مصر وإثيوبيا في القرن الأفريقي.. كيف يتنافس البلدان؟ ومن يكسب أكثر؟

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
08/31/2025
شارك المقالة

أضحت منطقة القرن الأفريقي مسرحًا لتنافس جيوسياسي طويل الأمد بين مصر وإثيوبيا، حيث تتداخل اعتبارات الأمن المائي مع الاصطفافات الإقليمية والصراعات الحدودية. وازدادت حدة هذا التنافس خلال العقد الأخير على خلفية سد النهضة الإثيوبي (GERD) الذي تراه القاهرة تهديدًا وجوديًا لأمنها المائي. في هذا السياق، وظّف الطرفان شبكة واسعة من التحالفات في محيطهما الإقليمي، شملت السودان وجنوب السودان والصومال وإريتريا وجيبوتي وكينيا وأوغندا، بين دول اصطفّت مع مصر وأخرى مالت نحو إثيوبيا، بينما فضّل بعضها لعب دور التوازن.

 

جذور التنافس المصري – الإثيوبي

يمتد الصراع بين القاهرة وأديس أبابا إلى عقود بعيدة، متجذرًا في مسألة مياه النيل والنفوذ الإقليمي. فمنذ خمسينيات القرن الماضي، تبنى الرئيس المصري جمال عبد الناصر سياسة لمحاصرة إثيوبيا عبر دعم حركات انفصالية، أبرزها الحركة الإريترية، بهدف تقليص سيطرتها على منافذ البحر الأحمر. كما دعمت القاهرة مطالب الصوماليين في أوغادين الإثيوبية، في محاولة لإضعاف الخصم الجنوبي. وفي حرب أوغادين (1977–1978) بين الصومال وإثيوبيا، انحازت مصر إلى جانب مقديشو، مدفوعة بحسابات البحر الأحمر والأمن المائي.

لاحقًا، ومع استقلال إريتريا عام 1993 ثم اندلاع حربها مع إثيوبيا (1998–2000)، حاولت القاهرة الحفاظ على توازن دبلوماسي، لكن ظل الدافع المائي حاضرًا في رسم سياستها. والنتيجة أن العلاقة بين البلدين اتسمت دومًا بمحاولات مصرية لإضعاف الموقف الإثيوبي متى شعرت بتهديد لحصتها من النيل أو لمكانتها في البحر الأحمر.

 

سد النهضة وتصاعد لعبة المحاور

شكّل إعلان إثيوبيا عام 2011 عن مشروع سد النهضة نقطة تحول فاصلة أدخلت التنافس في طور أشد. فالمشروع يمنح أديس أبابا قدرة غير مسبوقة على التحكم بمياه النيل الأزرق، مصدر النيل الرئيسي، من دون اتفاق ملزم مع دول المصب. وترى مصر في ذلك تهديدًا مباشرًا لأمنها المائي، إذ إن كل متر مكعب يُخزن في بحيرة السد يعني خصمًا من حصتها التقليدية.

وقد أجبرت هذه المعادلة القاهرة على استنزاف مخزون السد العالي والاعتماد على مشاريع تحلية المياه ومعالجة الصرف لتعويض النقص. أما إثيوبيا، فتتعامل مع السد بوصفه مشروعًا سياديًا لتنمية اقتصادها وتوليد الكهرباء، رافضة الضغوط المصرية–السودانية للتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم. وبذلك، تحوّل السد إلى أداة استقطاب إقليمي، وجعل دول حوض النيل ساحة لتجاذب المحاور.

 

استقطاب إقليمي وإضعاف الدور المصري

نجحت أديس أبابا في حشد دعم غالبية دول المنبع لمبادرة “عنتيبي” 2010 التي أعادت صياغة معادلة تقاسم المياه. وقّعت أوغندا وكينيا ورواندا وتنزانيا وجنوب السودان على الاتفاقية، التي تنتقص من الامتيازات التاريخية لمصر والسودان. وكان إعلان جوبا في أغسطس 2023 تصديقها على الاتفاقية بمثابة ضربة قوية للقاهرة، إذ منح النصاب اللازم لدخولها حيّز التنفيذ.

وتنظر مصر بعين القلق إلى هذا التراجع في نفوذها الأفريقي، مقارنة بما تمتعت به في عهد عبد الناصر حين كانت لاعبًا رئيسيًا في معادلة القارة. لذلك، كثّفت القاهرة جهودها الدبلوماسية عربياً ودولياً، مستعينة بوساطات أميركية وأفريقية، غير أن نتائج هذه التحركات ما زالت محدودة.

 

الصومال.. ساحة تنافس مباشر

تمثل الصومال أوضح مثال على توظيف الأزمة بين مصر إثيوبيا لصياغة تحالفات جديدة. فبعد أن ظلت إثيوبيا لعقد ونصف شريكًا رئيسيًا في بعثات حفظ السلام بالصومال، انفجرت الأزمة مع مقديشو مطلع عام 2024 عقب توقيع أديس أبابا مذكرة تفاهم مثيرة للجدل مع إقليم “أرض الصومال” الانفصالي. الاتفاق نصّ على استئجار ساحل الإقليم لمدة 50 عامًا لإنشاء قاعدة بحرية إثيوبية، مقابل اعتراف إثيوبيا باستقلال “أرض الصومال”. بالنسبة لمقديشو، مثلت الخطوة تعديًا صارخًا على السيادة الوطنية ووحدة الأراضي، فقامت بالتصعيد السياسي واستبعدت القوات الإثيوبية من أي ترتيبات سلام مستقبلية.

في المقابل، اندفعت الحكومة الصومالية نحو تعزيز شراكة عسكرية غير مسبوقة مع مصر. ففي أغسطس 2023 وُقّع اتفاق دفاع مشترك تبعته شحنات أسلحة مصرية عاجلة وتدريبات لبناء قدرات الجيش الصومالي. ومع انتهاء بعثة الاتحاد الأفريقي القديمة (أتميس) والاستعداد لإطلاق البعثة الجديدة )أوصوم(AUSSOM – ، اشترطت مقديشو استبعاد القوات الإثيوبية، معلنةً استعدادها لاستقبال وحدات مصرية لسد الفراغ الأمني.

وبضغط صومالي–مصري مشترك، وافق الاتحاد الأفريقي مطلع 2024 على نشر قوات مصرية لأول مرة ضمن بعثة الاستقرار الجديدة. وفي أغسطس 2025 أنهت وحدات مصرية تدريباتها استعدادًا للانتشار، بواقع 1,091 جندي ضمن قوام البعثة التي تضم نحو 11,900 فرد من أوغندا (4,500)، إثيوبيا (2,500 بعد تسوية الخلاف)، جيبوتي (1,520)، كينيا (1,410)، إلى جانب وحدات شرطة من نيجيريا وسيراليون ومصر. وعلى الرغم من التوصل لاحقًا إلى تفاهم بين مقديشو وأديس أبابا يتيح بقاء جزء من القوات الإثيوبية بعد وساطة عسكرية في فبراير 2024، فإن انفتاح الصومال على مصر ترك أثرًا دائمًا في موازين القوى. يرى محللون أن مقديشو تحولت إلى ساحة تنافس بالوكالة بين القوتين، بل وأثيرت مخاوف من أن أي احتكاك ميداني بين القوات المصرية والإثيوبية داخل الصومال قد يفتح الباب أمام مواجهة مباشرة على الحدود مستقبلًا.

 

محور مضاد لإثيوبيا

لم يقتصر الأمر على الصومال؛ ففي أكتوبر 2024 احتضنت أسمرة قمة ثلاثية جمعت قادة مصر وإريتريا والصومال، وُصفت بأنها إعلان قيام “محور مضاد لإثيوبيا” في القرن الأفريقي. القمة ركزت على التنسيق العسكري والأمني وتعزيز دعم الصومال في مكافحة الإرهاب، واعتُبرت ردًا مباشرًا على تمدد أديس أبابا في صومالي لاند وسعيها لفتح منفذ بحري. اللافت أن القمة تزامنت مع دخول اتفاقية عنتيبي المائية حيّز التنفيذ، وهو ما ضاعف من قلق القاهرة والخرطوم.

كما شهد عام 2023 تقاربًا غير مسبوق بين القاهرة وأسمرة تُوج بتوقيع اتفاق دفاع مشترك في سبتمبر، أعقبه تكثيف الاتصالات الأمنية وزيارات رفيعة المستوى. وبذلك انتقلت مصر إلى سياسة أكثر عسكرية في القرن الأفريقي، ضمن استراتيجية “تطويق إثيوبيا” بحزام من الشركاء، في محاولة لبناء توازن ردع يفرض على أديس أبابا إعادة حساباتها.

من جانبها، وجدت إريتريا في التحالف مع مصر والصومال فرصة لموازنة النفوذ الإثيوبي. استياء أسمرة من اتفاق السلام الإثيوبي مع جبهة تيغراي عام 2022، والذي جرى توقيعه دون إشراكها رغم مساهمتها العسكرية في الحرب، عزّز قناعتها بأن أديس أبابا لا تتردد في تجاوزها. بالنسبة للرئيس الإيريتري، أسياس أفورقي، فإن عودة نفوذ جبهة تيغراي تهديد وجودي، لذلك كان التحالف مع القاهرة ومقديشو خيارًا استراتيجيًا.

 

خنق إثيوبيا جيوسياسيًا

يتيح التمدد المصري في الصومال وإريتريا وجيبوتي خنق إثيوبيا جيوسياسيًا، فهي لا تزال دولة حبيسة تبحث عن منفذ بحري. ومع وجود نحو 1,000 جندي مصري في مقديشو، وتوسيع التعاون مع أسمرة، إضافة إلى النفوذ المصري في باب المندب، تجد أديس أبابا نفسها مطوّقة بحزام من النفوذ المصري يضغط مباشرة على مشروعها البحري. هذا الوضع عمّق شعور إثيوبيا بالتهديد، خاصة وأن المشهد بات أشبه بـ”حرب باردة إقليمية”، حيث يسعى كل طرف إلى تعزيز حضوره العسكري في محيط الآخر في لعبة استنزاف جيوسياسي مفتوحة.

 

أدوار بقية دول القرن الأفريقي وحوض النيل

إلى جانب الصومال وإريتريا، برزت دول أخرى في قلب التنافس المصري–الإثيوبي، لكل منها حساباته ومصالحه الخاصة. فالسودان، بصفته دولة مصب، شهد تذبذبًا ملحوظًا في مواقفه؛ إذ مال نظام البشير سابقًا إلى إثيوبيا طمعًا في الكهرباء ومشروعات الزراعة، لكنه انقلب أقرب إلى القاهرة بعد اندلاع النزاع الحدودي في الفشقة عام 2020. ومع تفجر الحرب الأهلية السودانية منذ 2023، انقسم الموقف بين جيش أكثر قربًا من مصر، وميليشيا الدعم السريع التي سعت إلى نسج تقارب مع أديس أبابا، لتبقى الخرطوم موضوعيًا أقرب إلى القاهرة بحكم تهديد السد لأمنها القومي.

أما جنوب السودان فيتبنى مقاربة حذرة، إذ صادق على اتفاقية عنتيبي منحازًا لدول المنبع ومعززًا لموقف إثيوبيا، لكنه في الوقت ذاته تعاون مع مصر في مشروعات مائية مثل قناة جونقلي. وهو ما يجعله استراتيجيًا أقرب إلى أديس أبابا، مع إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع القاهرة.

جيبوتي، التي ارتبطت تاريخيًا بإثيوبيا لاعتمادها على موانئها، حاولت منذ زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عام 2021 فتح أفق جديد مع القاهرة. فهي تسعى للتوفيق بين تحالفها التقليدي مع أديس أبابا والانفتاح على الدعم المصري–الخليجي، بحكم موقعها الحساس عند مدخل البحر الأحمر.

كذلك كينيا، التي وقعت على اتفاقية عنتيبي وانخرطت في محاربة الإرهاب إلى جانب إثيوبيا ضمن قوات “إيغاد”، لكنها حافظت على علاقة متوازنة مع مصر. يمكن وصف موقف نيروبي بـ”الحياد الإيجابي”، فهي لا تعارض القاهرة لكنها لا تتخلى عن أديس أبابا.

أما أوغندا، وهي دولة منبع محورية، فقد كانت من أوائل الداعمين لاتفاقية عنتيبي، ما جعلها أقرب إلى الموقف الإثيوبي في ملف المياه. غير أنها في الوقت نفسه نسجت شراكات أمنية وتنموية مع القاهرة، شملت لقاءات عسكرية واتفاقيات دفاعية. وبذلك تتبنى كمبالا سياسة براغماتية مزدوجة: حليف مائي لإثيوبيا وشريك أمني لمصر.

هذه الاصطفافات المتداخلة تُظهر أن التنافس لم يعد خطًا مستقيمًا بين معسكرين متمايزين، بل شبكة معقدة من العلاقات التي تسمح لكل دولة بالاستفادة من الطرفين، دون أن تفقد القدرة على المناورة.

 

الخاتمة: صراع مرشح للاستمرار

يُظهر المشهد أن التنافس المصري–الإثيوبي تجاوز منذ سنوات كونه خلافًا ثنائيًا على مياه النيل، ليتحول إلى صراع جيوسياسي مفتوح على النفوذ الإقليمي وإعادة ترتيب الأمن في القرن الأفريقي والبحر الأحمر. فإثيوبيا التي تعاظمت قوتها العسكرية في العقد الأخير، انخرطت في أزمات الجوار بالصومال وتيغراي وحدود السودان، وسعت إلى انتزاع اعتراف بشرعيتها كقوة إقليمية من خلال السد ومنفذ بحري محتمل. في المقابل، ردّت القاهرة بتوسيع حضورها العسكري والدبلوماسي، عبر نشر قوات في الصومال وتوقيع اتفاقيات دفاع مع أسمرة ومقديشو، وبناء شبكة من التحالفات العربية والأفريقية.

تراوحت  أدوات الصراع بين التحالفات والوساطات والاتفاقيات المائية، وصولًا إلى عسكرة المنطقة واستعراض القوة. ونتيجة لذلك، نشأت شبكة متداخلة من الاصطفافات: محور مصري–صومالي–إريتري مدعوم عربيًا، يقابله محور إثيوبي مدعوم من بعض دول المنبع، فيما تحاول دول أخرى، مثل كينيا وأوغندا وجيبوتي، الاحتفاظ بهوامش التوازن.

كل المؤشرات تدل على أن المشهد مرشح للاستمرار على المدى المنظور. فغياب اتفاق قانوني ملزم بشأن السد يضمن أمن مصر المائي، وغياب ترتيبات إقليمية تمنح أديس أبابا منفذًا بحريًا تجاريًا دون إخلال بتوازنات البحر الأحمر، يعني أن شبح التصعيد سيظل حاضرًا. وفي أسوأ السيناريوهات، قد يشهد القرن الأفريقي مواجهة عسكرية مباشرة، أو حروبًا بالوكالة تدعم فيها القاهرة وأديس أبابا أطرافًا متنازعة في ساحات مفتوحة، لتبقى المنطقة رهينة لعبة عضّ أصابع طويلة بين النيل والبحر الأحمر.

شارك المقالة
مقالات مشابهة