اتفاق 8 أغسطس 2025 بين أذربيجان وأرمينيا، الذي رعته الولايات المتحدة واحتضنه البيت الأبيض، لم يكن مجرّد إنهاء فصل من الصراع الممتد منذ التسعينيات، بل كان خطوة لإعادة تشكيل البنية الجيو–اقتصادية والأمنية في جنوب القوقاز. أهم ما في الاتفاق هو إنشاء ممر زنغزور، الذي يربط أذربيجان بجمهورية نخجوان ثم بتركيا عبر جنوب أرمينيا، تحت إدارة تطوير لشركة أميركية ولمدة 99 عاما. هذا الترتيب، الذي أُطلق عليه اسم “طريق ترمب للسلام والازدهار الدولي” يفتح نافذة على واقع جديد يتحول فيه جنوب القوقاز كحلقة وصل بين محاور تجارة وطاقة عالمية. فالممر ليس مجرد خط نقل؛ إنه بنية تحتية مشحونة بمعاني السيادة، والهوية، والربط بين الأسواق. وبذلك، فهو يختبر قدرة الدول المحيطة على تحويل الجغرافيا إلى مكاسب أو تحملها كعبء استراتيجي.
تاريخ الجنوب القوقازي حافلٌ بالترتيبات الأمنية التي تعجز عن تحويل الجغرافيا إلى قيمة اقتصادية مستدامة. الجديد في ممر زنغزور أو طريق ترمب، أنه يزاوج بين ثلاثة عناصر: (1) الوظيفة: ربطٌ شرقي–غربي سريع بين آسيا الوسطى/أذربيجان وتركيا/أوروبا؛ (2) الحوكمة: إدارة وتطوير حصريان للولايات المتحدة، بما يعني إدخال طرفٍ خارجي ضامنٍ للاستثمار والمعايير التشغيليةوضامن لعدم تدخل أطراف ثالثة لتقويض المشروع مثل إيران وروسيا؛ (3) الرسالة: تحوّل مركز الثقل في ملف القوقاز من الرعاية الروسية إلى منصّةٍ أميركية تُعيد تشكيل سلاسل التوريد والطاقة والاتصالات. ويتضمنالمسار رخص تطوير حصرية ممتدة، واهتماما مبكرا من شركات أميركية، مع تسويقٍ رسميّ للممر بوصفه ناقلا للطاقة والموارد، لا مجرد طريق ترانزيت وهذا يرفع سقف التوقعات حول ربط خطوط الغاز والكهرباء والألياف والسكك، ويفتح نافذة أمام التكامل مع “الممر الأوسط“القاري بين آسيا وأوربا.
لكن الإدارة الأمريكية للممر ليست تفصيلا إجرائيا؛ فهي تقلل المخاطر السيادية لدى أرمينيا (التوازن بين المبادئ الدستورية وواقعية موقعها المتنازع عليها مع تركيا وأذربيجان)، وتضبط شهية اللاعبين الإقليميين: تمنح أنقرة مسارا موثوقا لتسريع تكاملها التركي–الآسيوي، وتمنح باكو رافعة لتتويج نصرها في حرب 2023 مع أرمينيا، اقتصاديا، لكنها في الوقت نفسه تقطع على موسكو فرصةَ استعادة دور “الضامن” الوحيد، وتخلق لإيران بيئة تشغيلٍ لا تتحكم فيها ولا تمر عبر أراضيها. بكلماتٍ أخرى، طريق ترمب ليس “ممرّا”، بل معيارُ تشغيلٍ جديد لشبكات الربط في القوقاز يتضمن تأمينٌ سياسي خارجي، معادلات ربحية واضحة.
هذا التحوّل يُجبر جميع الأطراف على إعادة حسابات التكلفة/المنفعة:
لأوروبا، نافذة تنويعٍ إضافية بعيدا عن المسارات الروسية والإيرانية.
لواشنطن، منصة نفوذٍ لوجستي ونفوذ في مجال الطاقةذات عائد جيوسياسي لأمريكا عابر للمنطقة.
للفاعلين المحليين، مكاسب نموّ، لكنها مشروطة باستقرار أمني وحوكمة شفافة وقدرة على “توطين” المزايا في الاقتصاد الوطني (المناطق الحرة، سلاسل القيمة، الخدمات المالية، التأمين اللوجستي) وهذا يشمل جميع الدول التي يمر عبرها الممر بما في ذلك أذربيجان وأرمينيا وتركيا.
بالنسبة لتركيا، جاء الممر كاستجابة مباشرة لطموح طال انتظاره. فمنذ سنوات، سعت أنقرة إلى إكمال ما يُعرف بـ”الممر الأوسط” وهو شبكة النقل والتجارة التي تربط الصين وآسيا الوسطى بأوروبا عبر بحر قزوين وأذربيجان وجورجيا وصولا إلى الأراضي التركية. كان غياب رابط بري مباشر مع أذربيجان، دون المرور بإيران أو الارتهان للطرق الأرمنية التقليدية، يشكل ثغرة استراتيجية. اليوم، ومع ممر زنغزور، تسد تركيا تلك الثغرة وتختصر المسافات والزمن، لتضع نفسها على الخريطة كعقدة رئيسية لا غنى عنها في تدفقات التجارة والطاقة بين الشرق والغرب.
لكن المكاسب التركية لا تقتصر على الجغرافيا الاقتصادية. هناك بُعد جيو–ثقافي يتسلل في خلفية هذا المشروع؛ فالممر يفتح خط اتصال مادي ورمزي بين الدول الناطقة بالتركية من الأناضول حتى قلب آسيا الوسطى. إنه يُجسد فكرة “الفضاء التركي” التي تسعى أنقرة إلى تعزيزها عبر مجلس الدول التركية، ويوفر منصة عملية لترجمة الروابط اللغوية والثقافية إلى نفوذ اقتصادي وسياسي ممتد.
اقتصاديا، تتعامل أنقرة مع الممر كأصل استراتيجي طويل الأمد، لا كمجرد طريق. خطوط الغاز والكهرباء التي يمكن أن تمر عبره، والبنية التحتية الرقمية التي قد تُدمج مع مساره، تَعِد بتحويله إلى قناة طاقة ومعلومات تعزز من دور تركيا كمركز إقليمي للتوزيع والتسعير. كما أن الفرص اللوجستية، من المناطق الحرة إلى مراكز التوزيع الإقليمية، تفتح الباب أمام جذب سلاسل الإمداد الأوروبية–الآسيوية في وقت يشهد فيه العالم إعادة هيكلة جذرية لمسارات التجارة ومحاولة الابتعاد عن المرور في الدول التي تخضع للعقوبات مثل إيران وروسيا.
غير أن هذه الفرصة التاريخية محفوفة بقيود لا يمكن تجاهلها. الإدارة الأميركية للممر تمنح واشنطن موقعا مهيمنا في التحكم بإيقاع العمل والاستثمار، ما قد يحد من حرية الحركة التركية إذا توترت علاقات أنقرة مع شركائها غير الغربيين، مثل روسيا أو إيران أو الصين. كما أن حساسية الوضع السياسي في أرمينيا تضيف عنصر عدم يقين، إذ يمكن لأي اضطراب داخلي أو عودة الجدل حول “التنازلات السيادية” أن يبطئ تنفيذ المشروع أو يرفع تكاليف تشغيله. وفوق ذلك، تدرك تركيا أن الممر يثير حفيظة كلٍّ من طهران وموسكو، اللتين قد تعتبران حضوره امتدادا للنفوذ الأميركي في خاصرتهما، وهو ما قد يدفعهما لاستخدام أدوات ضغط اقتصادية أو ميدانية غير مباشرة لإرباكه.
هكذا تجد أنقرة نفسها أمام مفارقة استراتيجية دقيقة: فكلما تعمقت استفادتها من الممر كقناة تجارة وطاقة، ازدادت تبعيتها لشروط تشغيل لا تتحكم بها بالكامل، واتسعت الحاجة إلى موازنة انتمائها للناتو مع براغماتيتها التقليدية في التعامل مع القوى المناوئة للغرب. بالنسبة لصانعي القرار في أنقرة، النجاح في هذا الملف يعني تحويل الممر من مشروع نقل إلى منصة نفوذ متعدد الأبعاد، لكنه في الوقت ذاته اختبار لقدرتها على المناورة بين مكاسب النمو ومخاطر التوازنات الجيوسياسية المتقلبة.
إذا كان ممر زنغزور بالنسبة لتركيا فرصة لتعزيز موقعها الجيو–اقتصادي وامتدادها الثقافي، فإن المشهد يبدو من طهران وكأنه تحوّل استراتيجي يهدد موقعها ومجالها الحيوي في وقت واحد. فإيران التي لطالما اعتبرت نفسها معبرا طبيعيا بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط وأوروبا، تجد اليوم أن أحد أهم المسارات البرية التي كانت تأمل في أن تمر عبر أراضيها قد تجاوزها بالكامل، وانتقل إلى منافسها الجيوسياسي اللدود: تركيا، وبإشراف مباشر من واشنطن أو بحسب التعبير الإيراني “النيتو”.
من منظور طهران، ليست القضية مجرد فقدان رسوم عبور أو فرص استثمارية؛ بل هي خسارة لرافعة نفوذ جغرافي شكلت لعقود جزءا أساسيا من سياستها الخارجية. فالممر الجديد يُعيد رسم خطوط التجارة في القوقاز بطريقة تعزل إيران عن أربعة مسارات رئيسية:
كل هذه المشاريع، التي كانت طهران تأمل أن تستفيد منها، إما جُمّدت أو تم تحوير مساراتها لصالح بدائل تتجاوزها.
لكن الخطر بالنسبة لإيران لا يقتصر على الجغرافيا الاقتصادية، بل يمتد إلى بنية الدولة نفسها. فالممر الذي يربط أذربيجان بتركيا يمر بالقرب من مناطق إيرانية ذات غالبية أذرية تركية، تمتد من محافظة أذربيجان الشرقية إلى أردبيل وزنجان. هذه المناطق ليست فقط متصلة ثقافيا ولغويا بالعالم التركي الأوسع، بل لها روابط أسرية وتجارية عابرة للحدود مع أذربيجان. أي زيادة في التواصل المادي بين باكو وأنقرة عبر الممر قد تغذي شعورا بالهوية المشتركة، وتفتح الباب – ولو على المدى البعيد – أمام مطالب بالحكم الذاتي أو حتى نزعات انفصالية في المحافظات الإيرانية ذات الغالبية التركية.
هواجس طهران هنا مشبعة بذاكرة تاريخية طويلة. فالصراع الصفوي–العثماني الذي استمر قرونا ترك إرثا من الريبة المتبادلة بين إيران وتركيا، وأعاد إنتاج نفسه في أشكال جديدة مع صعود فكرة القومية التركية وتوسّع مجلس الدول الناطقة بالتركية. بالنسبة لصانعي القرار في طهران، أي مشروع يعزز الترابط بين الدول التركية – خصوصا إذا كان مدعوما من حلف الناتو عبر عضوه التركي – لا يمكن فصله عن كونه تهديدا أمنيا وثقافيا مباشرا.
إضافة إلى ذلك، ترى إيران في الممر تحديا لموقعها كقوة موازنة في جنوب القوقاز. لسنوات، لعبت طهران دور الوسيط بين أرمينيا وأذربيجان، وحافظت على علاقات متوازنة مع الطرفين لتأمين نفوذها الإقليمي. اليوم، فتح الممر بإدارة أميركية وبمكاسب تركية واضحة يميل بميزان القوى في المنطقة لمصلحة أنقرة وباكو، ويهمش الدور الإيراني بشكل غير مسبوق. هذا التهميش لا يقتصر على فقدان التأثير السياسي، بل يعني أيضا تقليص قدرة إيران على الوصول البري إلى الأسواق الأوروبية والبحر الأسود، الأمر الذي يضاعف آثار العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
في ضوء ذلك، تبدو حسابات طهران في المرحلة المقبلة معقدة. فهي تدرك أن تعطيل المشروع بشكل مباشر سيجلب مواجهة مكلفة مع الولايات المتحدة وتركيا وأذربيجان، وقد يضر بعلاقتها مع أرمينيا التي تحاول إعادة التكيف مع الواقع الجديد. لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع القبول بممر يعيد رسم حدود النفوذ الإقليمي على حسابها. ومن هنا، قد تلجأ إيران إلى استراتيجية مزدوجة: محاولة إيجاد مسارات بديلة للتجارة مع روسيا وآسيا الوسطى تمر عبر أراضيها، وفي الوقت نفسه استثمار أدواتها السياسية والأمنية في القوقاز للحد من فعالية الممر أو جعل تشغيله أكثر تعقيدا.
وفي ظل هذه التغييرات الكبرى في القوقاز ظهر الانقسام في الموقف الإيراني إلى العلن في شكل غير مسبوق تاريخياً وذلك يشير إلى الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للمر من وجهة نظر إيران. فالحرس الثوري والقوى التقليدية ترفض فتح هذا الممر بأي شكل من أشكاله وتهدد بتعطيله بأدواتها الخاصة بينما الحكومة الإيرانية تقلل من آثاره. وقد ظهر هذا التناقض جليا في تصريحات مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدوليةعلي أكبر ولايتي الذي اعتبر ممر زنغزور مؤامرة سياسية تستهدف إيران وعدد من الدول المجاورة مؤكداً بأن طهران ستمنع فتح الممر الأمريكي في القوقاز سواء بالتعاون مع روسيا أو من دونها، وبين تصريحات الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان الذي قال إن موضوع الممر تم تضخميه في وسائل الإعلام وتصريحات وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الذي قال بأن اتفاقية السلام بين أرمينيا وأذربيجان يتضمن احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها ورفض التغيير في الحدود الدولية لافتا إلى أن هذه النقاط تتماشى مع المواقف الإيرانية.
ممر زنغزور، بقدر ما هو مشروع بنية تحتية، هو اختبار لمعادلات النفوذ في جنوب القوقاز بين قوى صاعدة وأخرى مهددة بالتراجع. بالنسبة لتركيا، هو فرصة لتثبيت موقعها كمحور لا غنى عنه في تدفقات التجارة والطاقة، ولتوسيع امتدادها الثقافي والسياسي نحو آسيا الوسطى. لكنها فرصة محفوفة بقيود ترتبط بالإدارة الأميركية للممر وحساسية الموقف الإقليمي، ما يفرض على أنقرة مناورة دقيقة بين تحالفاتها المتناقضة بين قوى الشرق والغرب وعضويتها في النيتو.
أما بالنسبة لإيران، فالممر يمثل تحديا وجوديا على المستويين الجيو–اقتصادي والهوياتي. فهو يهدد بإخراجها من معادلات الربط الإقليمي، ويعيد فتح جروح تاريخية تتعلق بعلاقتها مع العالم التركي، ويضعف قدرتها على التأثير في محيطها المباشر. في النهاية، ما سيحدد مستقبل هذا المشروع ليس فقط البنية التحتية التي ستقام على الأرض، بل قدرة القوى المعنية على تحويله من أداة لتصفية الحسابات إلى منصة تكامل حقيقي. وحتى يحدث ذلك، سيبقى ممر زنغزور ليس مجرد طريق بين أذربيجان وتركيا، بل خط تماس متحرك بين مشاريع نفوذ متنافسة، لكل منها حساباته وأدواته ومخاوفه.