مساعدات أم أداة إكراه: كيف نفهم المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر والأردن؟

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
02/15/2025
شارك المقالة

الباحث: مصعب السيار

 

في عصر تتشابك فيه أدوات القوة وتتعقد فيه الممارسة الاستراتيجية وفن الحرب، يزداد حضور  الأداة العسكرية في مساحات مختلفة عن الاستخدام الشائع لها بوصفها أداة إكراه وقهر، رغم أن مهمتها الأولى لا تزال وستبقى هي التدمير وكسر إرادة الخصوم. 

 

تتناول هذه المادة أبعاد المساعدات العسكرية الأميركية لمصر والأردن، وتستكشف دورها كحافز وأداة إكراه في نفس الوقت. إن الضغوط الحالية التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية على مصر والأردن لقبول تهجير الفلسطينيين من غزة عدسة يمكن من خلالها تحليل هذه الديناميكيات وفهم حدود الفعالية والتأثير، ثم تجيب على سؤال أساسي: هل يمكن أن يؤدي تجميد المعونة الأميركية إلى إجبار الأنظمة السياسية في مصر والأردن على قبول التهجير؟

 

الدبلوماسية الدفاعية

 

كمبدأ عسكري واستراتيجي، تُستخدم  الأداة العسكرية بشكل مزدوج: فأولا تستخدم كأداة قوة خشنة لضرب إرادة الخصم عن طريق الحرب أو الردع أو الإكراه، في نفس الوقت تستخدم كعنصر للقوة الناعمة، بحيث تُسهل الأداة العسكرية من بناء العلاقات والتأثير على المدى الطويل. هذا الشكل من التوظيف يُطلق عليه “الدبلوماسية الدفاعية”. 

 

تُعرف الدبلوماسية الدفاعية بأنها: أي عمل عسكري غير عنيف يهدف إلى التأثير على القرارات والسلوكيات الأجنبية. كما توضح العقيدة القتالية البريطانية المشتركة هذا الدور بشكل أفضل بحيث يصبح: “استخدام الأصول العسكرية (باستثناء العمليات القتالية) لتوليد النفوذ “بما يشمل بناء القدرات والوصول إلى المعلومات ومنع الصراعات”.

 

وتتراوح الوسائل المستخدمة في ذلك بين بيع الأسلحة والمساعدات العسكرية وبرامج التدريب والتحالفات والوفود العسكرية رفيعة المستوى وغير ذلك. تؤدى “الدبلوماسية العسكرية” دوراً مهماً في الاستراتيجية الشاملة إذ تساعد في تشكيل السلوك دون اللجوء إلى الصراع المباشر. 

 

ومن الأمثلة اللافتة في هذا الصدد ما ذكره الدكتور محمد بريك من ممارسة بعض المؤسسات العسكرية التعليمية- مثل أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية – تأثيراً غير مباشر من خلال تدريب أبناء الملوك والرؤساء العرب وغيرهم من القادة المستقبليين بهدف تكوين علاقات شخصية وترسيخ القيم، وتشكيل ثقافات صنع القرار في الدول المستهدفة.

 

فيما يتعلق بمحور كلامنا في هذا المقال، فإن المساعدات العسكرية أحد أهم وسائل “الدبلوماسية الدفاعية” كما أن سحبها والتلاعب بها يُعد أحد أشكال العقوبات الاقتصادية. بالتالي تعمل المساعدات كحافز وأداة قسرية في الوقت نفسه، ما يساعد على الامتثال لطلبات ورغبات الدولة المانحة. وقد استخدمت الولايات المتحدة تاريخياً المساعدات العسكرية لتأمين نفوذها وتمرير أجندتها في المناطق الرئيسية، وكانت مصر والأردن من أبرز المتلقين لهذه المساعدات.

 

وصحيح أن هناك فارق بين “المساعدات” وبين “العقوبات” إذ تُستخدم العقوبات لفرض تكاليف اقتصادية وسياسية وبالتالي التأثير على القرار السياسي عن طريق الإكراه، في حين تهدف المساعدات بناء شراكات واستمالة الطرف الآخر والتأثير عليه بشكل إيجابي. لكن، منع المساعدات، بمجرد أن تصبح جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد السياسي للمستفيد، يعمل ذلك عمل العقوبات الاقتصادية التقليدية.

 

المساعدات والعقوبات: حدود الإكراه

 

بعد العديد من المغامرات الحالمة للتأثير على الفاعلين السياسيين وكسر إرادة الخصوم عن طريق العقوبات بأشكالها المختلفة (العقوبات على روسيا بعد غزو القرم، العقوبات على إيران، العقوبات على روسيا بعد اجتياح أوكرانيا، مناورات الحصار الاقتصادي العسكري الشهيرة في الحرب الأهلية الأمريكية والحروب العالمية) انتهى الدرس الاستراتيجي إلى أن إن العقوبات الاقتصادية والحرب الاقتصادية بشكل عام لها حدود تخفف من وطأتها ومدى فعاليتها، من ذلك:

 

  • المرونة والصلابة السياسية للطرف المدافع: والمرونة تكون على مستويين: الإجراءات وكذلك النفسية. فالدول عالية البيروقراطية يمكنها أن تُخفف من الصدمات وارتجال حلول إسعافية، في نفس الوقت إذا تمكنت الدولة من توحيد الصف الداخلي أو إخضاعه وبالتالي توحيد الحالة النفسية الشعبية فيمكنها كذلك المرور من الأزمة.
  • تنويع الموارد: تتوقف فاعلية العقوبات على نوعية الموارد التي يتم حظرها فما يمكن استبداله سيكون أقل تأثيراً كأداة ضغط.
  • الوزن النسبي للمصالح: إن الهدف السياسي المطلوب دفع الطرف الآخر لقبوله هو المعيار النهائي في تحديد مدى فعالية العقوبات، فالاقتصاد رغم أهميته قد لا يكون كافياً للتنازل عن المصالح الوجودية والأمن الحيوي.

 

المساعدات الخارجية الأميركية للشرق الأوسط: سيف ذو حدين

 

على مدى السنوات السبعين الماضية، كانت هناك ثلاثة أسباب رئيسية للمساعدات الأمريكية:

 

  • الأمن الوطني. وهو السبب الأكثر حضوراً بطبيعة الحال، ففي أثناء عملية بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية بموجب خطة مارشال (1948-1951) وخلال الحرب الباردة، نظر صناع السياسات إلى برامج المساعدات الأميركية باعتبارها وسيلة لمنع غزو النفوذ الشيوعي وتأمين القواعد الأميركية ومساعدة الحكومات على مكافحة التمردات وغير ذلك من أشكال التأمين ضد السوفييت. 

المصالح الاقتصادية والتجارية. كان أحد أكبر أهداف خطة مارشال هو تعزيز الصادرات الأميركية من خلال خلق عملاء جدد للسلع والخدمات الأميركية بجانب تحسين البيئة الاقتصادية العالمية التي تتنافس فيها الشركات الأميركية. 

  • المخاوف الإنسانية. المساعدات قصيرة الأجل في الاستجابة للأزمات والكوارث، فضلاً عن المساعدات الإنمائية طويلة الأجل التي تسعى إلى نشر الديمقراطية -الدمقرطة- والحد من الفقر ومكافحة الأمراض والأوبئة. 

 

على مستوى الشرق الأوسط، ومنذ اتفاقية كامب ديفيد، لعبت المساعدات الخارجية الأميركية دوراً كبيراً في المشهد السياسي والعسكري. وكانت مصر والأردن، على وجه الخصوص، من المتلقين الرئيسيين لكلا من المساعدات الاقتصادية والعسكرية. فمن ناحية كان هذا الدعم إضافة للقدرات الدفاعية والاستقرار الاقتصادي والأمن الداخلي؛ ولكن كان كذلك رمزا للشراكة الاستراتيجية ويعبر عن انتهاء عصر الحروب والنزاعات.

 

بالنسبة لمصر، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية لمصر ما يقرب من 90 مليار دولار من المساعدات منذ 1946، وكان نصيب الأسد من هذه المعونة بعد اتفاقية السلام 1979. وفي السنة المالية  2025، طلبت إدارة بايدن 1.4 مليار دولار كمساعدات ثنائية، مع الحفاظ على مستويات التمويل السابقة. ويُعد أبرز الأهداف الأمريكية من هذه المعونة:

  • تأمين الاستقرار الإقليمي
  • ضمان الامتثال لمعاهدة السلام مع إسرائيل
  • التعاون في مكافحة الإرهاب
  • الحفاظ على وصول الجيش الأمريكي في المنطقة.

 

في حالة الأردن، ونظرًا لاقتصاده الصغير، وعدد اللاجئين الكبير، والنقص الحاد في الموارد الطبيعية، يعتمد الأردن بشكل كبير على المساعدات الخارجية، وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية. وكان حجم المعونة، بموجب مذكرة التفاهم بين البلدين 1.275 مليار دولار على الأقل سنويًا. والتي ارتفعت منذ 2022 إلى 1.45 مليار حسب مذكرة التفاهم متعددة السنوات.

 

وعلى الرغم من القيمة التي تحملها المساعدات لكلاً البلدين، إلا أن فعاليتها كأداة إكراه كانت محدودة، خاصة مع مصر، في تغيير الخيارات السياسية الكبرى لما تريده الإدارة الأمريكية. بل أصبح لدى النظام السياسي المصري خبرة ومنعة نسبية في مواجهة مثل هذه القرارات. فقد هددت الإدارات الأمريكية المختلفة بقطع المساعدات كوسيلة لفرض تغييرات في السياسات أو إصلاحات، ثم قامت إدارة أوباما بقطعها جزئيا بالفعل، ومع ذلك، كانت أولويات السياسة الداخلية والمصلحة الذاتية للنظام أهم من هذه الضغوط. 

 

من ناحية التسليح العسكري، توجه النظام بشكل متعمد إلى تنويع مصادر التوريد، بالتالي كان التوجه لدول أخرى بما يشمل بعض المنافسين مثل روسيا سابقا في صفقة السوخوي 35 الشهيرة، رغم أنها لم تتم، والصين حالياً في صفقة طائرات جي-10سي التي تتمتع ببعض القدرات الشبحية. في نفس الوقت فإن البدائل العسكرية بشكل عام واسعة. ورغم أن الكفاءة الفنية الأمريكية شديدة الاحترافية إلا أنها تأتي مع العديد من القيود، حتى على المستوى الفني. إن النقطة المهمة في فهمنا للمعونة الأمريكية في حالة مصر هي أن طبيعتها الرمزية، كمؤشراً على التحالف وحسن النية، تعقد استخدامها كأداة مباشرة للتأثير الخارجي هذا مضافاً لذلك التعقيدات والقيود المتأصلة في هذه الوسيلة كما أوضحنا.

 

المعونة الأمريكية والتهجير

 

فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العالم أجمع بما طرحه من خطة تهجير الشعب الفلسطيني إلى مصر والأردن. وكان الأسلوب شديد الصلف والعجرفة، في مثل هكذا قضية شديدة الحساسية، مثيراً لردود فعل واسعة. ويُعد الموقف العربي الرسمي الرافض لهذا المقترح مدفوعاً بالمصالح الذاتية للأنظمة الموجودة أكثر منه خياراً أخلاقيا وسياسياً. وإلا، فالأداء العربي المخزي منذ بداية السابع من أكتوبر 2023 هو أحد أبرز التفسيرات لكيف وصلنا لهذه اللحظة المأساوية. وللإيجاز، يمكن إجمال التخوفات في النقاط التالية:

 

  •  تاريخيا، كانت محاولات الهندسة الديموغرافية مزعزعة للاستقرار حيث تسبب عملية تهجير السكان عواقب سياسية وثقافية وعاطفية عميقة تمتد إلى ما هو أبعد من نطاق السياسة الإدارية.
  • ضرب الشرعية للبلدان المضيفة: هذا بشكل عام، ولكن في مثل قضية فلسطين فالأمر أشد وأنكى، خاصة بعد حملة التطهير العرقي المستمرة منذ عام ونصف. وهذا كله قد يفجر حركات المقاومة في كل مكان. 
  • كما أن أي محاولة لتغيير التكوينات الديموغرافية من خلال التدابير القسرية تنتج كتلاً اجتماعية غير منتجة وتحتاج لمجهود وذكاء عال في ابتكار طرق للدمج في المجتمع وتفعيل هذه الكتل ومعالجة المشاكل الحاصلة. 
  • في حالة الأردن تحديداً، فإن التهجير سيعني تغيراً ديموغرافيا حاداً قد يُنهي فكرة الدولة بشكلها الحالي ويدمر النسيج الاجتماعي والتوازن الديموغرافي الهش.
  • بالنسبة للنظام المصري سيفتح التهجير أبواب الحركات المسلحة على مصراعيها بعد عشر سنوات من المواجهات الدامية، ومن المشكوك أن يتوافر للنظام القدرة المالية والاجتماعية لمواجهة ذلك حالياً.

 

بناء على ذلك، يمكن القول أن الطرح الأمريكي يصل لدرجة العدائية بطبيعته ويصادم مساحات أكثر أهمية بالنسبة للأنظمة في مصر والأردن مما يجعل من فكرة الابتزاز بالعقوبات مناورة أكثر منها استراتيجية إكراه حقيقية. وإذا أضفنا لذلك الحدود والقيود المذكورة أعلاه سنجد أن فرصة التنازل للأمريكي هي صغيرة جداً.

 

في الأخير: 

 

إن التهجير، بصورته التي يدعوا لها ترامب، قد يؤدي إلى تغيير الوضع الإقليمي بالكامل وبدء مرحلة شديدة التفلت والتحول، خاصة في ظل عواقب الطوفان والحالة الهشة في كامل الإقليم. لذلك فمن المستبعد أن يوافق النظام المصري والأردني على هذا المقترح. ولكن رغم هذه النتيجة، فإن الأمر لن ينتهي عن هذا الحد. والقرار بمعارضة عملية التهجير شيء و التحرك العملي لتغيير الوضع وإيجاد الحلول شيء آخر. إن عمليات “التهجير الطوعي” والتي طبقها الاحتلال بأشكال مختلفة لا تزال قائمة متى ظلت غزة وحدها. ومتى ظل الدور العربي، وتحديداً المصري، بهذا المستوى المتردي من المبادرة والرؤية والتأثير. كما أن فشل التهجير لن ينفي حجم الفرصة الإقليمية لتشكيل الإقليم بما يناسب المصلحة الإسرائيلية وما يتبع ذلك من ويلات ومسارات الخروج منها صعب.

 

فالطرح الترامبي رغم سذاجته إلا أن ما يعقد الأمور هو حالة التهاوي العربي الهائل منذ الطوفان وتقديم مكاسب ضيقة مثل تحييد إيران وإضعاف حماس على التعامل بشكل استراتيجي يسعى لحفظ مصالح الأمن القومي حتى وفق أبجديات السياسة الواقعية وليس الأخلاق والقيم المثلى. ووجود نية جادة لدى الإسرائيلي مع موفور من القوة المادية والمبادرة السياسية والاستراتيجية مقابل تعامل خطابي من الطرف العربي سيعني احتمالات سيئة لا حصر لها.

شارك المقالة
مقالات مشابهة