ما بعد انتخابات 2024: أبعاد النفوذ الفرنسي في إفريقيا

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
07/28/2024
شارك المقالة

استعمرت فرنسا عدداً كبيراً من الدول الإفريقية، وامتدت مستعمراتها عَبْر كل أقاليم القارة، شمالاً وشرقًا وغرباً ووسطاً، ومع تنامي دور حركات التحرُّر الوطني وحصول العديد من الدول الأفريقية على استقلالها، استمرت فرنسا تمارس السيطرة والهيمنة عَبْر وكلاء محليين، وأدوات غير عسكرية، مع بقاء بعض الأدوات العسكرية بمسميات مختلفة، وبغطاء تعاوُني أو إنساني.

ويرتكز النفوذ الفرنسي في إفريقيا على عدة ركائز، أبرزها: تجنيد النُّخَب السياسية الحاكمة، والتواجد والتدخُّل العسكري، والهيمنة الاقتصادية، والتغلغل الاجتماعي والثقافي، وقد أمَّنت هذه الركائز الاستمرارية لذلك النفوذ، على مدار ثمانية عقود وتحديداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، حيث تمكنت فرنسا خلال هذه الحِقْبة، وعَبْر تلك الركائز، من الحفاظ على إمبراطورتيها في إفريقيا.

إلا أن السنوات العشر الأخيرة شهدت تراجعاً كبيرًا في النفوذ الفرنسي في القارة، حتى في الدول التي كانت شديدة التحكم في مواردها وثرواتها، مثل إفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو والنيجر، وتشاد وغينيا كوناكري وغينيا بيساو والجابون.

وارتبط هذا التراجع في جانب منه بإخفاق فرنسا في إيجاد حلول للمشكلات المتفاقمة في المجتمعات الإفريقية، كالإرهاب، والاختلالات الاقتصادية، وانتشار الفقر، وتدني كافة الخدمات الحكومية، وكذلك دخول منافسين جُدد للساحة الإفريقية، واتساع معدلات التنافس الدولي وخاصة في مناطق النفوذ التقليدية لفرنسا، هذا بجانب تصاعد موجة الانقلابات العسكرية في دول وسط وغرب القارة، وارتبط جزء كبير منها بأطراف أخرى في مقدمتها روسيا على حساب الوجود الفرنسي.

وقد خلق هذا التنافس على الفرص في القارة، حالة من الوفرة في العروض السخية التي يقدمها هؤلاء للأفارقة، ما أتاح هامشاً واسعاً للمناورة أمام متخِذ القرار الإفريقي، ومنحه القدرة على المفاضلة بين البدائل المتعددة، بعد أن كان أسير الخيارات التي يتحكم الغرب في طرحها، وقد شجعت هذه الحالة الأفارقة، على استثمار هذا الهامش الواسع، للحصول على ميزات وشروط تعاقُدية أفضل، والانتقال إلى البدائل المتاحة، وهو ما حدث بالفعل في حالات كثيرة، منها: إفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو والنيجر، ويمكن أن يحدث في حالات أخرى، ما لم تتراجع القوى الغربية عن سياساتها الجائرة والمجحِفة.

خارطة الانتشار والنفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية

امتد النفوذ الفرنسي في القارة الإفريقية وضمت نحو ثلاثة وعشرين مستعمرة فرنسية، ففي شمال إفريقيا استعمرت فرنسا تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، فيما شنت حملة استعمارية على مصر استمرت لمدة ثلاث سنوات، وفي شرق إفريقيا استعمرت جيبوتي ومدغشقر وجزر القمر وسيشل.

وفي إقليم إفريقيا الاستوائية استعمرت فرنسا، الكاميرون وإفريقيا الوسطى وتشاد والجابون والكونغو كينشاسا، أما إقليم غرب إفريقيا فقد حظي بأكبر عدد من المستعمرات الفرنسية، حيث استعمرت فرنسا منه بنين وبوركينا فاسو وساحل العاج وغينيا كوناكري وتوجو ومالي والنيجر والسنغال.

وتحولت هذه الدول إلى مناطق ارتكاز للنفوذ الفرنسي في إفريقيا، باستثناء مصر وجيبوتي، فالأولى لم تصبح مستعمرة فرنسية، رغم احتلال فرنسا لها بين 1798 و1801، والثانية تحولت حالياً إلى دولة مستضيفة، لعدد كبير من القواعد العسكرية للدول الكبرى، ومن بينها القاعدة العسكرية الفرنسية، ومن ثَم لم يَعُدِ النفوذ في جيبوتي مقصوراً على فرنسا وَحْدَها.

وعَبْر أدواتها المختلفة تقوم بفرنسا بإحكام السيطرة على اقتصادات المستعمرات الإفريقية، وصولاً إلى الاستيلاء على ثروات هذه البلاد ومواردها، ومن أهم هذه الأدوات إبرام عقود واتفاقيات اقتصادية طويلة الأجل، وربط العملات المحلية بالفرنك الفرنسي، ومن ثَمّ التحكم في سعر الصرف،

بجانب السيطرة والهيمنة الثقافية الفرنسية، وتعزيز اللغة وأنماط الحياة الفرنسية، كبديل عن اللغات وأنماط الحياة المحلية التقليدية للسكان، حتى أصبحت اللغة الفرنسية اللغة الرسمية الأولى، ولغة التعليم في كل دول الاستعمار الفرنسي.

وعلى صعيد الدفاع والأمن يُعَدّ استحواذ فرنسا على الموادّ الخام، وبخاصة المعادن الداخلة في التصنيع العسكري الفرنسي المتطوِّر، من أهم روافد هذه الصناعة، وتلبي هذه الصناعة حاجات فرنسا وتطلعاتها، في مجال حماية إقليمها وشعبها ونظامها السياسي، من أي اعتداء أو تهديد بالاعتداء، من قِبل الدول والفواعل الدولية الأخرى.

وهو ما برز في الاستحواذ من اليورانيوم الإفريقي، الذي كانت تحصل على الجانب الأكبر منه من النيجر، قبل أن تؤول علاقات البلدين إلى القطيعة، وبالطبع تمنح الترسانة العسكرية النووية الفرنسية، الردع والقدرة على الدفاع حال الاعتداء، وتُعَدّ المصالح الدفاعية الفرنسية، التي تؤمنها لها علاقاتها الإفريقية، بمثابة المصالح المصيرية، وبخاصة في ظل الحروب والصراعات، التي يموج بها النظام الدولي في الوقت الراهن.

كما واصلت باريس هيمنتها العسكرية مع تمركز القوات الفرنسية في كلٍّ من الجابون والسنغال وكوت ديفوار وتشاد وجيبوتي، كما رصد مؤرخون تشابك هذا الوجود العسكري الفرنسي مع ظاهرة الانقلابات في القارة الإفريقية في حالات كثيرة مع قيام القوات الفرنسية بعمليات تدخل عسكري في دول إفريقية كثيرة تجاوزت 60 عملية منذ استقلال إفريقيا (من أكبرها التدخل العسكري الفرنسي في ليبيا عام 2011م، وفي مالي 2013)، وقاد إلى تدهور الأوضاع في إقليم الساحل وتراجع هائل في النفوذ الفرنسي فيه، كما لا يزال تورّط فرنسا في جريمة الإبادة الجماعية بحقّ مجموعات التوتسي في رواندا ماثلًا في الأذهان.

النفوذ الفرنسي في إفريقيا بعد انتخابات 2024

خلافاً لكل التقديرات واستطلاعات الرأي حقق اليسار الفرنسي مفاجأة كبيرة في الجولة الثانية من انتخابات البرلمان الفرنسي التي تمت في السابع من يوليو/ تموز 2024، متفوقاً على التحالف السياسي الحاكم بقيادة إيمانويل ماكرون، وتحالف التجمع الوطني اليميني المتطرف، الذي حقق أغلبية كبيرة في الجولة الأولى دفعت الكثيرين للقول بأنه سيكتسح الجولة الثانية، وهو ما لم يحدث، وتراجع للمرتبة الثالثة في ترتيب التحالفات السياسية الرئيسية التي يتكون منها البرلمان الفرنسي.

واستقبلت العديد من الدول الأفريقية هزيمة الرئيس ماكرون وتياره بترحيب كبير وخاصة من الدول التي تناصب فرنسا عداءً سافرًا في منطقة الساحل الإفريقي، أمام الفشل الفرنسي في مواجهة المشكلات الجذرية المسبّبة للإرهاب والعنف في إقليم الساحل، وتجاهل النزاعات المحلية على الأراضي والميا.

إلا أنه لا يمكن القول إن فوز اليسار في الانتخابات البرلمانية سيؤدي إلى تغيير جذري أو حقيقي في سياسات فرنسا الإفريقية بالنظر إلى عدة اعتبارات؛ منها:

1- إن ملف هذه السياسات يظل بعيدًا عن أولويات باريس في المرحلة المقبلة بشكل كبير مع انشغالها شبه الكامل بتطورات الأزمة الأوكرانية.

2- إن الرابطة الاقتصادية التي تربط دول الجماعة الفرنسية بباريس تظل بشكل كبير ممثلة في استدامة منطقة الفرنك الفرنسي في غرب إفريقيا ووسطها، وتشمل 14 دولة ترتبط كلّ منها إما بالاتحاد الاقتصادي والنقدي الغرب إفريقي UEMOA أو بالجماعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا CEMAC؛ الأمر الذي يعني استمرار استغلال فرنسا لموارد الدول الأعضاء كوسيلة لا يمكن الاستغناء عنها أو مراجعتها جذريًّا مِن قِبَل اليسار الفرنسي الفائز في الانتخابات النيابية الأخيرة.

3- إن وصول اليسار جاء بعد تراجعات كبيرة في نفوذ فرنسا في إفريقيا، على الأقل خارج نقاط ارتكازها في غرب إفريقيا والجابون، وهو الأمر الذي تدلّ عليه تصريحات متعددة من مسؤولين فرنسيين بعدم اهتمام بلادهم بقضايا الحوكمة والديمقراطية في الدول الإفريقية، ومِن ثَمَّ فإن مهمة الحكومة الفرنسية الجديدة، حال الاتفاق على تشكيلها، في ظل تضارب المواقف والتصريحات، وما يمكن أن يقوم به ماكرون في مواجهة تحالف اليسار الفائز بأكبر نسبة من الأصوات، لكنه لا يشكل الأغلبية داخل البرلمان.

4- أن التوجه التقليدي لليسار الفرنسي، وبحسب البرنامج الانتخابي الذي فاز به في الانتخابات الأخيرة، سيكون شديد التركيز على القضايا الداخلية لفرنسا بشكل كبير، لا سيما خفض سن التقاعد، وإعادة النظر في ضريبة الثروة، وتحقيق مكاسب في قطاع الإسكان للطبقات المتوسطة والدنيا، ورفع أجور القطاع العام. ولم تحظَ إفريقيا في هذا البرنامج بحضور واضح مقارنةً بالقضية الفلسطينية؛ على سبيل المثال.

5- أنه حتى في حال تشكيل اليسار للحكومة، تبقى معظم ملفات السياسة الخارجية بيد مؤسسة الرئاسة، وبالتالي يصعب توقع تغيير يُذْكَر في المقاربة العسكرية والأمنية الفرنسية تجاه القارة الإفريقية في ظل الحكومة اليسارية الجديدة؛ خاصة وأن الحكومة الفرنسية أقدمت نهاية شهر يونيو/ حزيران 2024 على تكوين ما عُرفت بـالقيادة الإفريقية داخل القوات المسلحة الفرنسية؛ بغرض القيام بمهام متعددة؛ منها مراجعة الوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا أو إعادة انتشاره وتم تعيين “باسكال إني” قائدًا للقيادة الإفريقية، على أن يتولى مهامه بدايةً من شهر أغسطس/ آب 2024.

وتؤكد هذه الخطوة، مع تفهُّم دوائر عمل القيادة الإفريقية من أجل تنشيط الوجود العسكري الفرنسي في دول جوار مالي والنيجر وبوركينا فاسو على وجه الخصوص، على مواصلة حكومة اليسار المتوقعة لسياسات القوات المسلحة الفرنسية في إفريقيا دون تعديلات تُذْكَر، حتى مع عزم القوات المسلحة الفرنسية خفض عدد جنودها في كوت ديفوار والجابون وتشاد بناء على طلب عدد من الدول.

المسارات المستقبلية للنفوذ الفرنسي في إفريقيا 

في ظل السياقات السياسية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية التي آلت إليها المجتمعات الإفريقية الفرانكفونية، وفي ظل التراجع واسع النطاق والمتسارع، الذي نال من النفوذ الفرنسي في هذه المجتمعات في السنوات القليلة الماضية، وفي ضوء نتائج الانتخابات البرلمانية التي شهدتها فرنسا في يونيو ويوليو 2024، يمكن الوقوف على عدد من النتائج الأساسية:

(1) أن هناك العديد من الأسباب للتراجع الفرنسي في القارة الأفريقية، بعضها يرجع إلى السياسات الفرنسية وبعضها يرجع إلى ما آلت إليه أحوال الدول الأفريقية، وبعضها يرجع إلى تعدد المتنافسين على الساحة الإفريقية، وهو ما ترتب عليه تراجع غير مسبوق في النفوذ الفرنسي في إفريقيا، وصل إلى درجة إلغاء الاتفاقيات، وقطع العديد من أشكال العلاقات مع أربع دول إفريقية، هي: إفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو والنيجر، وكانت العلاقات الفرنسية مع هذه الدول تحديدًا بمثابة ركيزة أساسية للهيمنة الفرنسية في القارة الإفريقية.

(2) أن النفوذ الفرنسي مرشَّح لمزيد من التراجُع والانحسار، وفي الوقت ذاته تصاعد حضور المنافسين للنفوذ الفرنسي، وفي مقدمتهم روسيا والصين وتركيا، وتعزيز مكانتهم ونفوذهم في إفريقيا الفرنسية، مستغلين ذلك التراجُع والانحسار الفرنسي.

(3) رغم أن فوز اليسار الفرنسي متجسدًا في الجبهة الشعبية الجديدة في الانتخابات النيابية في فرنسا يؤشر إلى احتمالات تغيير فرنسا سياساتها تجاه القارة الإفريقية، اتساقًا مع المبادئ المفترضة في الحركة اليسارية الفرنسية، ضد الاستغلال الدولي وممارسات فرنسا العنصرية داخل القارة؛ إلا أن التغيير في سياسات فرنسا في مرحلة ما بعد الانتخابات، يظلّ محكوماً بالعديد من الاعتبارات العسكرية والأمنية والاستخباراتية والاقتصادية والاجتماعية، سواء تلك النابعة من الداخل الأفريقي أو النابعة من الداخل الفرنسي.

بجانب أن المرحلة الراهنة، حتى في الدول التي قطعت علاقتها مع فرنسا، تتسم بدرجة عالية من السيولة السياسية، ولم تصل إلى درجة كافية من الاستقرار والاستقلال للقول معها، إن القطيعة مع فرنسا ستكون حاسمة ونهائية.

شارك المقالة

اشترك في نشرتنا الاخبارية