة للقضية تداعيات كبيرة على كل من إسرائيل وفلسطين، وكذلك على مكانة جنوب إفريقيا الدولية؛ فإذا حكمت المحكمة لصالح جنوب إفريقيا، فقد يشكل ذلك سابقة لدول أخرى لاتخاذ إجراءات قانونية ضد إسرائيل، مما سيزيد من عزلتها الدولية ويكثف الضغط من أجل إيجاد حل للوضع في فلسطين.
حرب غزة وتأثيرها
شكل الاحتلال الإسرائيلي المستمر لفلسطين، خاصة الهجمات المتكررة على غزة التي بدأت في 2023، ولا تزال مستمرة، نقطة تحول في موقف المجتمع الدولي من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؛ حيث تسبب حجم الدمار والعدد الكبير للضحايا المدنيين في إدانات واسعة النطاق، ودعوات متزايدة لوقف إطلاق النار ورفع الحصار عن غزة. وكان قرار جنوب إفريقيا برفع دعوى إبادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية مدفوعًا بأحداث هذه الحرب.
رغم التحديات التي فرضها تشكيل حكومة الوحدة، إلا أنه من المرجح أن تستمر قيادة جنوب إفريقيا في القضية أمام المحكمة والتزامها التاريخي بحقوق الفلسطينيين. ومع تولي لامولا وزارة الخارجية، ستتابع الدول عن كثب كيفية توازن جنوب إفريقيا بين تحدياتها السياسية الداخلية ومسؤولياتها الدولية.
ومنذ بداية الإبادة الجماعية على غزة، لا تزال الأوضاع كارثية؛ ووفقًا للأمم المتحدة، يعيش أكثر من 2.3 مليون شخص في غزة تحت حصار خانق، مع محدودية الوصول إلى الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والماء والإمدادات الطبية، وفي ظل تفاقم الأزمة الإنسانية، يزداد دور جنوب إفريقيا في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين أهمية على الساحة الدولية.