“مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة، ولطالما فكّرت كيف يمكن توسيعها”، هذا ما صرح به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية في 16 أغسطس 2024، ثم كرر هذا التصريح في 4 فبراير الجاري حين سأله صحفي حول ما إذا كان يؤيّد ضمّ إسرائيل للضفة الغربية.
وكرجل أعمال يعرف كيفية عقد الصفقات، وجه ترامب صدمة قوية لحلفائه وخصومه على حد سواء حين طرح خطة تهجير أهالي قطاع غزة إلى دولة ثالثة، وهو ما فاق توقعات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه حتى ظهرت ملامح التعجب على وجهه.
وبينما يعنون البعض مرحلة ما بعد الحرب على غزة بـ “حقبة الهيمنة الإسرائيلية”، فقد زادت خطة ترامب من نشوة إسرائيل لفرض سياساتها على الشرق الأوسط، وعززت من توجه حكومة نتنياهو نحو معارضة حل الدولتين والتصريح بالتوسع خارج حدود الاحتلال الحالية.
وعلى وقع الصدمة، سارعت الدول العربية، من دول الطوق وصولًا إلى دول الخليج العربي، لرفض الخطة والتأكيد على تمسكها بالسلام وفق حل الدولتين، بينما وضعها ترامب في مأزق التوفيق بين معادلتين: علاقتها مع الولايات المتحدة من جهة، وضرورة حفظ أمنها القومي من جهة أخرى.
ولأن الدول العربية بعيدة كل البعد عن التجانس في مصالحها ومخاوفها ومساراتها، فمن الضروري تحليل محاور التأثير الرئيسية في القضية الفلسطينية- دول الطوق ودول الخليج- لفهم مواقفها وردود أفعالها المستقبلية تجاه التصعيد الأمريكي بشكل أفضل، مع الأخذ بعين الاعتبار أيضًا الأهمية الاستراتيجية لهذه الدول بالنسبة لإسرائيل.
مصر والأردن
تمس خطة ترامب لتهجير الفلسطينيين دول الطوق- مصر والأردن وسوريا ولبنان- بشكل مباشر، إذ تشكل القضية الفلسطينية منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي ركيزة مؤثرة في أمنها واستقرارها وتوازناتها الداخلية والخارجية.
تعارض مصر والأردن مخطط التهجير خوفًا من تحول حدودها مع فلسطين المحتلة إلى جبهة قتال مع إسرائيل، فتهجير الفلسطينيين إلى سيناء المصرية والضفة الشرقية من نهر الأردن سينقل حالة المقاومة من غزة إلى كلا البلدين. ومما تخشاه السلطات المصرية والأردنية التغيير الديمغرافي الذي سيحدثه تهجير الفلسطينيين، فقرابة نصف الأردنيين من أصول فلسطينية، ما يعني أن التهجير من شأنه ترجيح كفة هؤلاء في المعادلة الداخلية الأردنية، وكذلك الأمر بالنسبة لمصر التي يخشى نظامها من تحول سيناء إلى مجتمع فلسطيني يرجح كفة الإسلاميين في المعادلة المصرية.
لكن الشراكة التي تربط كلا الجانبين بالولايات المتحدة والأزمة الاقتصادية التي يمران بها تضعهما أمام موازنة صعبة، بين الحاجة للحفاظ على استقرار النظامين من جهة والحفاظ على موقعهما في الاستراتيجية الأمريكية للشرق الأوسط.
ففي عهد إدارة الرئيس بايدن، وقعت واشنطن وعمان مذكرة تفاهم حتى العام 2029 تضمن للأردن مساعدات اقتصادية وعسكرية بقيمة 1.45 مليار دولار سنويًا، لكن ترامب مع عودته إلى البيت الأبيض علق هذه المساعدات لتكون قيد المراجعة لمدة 90 يومًا. ورغم استثناء المساعدات المقدمة لمصر إلى جانب إسرائيل من هذا القرار، إلا أن البنتاغون يلوح بالضغط على الجيش المصري من خلال تقييد المساعدات العسكرية، خاصة الإمدادات اللازمة للصيانة الدورية للأسلحة وقطع الغيار.
سوريا ولبنان
أما سوريا التي خرجت لتوها من ثورة عسكرية دامت 14 عامًا، فقد استنكر رئيسها الجديد أحمد الشرع خطة التهجير مؤكدًا أنها لن تنجح. ورغم كون ترامب لم يتعرض لذكر سوريا خلال حديثه عن خطته، إلا أن أقلامًا إسرائيلية طرحت سوريا كوجهة للتهجير مقابل حل أزمتها الاقتصادية. وضمن وسائل الترهيب، تقدم جيش الاحتلال الإسرائيلي في العمق السوري واحتل جبل الشيخ (حرمون) في خطوة استباقية تؤمن له تفوقًا استراتيجيًا، كما يلوح المسؤولون الإسرائيليون بورقة الأقليات في سوريا- الدروز في الجنوب والأحزاب الكردية الانفصالية في الشمال الشرقي- كأداة لزعزعة استقرار الإدارة السورية الجديدة.
ويفترض أصحاب هذا الاقتراح أن فرص نجاحه متوفرة فيما لو قُدم توطين الفلسطينيين كشرط لخطة شاملة لإعادة إعمار سوريا من جديد، والانسحاب من المناطق التي احتلها الجيش الإسرائيلي مؤخرًا. لكنهم يُغفلون الرفض الشعبي السوري وامتناع الإدارة السورية الجديدة عن القبول بنقل أزمة احتلال فلسطين إليها وتحمل تبعات الاحتلال، فضلًا عن البيئة الفكرية والمنهجية التي تنتمي إليها معظم مكونات الإدارة السورية الجديدة، وهي بيئة تنسجم في معظم تنظيراتها مع المقاومة الإسلامية في فلسطين فيما لو استثنينا جانب العلاقة مع إيران وحزب الله اللبناني.
وعلى الجانب الآخر من الحدود، فإن لبنان منشغل في حل معضلة تمسك إسرائيل بالبقاء في الجنوب اللبناني، مع انكسار حزب الله في معركته الأخيرة وما تبعها من تراجع لنفوذه السياسي في المشهد اللبناني، ما يجعل الحزب خارج دائرة التأثير فيما يتعلق بخطة التهجير.
دول الخليج العربي
تحظى دول الخليج الغنية بأهمية بالغة بالنسبة للرئيس ترامب، نظرًا إلى الأهمية التي يوليها للسعودية تحديدًا في المشهد الإقليمي وأمن الطاقة وصفقات الدفاع، والتعاملات التجارية واسعة النطاق له ولأفراد عائلته معها. وفي إشارة لأهمية الرياض بالنسبة له، كان حديث ترامب مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الأول من نوعه مع زعيم أجنبي منذ عودته إلى البيت الأبيض.
وتتزايد الأهمية الاستراتيجية لدول الخليج في ظل منافسة واشنطن المتصاعدة مع الصين، حيث يسعى البيت الأبيض لإبقاء دبلوماسية الصفقات السعودية والإماراتية بعيدة عن الشركات الصينية في مجالات الطاقة والذكاء الاصطناعي والدفاع.
في المقابل، تحتل القضية الفلسطينية مكانة عالية على جدول الأعمال الإقليمي لدول الخليج، ما يعكس أهميتها بالنسبة للرأي العام الخليجي وخاصة بعد الحرب في غزة. لكن ورغم الرفض الخليجي لمخطط التهجير، وخاصة عقب تصريحات نتنياهو حول إعطاء الفلسطينيين أراضي لإنشاء دولتهم في السعودية، فإن الموقف الإماراتي الأقل صلابة يمثل خرقًا للموقف العربي.فقد صرح السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة خلال القمة العالمية للحكومات في دبي بأنه لا يرى بديلًا لخطة تهجير الفلسطينيين من غزة، وأبدى استعداد أبو ظبي “لمناقشة أي اقتراح بديل فيما لو وُجد”. ورغم التوافق العربي حول تأكيد البيان الختامي للقمة العربية الطارئة، التي ستستضيفها مصر في 27 فبراير الجاري، على رفض تهجير سكان غزة، إلا أن الإمارات تتمسك بإدخال تعديلات على الصياغة النهائية للنص مطالبة بإضافة كلمة “القسري” إلى جملة “الرفض القاطع للتهجير”، لتحصر موقفها برفض التهجير الإجباري فقط.
ما هي خيارات الاستجابة المطروحة؟
تسعى الأنظمة العربية لتشكيل رأي عام دولي- مع الاتحاد الأوروبي- لإقناع ترامب بالعدول عن مخطط التهجير والعودة إلى حل الدولتين، لما يشكل هذا المخطط من تهديد لاستقرارها الداخلي ودورها الإقليمي. وفي هذا المسار، تبرز ورقة التطبيع السعودي مع إسرائيل كورقة ضغط، إذ يأمل ترامب بأن يؤدي التطبيع إلى استثمارات سعودية ضخمة مع الولايات المتحدة في مجالات الدفاع والطاقة.
لكن أصواتًا إسرائيلية باتت تشكك في أهمية هذا التطبيع في مقابل الإنجاز الميداني الذي سيحققه تهجير الفلسطينيين. فاتفاقيات التطبيع ليست هي ما ساعد الجيش الإسرائيلي في حربه على غزة بشكل مؤثر، بل القوة النارية المدعومة بإمدادات أمريكية واسعة النطاق والمحمية بغطاء سياسي أمريكي في المحافل الدولية.
كما أن إعلان ترامب عن مشروع إنشاء طريق تجاري دولي جديد، لإفشال “طريق الحرير” الصيني، يبدأ من الهند ويمر عبر الإمارات والسعودية والأردن ثم إلى فلسطين المحتلة وصولًا إلى أوروبا، من شأنه أن يعزز الخرق في الموقف العربي ويهدد أهمية قناة السويس بالنسبة لدور مصر الإقليمي وأمنها الاقتصادي.
بين الجدية والابتزاز
تشير العقبات السياسية واللوجستية والاقتصادية أمام مخطط تهجير الفلسطينيين إلى إمكانية كونها خطوة لابتزاز الدول العربية من جهة، والضغط على فصائل المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى، وهذا ما يفسر دعوة مسؤولين في إدارة ترامب الدول الرافضة للتهجير إلى تقديم حلول أخرى حول “اليوم التالي في غزة”.
كما أن طرح هذه الخطة عزز من موقف نتنياهو الداخلي وأكسبه مزيداً من الوقت، في مقابل ضغوطات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفي.
ولذا، فمن غير المستبعد أن يقدم الرؤساء العرب من خلف الكواليس خطة بديلة ضمن نهج أكثر براغماتية، تحفظ التوازن بين الاستقرار الداخلي والعلاقة مع الولايات المتحدة، وتحد من حضور المقاومة الفلسطينية في إدارة قطاع غزة. ومع كل ما تقدم في هذا المقال، فإن طبيعة قرارات ترامب تحيط بها هالة من عدم اليقين وتتسم بالتقلبات والصدمات المفاجئة، ترافقها قيادة إسرائيلية مدفوعة بأحلام توسعية ومخاوف أمنية، ما يبقي الخيارات مفتوحة على أكثر السيناريوهات تطرفًا.