ماذا خسرت إيران في حرب طوفان الأقصى؟ وهل يمكن أن تستعيد قوتها؟

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
01/21/2025
شارك المقالة

ملخص

 

تستكشف هذه الورقة الديناميات المتغيرة داخل محور المقاومة في أعقاب عملية طوفان الأقصى، ويدرس الآثار الاستراتيجية بعيدة المدى للعملية على المحور وإيران. وتستعرض هذه الورقة بشكل تحليلي كيفية إظهار حماس للاستقلال الاستراتيجي في التخطيط وتنفيذ العملية والمحافظة على هيكلها وبنيتها بعد اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.

كما تسلط الضوء على تراجع نفوذ حزب الله بسبب التحديات السياسية، وفقدان سوريا كحلقة وصل استراتيجية للتسلح والدعم المالي، وخوضه حرب الإسناد دون الانخراط في مواجهة شاملة، والتي تناقضت مع خطابه حول “وحدة الساحات”. وعلى نحو مماثل تستعرض كيف يجري تقييد دور قوات الحشد الشعبي بسبب سياسات الحكومة العراقية والضغط المتزايد من الولايات المتحدة. على العكس من ذلك، تُبرز الورقة الدور المستقبلي لأنصار الله كقوة صاعدة، مستفيدة من تكنولوجيا الصواريخ المتقدمة والاضطرابات البحرية لإعادة تشكيل ديناميات المحور.

وأخيراً، تبحث الورقة في استراتيجية الردع الإيرانية المتطورة، والتي تنتقل من الاعتماد على الحلفاء من غير الدول إلى الاعتماد على الذات من خلال برامج الصواريخ والطائرات بدون طيار والبحرية والفضاء المتقدمة.

وتخلص إلى أن المحور يخضع لإعادة تقييم للحفاظ على أهميته في المشهد الإقليمي المتقلب، مع التأكيد على مستقبله الغامض والذي يعتمد على التحالفات الإقليمية والتطورات المتسارعة.

 

 

مقدمة

 

كانت معركة طوفان الأقصى، التي اندلعت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حدثاً تاريخياً غير مسبوق أعاد تشكيل المشهد الجيوسياسي والاجتماعي في الشرق الأوسط. فقد كسرت عملية طوفان الأقصى سنوات من الركود وحفزت أبعاداً جديدة في الخطاب الإقليمي والدولي المحيط بالقضية الفلسطينية، وامتدت آثارها إلى ما هو أبعد من حدود غزة، حيث أثرت على محور المقاومة الأوسع واستراتيجية إيران الإقليمية التي حاولت ترسيخها على مدار عقود. وقد دفع هذا الحدث المحوري إلى إعادة تقييم التحالفات والاستراتيجيات وديناميكيات القوة بينها وبين الجهات الفاعلة غير الحكومية واللاعبين الحكوميين على حد سواء.

 

طوفان الأقصى شهادة على استقلالية حماس

 

العلاقة بين حماس وإيران كثيراً ما تعرضت للتشويه، حيث وصف بعض الأكاديميين حماس ببساطة بأنها وكيلة لإيران أو وضعها بشكل صارم ضمن ما يسمى “محور المقاومة” التقليدي. ولكن الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك. فالعلاقة بينهما ليست علاقة تبعية بل هي بالأحرى محاذاة براغماتية. وهذا التمييز أمر بالغ الأهمية لفهم استراتيجيات حماس وقدرتها على العمل بشكل مستقل ويوفر لنا أرضية مناسبة لاستكشاف مستقبلها، وخاصة خلال لحظات الصراع الحرجة.

 

إن عملية طوفان الأقصى تشكل مثالاً واضحاً على استقلال حماس الاستراتيجي. وعلى النقيض من النهج طويل الأمد الذي تنتهجه إيران في التعامل مع صراعها مع إسرائيل، والذي يتسم بالضربات التدريجية وتسجيل النقاط، شنت حماس هجوماً جريئاً وشاملاً. وقد أظهرت هذه العملية، التي نفذتها برياً وبحرياً وجوياً، مدى التطور التنظيمي للحركة وقدرتها على التكيف بسرعة مع الحقائق على الأرض.

 

وتشير التقارير إلى أن حماس نفذت هذه العملية دون التشاور المسبق أو الموافقة من إيران. وكان هذا الاستقلال واضحا بشكل أكبر في نموذج القيادة اللامركزية الذي وجه المعركة. فقد أدار القادة الميدانيون، المخولون باتخاذ القرارات في الوقت الحقيقي، العملية بفعالية، مما ضمن مستوى من القدرة على التكيف نادرا ما نراه في الجماعات المسلحة غير التابعة لدولة. وحتى بعد وقف إطلاق النار، أظهر مقاتلو حماس انضباطا وتنسيقا ملحوظين، حيث عملت الحركة على إعادة بناء صفوفها من خلال جهود التجنيد الاستراتيجية لتعويض النقص الحاصل في الصفوف بعد المعارك البرية.

 

لقد أعاد طوفان الأقصى تعريف تصورات حماس، ليس باعتبارها جهة فاعلة تابعة بل باعتبارها قوة مكتفية ذاتيا وقادرة في حد ذاتها. ويسلط نجاحها الضوء على أهمية فهم الحركة باعتبارها كيانا ديناميكيا ــ كيان يعمل باستقلال استراتيجي وإبداع تكتيكي. كما تظل حماس صوتا قويا ومستقلا في النضال من أجل التحرير الفلسطيني، وترسم مسارها الخاص وسط تعقيدات السياسة الإقليمية.

 

ما بعد طوفان الأقصى: حزب الله بين تراجع النفوذ واحتمالات العودة

 

ظهر حزب الله اللبناني كواحد من الكيانات الأكثر تضرراً. وعلى الرغم من الخطاب الكبير الذي أطلقه محور المقاومة حول “وحدة الساحات”، إلا أن هذا المفهوم فشل في أن يتحقق بطريقة ملموسة ومنسقة. لقد كشف انخراط حزب الله المحدود مع إسرائيل عن نقاط ضعف في استراتيجيته العسكرية في المواجهة مع إسرائيل، كما سلط الضوء على التحديات الأوسع التي تواجهها محور المقاومة ككل في مشهد إقليمي سريع التغير.

 

لسنوات عديدة، كان حزب الله في طليعة الدعوة إلى وحدة جبهات المقاومة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ومع ذلك، أثناء وبعد طوفان الأقصى، ظل هذا المثل نظريًا إلى حد كبير. لقد مكنت مواجهات حزب الله المدروسة والمنخفضة التصعيد مع إسرائيل خلال هذه الفترة الأخيرة من تركيز تل أبيب مواردها وجهودها ضد حماس في غزة، مما أدى إلى تأجيل مواجهة محتملة أوسع نطاقًا مع حزب الله. إن هذه الاستراتيجية، في حين تهدف ظاهرياً إلى تجنب الحرب على جبهتين، كشفت عن ثغرة رئيسية وهي الافتقار إلى العمل المتزامن داخل محور المقاومة.

 

أصبحت هذه الفجوة واضحة بشكل خاص مع نجاح إسرائيل بتفجير أجهزة البيجر واغتيال حسن نصر الله، الأمين العام السابق لحزب الله. وقد أبرزت هذه الحوادث نقاط ضعف كبيرة في الإطار الاستخباراتي والأمني ​​لمحور المقاومة، مما أثار تساؤلات حول قدرته على تحدي إسرائيل بفعالية على جبهات متعددة.

 

على الرغم من هذه النكسات، أظهر حزب الله براعته في القتال البري، وخاصة في ردع الغزو البري الإسرائيلي. وقد سلط هذا الضوء على قدرة المجموعة الدائمة على المقاومة في ساحة المعركة وأكد على قدرتها على إلحاق تكاليف كبيرة بالقوات الإسرائيلية في أي صراع مباشر. ومع ذلك، فإن هذه القدرات لم تعوض الخسائر الاستراتيجية والسياسية الأوسع التي تكبدتها خلال هذه الفترة.

 

فقد أدخلت آلية وقف إطلاق النار بعد المعركة تحديات جديدة لحزب الله. ومن الجدير بالذكر أن إسرائيل، بموافقة أميركية، ضمنت لنفسها الحق في تنفيذ ضربات استباقية على الأراضي اللبنانية إذا ما تبين أن حزب الله يعيد تسليح بنيته التحتية العسكرية أو إعادة بنائها. ويمثل هذا البند قيداً كبيراً على حرية حزب الله في العمل، مما يعرض استعداداته العسكرية المستقبلية لتهديد مستمر.

 

بالإضافة إلى ذلك، يشير المشهد السياسي المتغير في لبنان ــ والذي اتسم بانتخاب جوزيف عون رئيساً ونواف سلام رئيساً للوزراء ــ إلى تحول محتمل نحو تنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 1701، الذي يسعى إلى منع تسليح حزب الله بشكل كامل. وتشكل هذه التطورات تحدياً مباشراً للهوية المزدوجة للمجموعة كحزب سياسي وحركة مقاومة مسلحة.

 

ويمثل سقوط الرئيس المخلوع بشار الأسد وسيطرة المعارضة السورية اللاحقة على سوريا ضربة حاسمة أخرى لحزب الله. فلسنوات، كان نظام الأسد يوفر شريان حياة لوجستي واقتصادي حيوي لحزب الله، حيث كان بمثابة قناة للأسلحة ومركز للتجارة غير المشروعة وعمليات التهريب. إن انهيار شبكة الدعم هذه لا يقوض القدرة العسكرية لحزب الله فحسب، بل ويهدد أيضاً استدامته الاقتصادية.

 

إن تقاعس الأسد عن التحرك ضد إسرائيل بعد طوفان الأقصى كشف عن هشاشة التنسيق داخل محور المقاومة. كما أن عدم رغبته في الانخراط في أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل عزز من التصور بأن المحور يفتقر إلى التماسك والرؤية الاستراتيجية الموحدة.

 

إن التحديات التي تواجه حزب الله، والتي تتراوح بين العزلة السياسية والقيود العسكرية وفقدان أنظمة الدعم الحاسمة، تجعله الخاسر الأكبر في أعقاب طوفان الأقصى. وفي حين يتكهن بعض المحللين بأن هذه الضغوط قد تؤدي إلى تحول حزب الله إلى حزب سياسي بحت، فإن مثل هذا التحول ليس مؤكداً على الإطلاق.

 

إن الطبيعة المتقلبة للشرق الأوسط وإمكانية ظهور فرص جديدة، مثل التحولات في التحالفات الإقليمية أو التغيرات في السياسة الداخلية في لبنان، قد تسمح لحزب الله باستعادة موطئ قدمه. إذا أصبحت الظروف مواتية، فقد تعيد الجماعة تسليح نفسها وتستعيد دورها ككيان سياسي عسكري هجين قادر على تحدي إسرائيل بشكل مباشر، مرة أخرى.

 

قوات الحشد الشعبي تحت الحصار

 

تجد قوات الحشد الشعبي العراقية نفسها مقيدة بشكل متزايد في أعقاب طوفان الأقصى. وفي حين انخرطت في عمليات متفرقة ضد إسرائيل، كان تأثيرها هامشيًا، وكان رد الفعل سريعًا. وكشفت تهديدات إسرائيل باستهداف مواقع قوات الحشد الشعبي من خلال الغارات الجوية في عمق العراق عن نقاط ضعف المجموعة وموقفها الهش في الصراع الأوسع.

 

ومما يزيد من تعقيد هذه التحديات الخارجية الموقف السياسي المتغير للحكومة العراقية. فتحت ضغط الاعتبارات المحلية والتنسيق مع الولايات المتحدة، اتخذت بغداد خطوات حاسمة لكبح جماح قوات الحشد الشعبي. تعكس دعوة وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين للجماعات المسلحة لنزع سلاحها أو الاندماج في الجيش الوطني استراتيجية أوسع لتفكيكها كقوة مستقلة. كما تضيف عودة دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة المزيد من الثقل لهذا المسار، حيث من المرجح أن تعمل سياسات إدارته على تكثيف الجهود لتحييد نفوذ هذه القوات.

 

إن تراجع قوات الحشد الشعبي يشير إلى أكثر من مجرد انتكاسات عملياتية؛ فهو يمثل ضعفًا أوسع نطاقًا للجهات الفاعلة التقليدية داخل محور المقاومة، مما يترك فراغًا يتم ملؤه بشكل متزايد من قبل قوى أكثر قدرة على التكيف وموقعًا استراتيجيًا.

 

صعود أنصار الله: طليعة جديدة

 

مع صراع قوات الحشد الشعبي مع أهميتها المتضائلة، برزت جماعة أنصار الله الحوثيين كلاعب صاعد داخل محور المقاومة. لقد تجاوزت هذه الحركة اليمنية أصولها المحلية، ووسعت نفوذها إلى ما هو أبعد من حدود اليمن، وأكدت نفسها كلاعب إقليمي.

 

في أعقاب طوفان الأقصى، أظهرت أنصار الله قدراتها المتنامية من خلال تعطيل الملاحة البحرية في البحر الأحمر. لم تستهدف هذه العمليات المصالح التجارية الإسرائيلية فحسب، بل استهدفت أيضًا مصالح حلفائها الرئيسيين، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا. من خلال تحدي بعض أكثر ممرات الشحن أهمية في العالم، أظهر الحوثيون قدرتهم على ممارسة النفوذ الاستراتيجي على نطاق عالمي.

 

وعلاوة على ذلك، عزز تقدم أنصار الله في تكنولوجيا الصواريخ موقفها داخل المحور. بدعم من إيران، طورت المجموعة أنظمة صاروخية متقدمة قادرة على اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية المتطورة. تسلط هذه الخطوات التكنولوجية الضوء على قدرة الحوثيين على تغيير ديناميكيات أي صراع مستقبلي مع إسرائيل، مما يجعلهم عنصرًا حيويًا بشكل متزايد في شبكة المقاومة.

 

إن صعود أنصار الله يمثل تحولاً في نموذج المقاومة، حيث يمكن للجهات الفاعلة اللامركزية والرشيقة والمجهزة بالتكنولوجيا المتقدمة تحقيق مكاسب استراتيجية كبيرة، وتحدي هيمنة القوى التقليدية المرتبطة بالدولة.

 

استراتيجية الردع الإيرانية بعد عملية طوفان الأقصى: نقطة تحول

 

كانت عملية طوفان الأقصى بمثابة جرس إنذار حاسم لإيران، حيث كشفت عن نقاط ضعف كبيرة في استراتيجيتها القديمة المتمثلة في الردع المتقدم من خلال التحالفات مع الجماعات المسلحة غير الحكومية. وقد أبرزت هذه اللحظة المحورية الحاجة إلى إعادة تقييم طهران وإعادة صياغة نهجها للحفاظ على النفوذ ومواجهة الخصوم في بيئة جيوسياسية معقدة على نحو متزايد.

 

كان فقدان سوريا كجسر استراتيجي لحزب الله، في أعقاب سيطرة المعارضة السورية وسقوط نظام بشار الأسد، بمثابة انتكاسة كبيرة لطموحات إيران الإقليمية. وفي غياب اتصال جغرافي مباشر، يبدو أن إيران تعمل على تقليص اعتمادها العملياتي على حزب الله. وبدلاً من ذلك، اختارت الدعم المالي لدعم النفوذ السياسي لحزب الله في لبنان، مدركة أن دوره كفاعل سياسي يظل حيوياً لنفوذ إيران في المنطقة.

 

إن هذا التحول يعكس إدراكًا أوسع نطاقًا وهو أن اعتماد إيران التقليدي على حلفائها من غير الدول لإبراز القوة أصبح تحت الضغط. لقد كشفت التحديات التي واجهها محور المقاومة أثناء وبعد طوفان الأقصى أن الحفاظ على النفوذ من خلال هذه الشبكات فقط غير كافٍ في مواجهة الحقائق العسكرية والتفوق الأمني والاستخباراتي والتكنولوجي لإسرائيل والولايات المتحدة.

 

وبناء على ذلك، يمثل الاستخدام غير المباشر لإيران لأنصار الله (الحوثيين) لاختبار صواريخها فرط الصوتية المتقدمة ضد أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية تكيفًا ملحوظًا في استراتيجية الردع الخاصة بها. قدمت عمليات إطلاق الصواريخ هذه بيانات قيمة في العالم الحقيقي، مما سمح لإيران بتقييم أداء أنظمة أسلحتها، وتحديد نقاط الضعف في الدفاعات الإسرائيلية، وتحسين تكنولوجيا الصواريخ وفقًا لذلك. تسلط هذه الاستراتيجية الضوء على النهج البراجماتي لإيران في الاستفادة من حلفائها لأغراض مزدوجة: الحفاظ على الضغط الإقليمي على الخصوم مع تعزيز قدراتها العسكرية الخاصة.

 

نحو نموذج للردع الذاتي

 

لقد دفعت القيود التي كشفت عنها طوفان الأقصى، إيران إلى تحويل تركيزها نحو بناء نموذج ردع ذاتي. إن هذا التحول واضح في العديد من التطورات البارزة أهمها:

1) الكشف عن مدن الصواريخ تحت الأرض: لقد استعرضت إيران بنيتها التحتية العسكرية الواسعة تحت الأرض، مما يشير إلى استعدادها لتحمل الصراع المطول وتأمين ترسانتها الصاروخية ضد الضربات المحتملة.

2) توسيع قدرات الطائرات بدون طيار: يتم دمج آلاف الطائرات بدون طيار المتقدمة في ترسانة إيران، مما يعكس التزامها بتعزيز قدرتها على كل من عمليات المراقبة والهجوم.

3) البنية التحتية للسفن الحربية والبحرية: إن الكشف عن مرافق تحت الأرض للسفن الحربية يوضح جهدًا أوسع نطاقًا لتأكيد الهيمنة في المناطق البحرية الحيوية للأمن الإقليمي.

4) برنامج الفضاء المتقدم: من خلال تسريع مبادرات إطلاق الأقمار الصناعية، تهدف إيران إلى دمج تكنولوجيا الفضاء في برنامجها الصاروخي، مما يعزز دقة وفعالية ترسانتها. تشير هذه الخطوة إلى استثمار استراتيجي في قدرات الحرب من الجيل التالي.

 

على الرغم من هذه الجهود لتعزيز ردعها التقليدي وغير المتماثل، فإن تحركات إيران تكشف عن اعتراف ضمني بحدودها الاستراتيجية. إن المبادرات الأخيرة التي قدمتها إيران للولايات المتحدة فيما يتصل بالمفاوضات بشأن برنامجها النووي تشير إلى أن طهران تدرك المخاطر الكارثية المترتبة على السعي إلى الحصول على الأسلحة النووية. ذلك أن تصنيع القنبلة النووية من شأنه أن يستفز استجابة مباشرة وساحقة من جانب الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، الأمر الذي قد يجر إيران إلى صراع من غير المرجح أن تصمد أمامه.

 

ويؤكد هذا الضبط على فهم إيران للتوازن الهش الذي يتعين عليها أن تحافظ عليه. فهي لا تستطيع أن تتحمل الاعتماد على الردع النووي دون المخاطرة بالعزلة الدولية أو المواجهة العسكرية. بل يبدو أنها تسعى بدلاً من ذلك إلى إيجاد أرضية مشتركة وهو استخدام تقدمها العسكري لإبراز قوتها في حين تشير إلى استعدادها للمشاركة الدبلوماسية لتجنب التصعيد.

 

خاتمة

 

إن الديناميات المتطورة في الشرق الأوسط، وخاصة في أعقاب الأحداث المحورية اللاحقة لعملية طوفان الأقصى، تكشف عن منطقة شرق أوسط تمر بتحول عميق. إن الأطر التقليدية للمقاومة والردع وإسقاط القوة يتم إعادة تعريفها من خلال التحالفات المتغيرة والتقدم التكنولوجي وظهور جهات فاعلة جديدة، مما يخلق بيئة جيوسياسية سائلة ومعقدة.

محور المقاومة، الذي كان يُنظر إليه ذات يوم على أنه جبهة موحدة ضد إسرائيل وحلفائها، يجد نفسه الآن عند مفترق طرق. تواجه القوى الراسخة مثل حزب الله وقوات الحشد الشعبي العراقية تحديات متزايدة. إن الانتكاسات الاستراتيجية لحزب الله، إلى جانب المشهد السياسي المتغير في لبنان وفقدان الدعم اللوجستي من سوريا، تسلط الضوء على تراجع قدرته على الحفاظ على دوره المزدوج كفاعل سياسي وعسكري. وعلى نحو مماثل، وجدت قوات الحشد الشعبي استقلاليتها وقدرتها العملياتية مقيدة بسبب انحياز العراق للسياسات المتأثرة بالولايات المتحدة، مما يشير إلى انخفاض نفوذها داخل شبكة المقاومة الأوسع. وتؤكد هذه التطورات على نقاط ضعف الجهات الفاعلة التقليدية، وتكشف عن ثغرات في قدرتها على التكيف مع الضغوط الإقليمية المتطورة.

ومع ذلك، حتى مع تعثر بعض القوى داخل المحور، فإن قوى أخرى تظهر بقوة جديدة. وقد برزت جماعة أنصار الله الحوثيين كلاعب بارز حيث تؤكد قدرتها على تعطيل الطرق البحرية، وتحدي الدفاعات الإسرائيلية بالصواريخ المتقدمة، وتوسيع نفوذها العملياتي على اللامركزية داخل المحور ذاته.

وتظل إيران في قلب هذا المحور المتطور، وهي تكافح مع القيود المفروضة على اعتمادها التقليدي على شبكات الجماعات المسلحة من غير الدول. وقد دفعت دروس عملية طوفان الأقصى طهران إلى إعادة النظر في استراتيجيتها، والانتقال نحو نموذج الردع المعتمد على الذات. من خلال الكشف عن مدن الصواريخ تحت الأرض، وتوسيع قدرات الطائرات بدون طيار، وتطوير البنية الأساسية البحرية، وتعزيز برنامجها الفضائي، تعمل إيران على تعزيز قدرتها على استعراض القوة بشكل مستقل. تعكس هذه التحركات فهمًا مفاده أن الابتكار التكنولوجي والاكتفاء الذاتي أمران حاسمان للحفاظ على النفوذ الاستراتيجي في الشرق الأوسط المتغير بسرعة.

شارك المقالة
مقالات مشابهة