حكاية انتصار إنساني على آلة الاحتلال
شهد قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023 حرباً شعواء قُتل خلالها مئات الآلاف من المدنيين وارتُكبت انتهاكات تعتبرها منظمات دولية إبادة جماعية. ووسط هذا الدمار ظهرت دولة قطر لاعباً حاسماً في مساعي وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى وتقديم المساعدات. إذ كانت العاصمة الدوحة ساحةً لمفاوضات بين حركة حماس وإسرائيل، كما استضافت مباحثات عديدة برعاية قطرية–مصرية–أمريكية، وفي سبتمبر 2025 أقدم الجيش الإسرائيلي على استهداف مبنى في الدوحة يأوي مفاوضين من حماس مما أدى إلى مقتل خمسة من عناصر الحركة وضابط من قوة الأمن القطرية. ورغم الهجوم والتهديدات الإسرائيلية، رفضت قطر التخلي عن دورها، معتبرةً أن الوساطة جزء من هويتها. سيستعرض هذا المقال الدور القطري بوصفه وسيطاً شجاعاً لم يتعب ولم يكل، ويسلط الضوء على قناة الجزيرة في تغطية الحرب، ويستحضر تفاصيل إنسانية تجعل التجربة القطرية نموذجاً فريداً في إدارة الأزمات.
الوساطة كجزء من الحمض النووي في الدبلوماسية القطرية
يصف المحللون الدور القطري بأنه نهج راسخ يتجاوز حسابات الربح والخسارة. فقد أشار مقالٌ في دورية فورين أفيرز الأمريكية، عقب الضربة الإسرائيلية للدوحة، إلى أن قطر لن تتخلى عن وساطتها رغم الهجوم الإسرائيلي، فـ”الوساطة تكاد تكون جزءاً من دستور قطر”. وقد رسخت الدوحة هذه الهوية عبر وساطات متتابعة، كالنزاع الأفغاني، بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان لإنهاء حرب دامت 19 عاماً. أو المفاوضات الأمريكية–الإيرانية، من الدبلوماسية المكوكية بين واشنطن وطهران حول صفقة تبادل أسرى، وساطة عززت مكانة قطر وسيطاً موثوقاً بين خصمين تاريخيين. ولا ننسى وساطتها في الأزمة الروسية–الأوكرانية لتبادل الأسرى في السفارة القطرية بموسكو. أو المفاوضات في الكونغو الديمقراطية بين الحكومة وحركة متمردي “إم 23” بدعم أمريكي، وغيرها الكثير. لجميع ما سبق أمستْ قطر مركزاً إقليمياً للحلول السلمية وفق تحليلات عديدة، وهو ما سيتجلى في حرب الإبادة على غزة أيضًا.
بداية الوساطة القطرية في غزة: أو هدنة نوفمبر 2023
مع توالي الأحداث بات اسم قطر مرادفاً للجهود الدبلوماسية الإنسانية؛ وعلت صيتها مع اندلاع الإبادة الجماعية على غزة. فهي من أشرفت على أول هدنة إنسانية، ومن وفرت المساعدات، ومن دفعت الثمن عندما استُهدفت إعلاميًا وأمنيًا. فبعد أسابيع فقط من القصف المتبادل، أعلنت قطر ومصر والولايات المتحدة عن اتفاق لوقف إطلاق النار لمدة أربعة أيام يبدأ في 24 نوفمبر 2023. نص الاتفاق على إطلاق سراح 50 رهينة إسرائيلية و150 أسيراً فلسطينياً وعلى إدخال المزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة. وغنيّ عن البيان أن هذه الهدنة شكّلت أول توقف للقتال منذ بدء الحرب، وكان يُمكن تمديدها مقابل الإفراج عن مزيد من الأسرى. وفي 27 نوفمبر، أعلنت وزارة الخارجية القطرية عن تمديد الهدنة يومين إضافيين، إذ أُطلق سراح 20 إسرائيلياً و60 فلسطينياً. وفي 30 نوفمبر اتفق الطرفان على تمديد آخر ليوم واحد. خلال هذه الفترة لعب المفاوضون القطريون دوراً محورياً في تجميع القوائم وابتكار آليات تبادل الأسرى والرهائن. ورغم أن الهدنة لم تتحول إلى وقف دائم لإطلاق النار واستؤنفت الأعمال العسكرية في 1 ديسمبر بعد تبادل الاتهامات بخرق الاتفاق، فقد أثبتت قدرة قطر على إقناع طرفين متحاربين بقبول وقف مؤقت وإنقاذ عشرات الأرواح.
الوساطة في ظل استمرار الحرب
ثم، وعلى مدار عامي 2024 و2025، واصل الوسيط القطري، بالتنسيق مع مصر والولايات المتحدة، الضغط لعقد جولات جديدة من وقف إطلاق النار وإطلاق الأسرى. ومع كل تصعيد عسكري كان وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني يظهر أمام الصحفيين بملامح منهكة نتيجة الساعات الطويلة من الاتصالات، مؤكداً أن الوساطة “جزء من هوية قطر”. وعلى الصعيد الإغاثي، لم تقتصر الوساطة على تبادل الأسرى، بل شملت التفاوض على فتح ممرات لإدخال الوقود والمواد الغذائية. وظل الناطق باسم وزارة الخارجية القطرية ماجد الأنصاري يعلن عبر المؤتمرات الصحفية عن قوافل الإغاثة ونتائج الجولات الدبلوماسية، بينما كانت قطر تقيم جسوراً جوية لنقل المساعدات الإنسانية إلى غزة.
قناة الجزيرة صوت أهالي غزة وهدف للقصف
في كل صراع تلعب الإعلام دوراً في تشكيل الرأي العام ونقل الحقيقة. حافظت قناة الجزيرة، المملوكة للدولة القطرية، على شعارها “الرأي والرأي الآخر” لكنها أصبحت هدفاً للحكومة الإسرائيلية التي تتهمها بالتحريض. في 5 مايو 2024 صوت مجلس الوزراء الإسرائيلي بالإجماع على إغلاق قناة الجزيرة في إسرائيل بموجب قانون يسمح للحكومة بإغلاق أي وسيلة إعلام أجنبية تعتبرها تهديداً أمنياً، وتمت مصادرة معداتها في القدس. في 9 يونيو 2024 مددت وزارة الاتصالات الإسرائيلية الحظر 45 يوماً إضافياً، واعتبرته المحكمة العليا سابقة خطيرة بينما أمرتها بتقديم مبررات قانونية.
لم تقتصر الهجمات على الإغلاق الإداري، بل امتدت إلى قتل الصحفيين. وفقاً لمنظمة العفو الدولية، تعرض مكتب الجزيرة في رام الله للمداهمة والإغلاق لخمسة وأربعين يوماً، ووصفت المنظمة ذلك بأنه اعتداء على حرية التعبير. إضافيًا، ذكرت اللجنة الدولية لحماية الصحفيين أن الحرب في غزة أصبحت أكثر فترة قاتلة للصحفيين منذ بدء سجلاتها، حيث قُتل أكثر من 116 صحفياً في عام 2024. أشار تقرير للجزيرة في أغسطس/آب 2025 إلى أن الجيش الإسرائيلي قتل أكثر من 270 صحفياً وعاملاً إعلامياً في غزة، بينهم مراسلو الجزيرة سامر أبو دقّة، حامد الدحدوح، إسماعيل الغول، رامي الريفي، أحمد اللوح، حسام شبات، أنس الشريف ومحمد قريقع وغيرهم. وقد أدى استهداف الصحفيين إلى “فراغ إعلامي” وفق المنظمة؛ ومع ذلك، واصلت الجزيرة بث التقارير واستضافة المفاوضين، ما أثار غضب الاحتلال. كما فقدت الجزيرة مراسلين في هجمات واضحة على الطواقم الإعلامية، مثل استشهاد المصور سامر أبو دقّة في خان يونس (14 ديسمبر 2023) واستشهاد حامد الدحدوح (7 يناير 2024)، إضافة إلى استهداف سيارات الإسعاف والمسعفين. ورغم الخسائر، ظلت الشاشة القطرية منبراً لرواية الضحايا.
العمل الإنساني: قطر الخيرية وجسر الإغاثة
لم تقتصر جهود قطر على الدبلوماسية وتوفير شبكاتها الإعلامية للضحايا؛ فقد ضخت مبالغ ضخمة من المساعدات في غزة. منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى 7 أكتوبر 2024 قدمت مؤسسة قطر الخيرية مساعدات بلغت قيمتها نحو 114 مليون ريال قطري (نحو 31 مليون دولار) استفاد منها 2.7 مليون شخص. وشملت المساعدات الغذاء والمأوى والصحة والمياه والتعليم، ونُقلت عن طريق الجسر الجوي القطري الذي سير 97 رحلة تحمل أكثر من 1,010 طن من المواد الإغاثية. كما وزعت المنظمة الآلاف من طرد غذائي، ودخلت معونات عبر الأردن بالتعاون مع منظمة جوردان هاشيميت الخيرية وجمعية الهلال الأحمر القطري.
نفذت قطر الخيرية -في الشتاء نفسه-حملة “إلى متى” ووزعت الآلاف من سلل غذائية استفاد منها 30,000 نازح في جنوب غزة، إضافة إلى آلاف من البطانية وقطعة ملابس. بل ومع إعلان وقف إطلاق النار يوم أمس، كانت قطر من أوائل من أطلقت مبادرة “وجبة أمل” لتقديم 1,000 وجبة جاهزة و11,366 زجاجة ماء يومياً على طرق عودة النازحين إلى بيوتهم المدمرة. إلى جانب ذلك، عملت قطر سابقًا مع شركاء دوليين لتوفير مأوى. شمل التعاون أيضاً تسيير جسر جوي بريطاني–أردني لإيصال الإمدادات الطبية والغذائية إلى شمال غزة، من بين مبادرات قادتها قطر لتخفيف المعاناة الإنسانية للفلسطينيين.
هجوم الدوحة وإصرار الوسيط والقيادة القطرية
تلقى الدور القطري الذي سردناه أعلاه ضربة عنيفة في 9 سبتمبر 2025 عندما نفذت إسرائيل ضربات جوية داخل الدوحة استهدفت مبنى يأوي قيادة حماس. قُتل خمسة أعضاء من الحركة وضابط من قوات الأمن القطرية. وصف رئيس الوزراء القطري هذا الاعتداء بأنه “إرهاب دولة”، واتهم إسرائيل بتعمد تقويض مساعي وقف إطلاق النار. رغم ذلك أكد أن قطر لن تتراجع وأنها ستشكل فريقاً قانونياً لملاحقة إسرائيل على انتهاك سيادتها. وقد أثار الهجوم جدلاً حول الضمانات الأمنية الأمريكية لدول الخليج وأدى إلى دعوات في قطر لاتباع سياسة أمنية أكثر تنوعاً. في الوقت نفسه رأى مراقبون أن الاستهداف عزز الشعور الوطني وأكد أن الدوحة تدفع ثمناً حقيقياً لدورها الوسيط.
وفي خضم كل ذلك، لعب أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني دوراً مركزياً في ترسيخ سياسة الوساطة لبلاده، من الحرب الأفغانية حتى الإبادة على غزة. تمامًا مثل وزير الخارجية ورئيس الوزراء الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني الذي جسّد بدوره رؤية الأمير بلا كلل. فبعد الهجوم الإسرائيلي على الدوحة صرّح بأن بلاده ستواصل الوساطة وأنه لا يمكن لأي هجوم ردعها. كما أوضح أن قطر تبذل جهوداً مع القاهرة وواشنطن لوقف الحرب لكنها تواجه تعنتاً إسرائيلياً. هذه التصريحات المتكررة، إلى جانب ظهوره المتعب في المؤتمرات الصحفية، عكست حجم الضغوط التي يتحملها المسؤولون القطريون خلال محاولاتهم المستمرة لإنقاذ الأرواح.
ففي وقتٍ آثرتْ فيه دولٌ كثيرة الصمت أو تراجعت عن مواقفها تجاه القضية الفلسطينية، تقدّمت قطر وحدها إلى الميدان، تتكلم حيث سكت الآخرون، وتعمل حيث تردّدوا. سهرت الليالي تخطط وتتحرك وتساند، فيما كانت سهام الشيطنة تتوالى عليها من كل هدب وصوب، وتُشنّ ضدها حملات إعلامية شرسة من إسرائيل، كلما سنحت فرصة لتشويه صورتها. لكن قطر لم تنكفئ، ولم تساوم على موقفها. بل كلما اشتد الهجوم عليها، ازدادت ثباتًا، وكلما ضاق الأفق، وسّعته بدبلوماسيتها الهادئة وصلابتها الأخلاقية.
وأي دولة أخرى بمكانة قطر الجيوسياسية، كانت لتجد في “حماية أمنها القومي” ذريعةً للانسحاب، غير أن الدوحة اختارت طريقًا مغايرًا؛ فكلما تعاظم الخطر، زاد انخراطها، حتى كانت في صدارة المساعي التي أفضت إلى اتفاق شرم الشيخ للسلام، بعد مسار شاق وتكلفة بشرية وأمنية.
يستحضر الكاتب روبرت غرين في كتابه ” قانون الطبيعة البشرية” مقولة السير إدموند هيلاري – أول من صعد قمة إيفرست – حين وصف المستكشف البريطاني إرنست شاكلتون، الذي أنقذ طاقمه بعد غرق سفينته Endurance في القطب الجنوبي عام 1915، قائلاً: “إن وجدت نفسك في مأزقٍ يائس وتحتاج إلى من ينقذك، فادعُ الله أن يُرسَل إليك إرنست شاكلتون.” حيث جعل غرين من شاكلتون نموذجًا للقيادة المتعاطفة التي تمنح من حولها شعورًا بالأمان وسط العاصفة.
وإن جاز لي استعارة هذه المقولة اليوم، لقلت: “إن وجدت نفسك يومًا في وجه احتلالٍ أو عدوانٍ غاشم، فادعُ الله أن تكون قطر وقناة الجزيرة في صفّك.” فهي الدولة التي لم تزعزعها القصفات الجوية ولا الضغوط السياسية، ولم تغيّر بوصلتها عن القضية الفلسطينية وأهالي غزة رغم الحملات والاتهامات.
السلام في شرم الشيخ أو الخاتمة المعلنة
إن التضحيات السالفة ذكرها، هي التي توّجتْ في 13 أكتوبر 2025، باجتماع في مدينة شرم الشيخ المصرية شمل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. حيث أصدر الزعماء إعلاناً مشتركاً يُعرف بـ “إعلان ترامب للسلام الدائم والازدهار”، عبّر عن تأييدهم لإنهاء الحرب في غزة وتعهدوا بتنفيذ اتفاق السلام. ورغم أن إسرائيل وحماس لم تشاركا في التوقيع وأن بعض المراقبين وصفوا الإعلان بأنه “فضفاض” ولا يقدم حلولاً تفصيلية، إلا أن حضور قطر بوصفها دولة موقعة يعكس اعترافاً دولياً بحجم وساطتها، بل وحتى تضحياتها، بوصفها الوسيط الوحيد الذي تعرض لهجوم. وبالنسبة للدوحة، كان التوقيع تتويجاً لعامين من الجهود المكثفة ومحاولة لتثبيت وقف إطلاق النار على أساس تفاهم دولي، وإن لم يحل جميع القضايا العالقة.
خاتمة: قطر والوساطة كلٌّ لا ينفصل
قصة قطر مع الوساطة ليست وليدة الحرب على غزة؛ إنها مشروع وطني ينطلق من رؤية استراتيجية تتداخل فيها السياسة والإنسانية. أدركت الدوحة أن قوتها الناعمة – المتمثلة في قناة الجزيرة وفي صدقيتها الدبلوماسية وفي سخائها الإغاثي – يمكن أن تجعلها لاعباً مركزياً في النظام الدولي. وقد كشف الهجوم الإسرائيلي على الدوحة هشاشة الأمن الإقليمي لكنه أظهر أيضاً صلابة الموقف القطري، إذ رفضت السلطات الانصياع للتهديدات وتمسكت باستضافة المفاوضات واستمرار الدعم الإنساني. وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة للاتفاق الذي أنهى الحرب في شرم الشيخ وغياب الطرفين الأساسيين عنه، فإن وجود قطر في حفل التوقيع يؤكد أنها أصبحت شريكاً لا غنى عنه في أي ترتيب سياسي جديد.
ومن هنا يتضح من خلال الإنجازات أعلاه أن قطر، بما تمتلكه من موارد وثقة دولية، قد تحوَّلت إلى “حمض نووي” يحقن الجسد المريض للسلام العالمي بالحياة. لقد أقامت جسوراً بين أعداء لدودين، ووفرت ملاذاً للمفاوضات الصعبة، وساعدت ملايين البشر خلال أصعب لحظات حياتهم. ولذلك يستحق الدور القطري التقدير، ليس فقط باعتباره قصة نجاح دبلوماسي، بل كترجمة عملية لقيم إنسانية تتسم بالمثابرة والكرم والجرأة.