منذ توقيع اتفاقية تصدير الغاز بين مصر وإسرائيل عام 2019، التي وُصفت آنذاك بأنها “إنجاز استراتيجي”، تصاعدت التحذيرات من احتمال تحوّل هذه العلاقة إلى مصدر ضغط سياسي واقتصادي على القاهرة مستقبلاً. واليوم، تتجسد تلك المخاوف على أرض الواقع، إذ باتت إسرائيل توظّف ملف الغاز كورقة ابتزاز جيوسياسي ضد مصر، في خضم تصاعد التوترات بين الجانبين، خاصةً مع استمرار الحرب على غزة والضغوط الغربية الرامية إلى إعادة تشكيل الخريطة السياسية والديموغرافية للقطاع.
وتأتي أزمة الصيف الحالي لتكشف عن ملامح هذا التوظيف السياسي للطاقة، حيث انخفضت إمدادات الغاز من إسرائيل إلى مصر بنسبة تصل إلى 20%، بحسب ما نقلته وكالة بلومبرغ. وتبرّر إسرائيل هذا التخفيض بارتفاع الاستهلاك المحلي وأعمال الصيانة، وهي أسباب تبدو فنية من الناحية الظاهرية، لكنها تُستثمر بوضوح لتحقيق مكاسب سياسية. فقد تراجعت الإمدادات من مليار قدم مكعبة يوميًا إلى نحو 850 مليون قدم، مع توقّعات بانخفاضها إلى أقل من نصف مليار خلال أشهر الصيف – وهي الفترة التي تشهد ذروة استهلاك الكهرباء في مصر، وتُعدّ الأكثر حساسية في معادلة الطاقة.
ولا يمكن قراءة هذه التطورات بمعزل عن السياق الإقليمي الأوسع. فمصر، التي تواجه ضغوطًا مكثفة للقبول بمقترحات تهجير سكان غزة، تجد نفسها في موقع هش أمام شريك يتعامل مع الطاقة بوصفها أداة ضغط سياسي. وتستغل إسرائيل حاجة القاهرة الملحّة للغاز – لتوليد الكهرباء وتشغيل المصانع في ظل تراجع الإنتاج المحلي – لفرض أجندتها، أو على الأقل لتقليص هامش المناورة المتاح أمام القاهرة.
ويُذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تُخفض فيها إسرائيل إمدادات الغاز إلى مصر في توقيت حساس. فبعد عملية “طوفان الأقصى” في 9 أكتوبر 2023، انخفضت واردات الغاز من نحو 800 مليون قدم مكعب يوميًا إلى 650 مليونًا، عقب قرار وزارة الطاقة الإسرائيلية بوقف الإنتاج في حقل تمار، بناءً على تعليمات أمنية من وزارة الدفاع.
ويُعدّ هذا المسار التصادمي نقيضًا لما روجت له السلطات المصرية بشأن تحول البلاد إلى “مركز إقليمي للطاقة”، مستندةً إلى اكتشافات الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، وعلى رأسها حقل “ظهر”. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا مطردًا في الإنتاج منذ نهاية 2018، في مقابل تزايد مستمر في الطلب المحلي. وقد اتّسعت فجوة العجز إلى نحو 2 مليار قدم مكعب يوميًا، وسط توقّعات بوصولها إلى نحو 4 مليارات بحلول صيف 2025.
هذا التراجع الحاد دفع مصر إلى التحول من دولة مُصدِّرة إلى مُستوردة للغاز، ما شكّل ضغطًا مزدوجًا: من جهة، الاضطرار إلى شراء الغاز من الأسواق العالمية بأسعار مرتفعة، ومن جهة أخرى، الارتهان المتزايد للغاز الإسرائيلي بوصفه مصدرًا حيويًا للطاقة. وزاد من تعقيد المشهد تراجع إيرادات قناة السويس نتيجة الهجمات الحوثية المتكررة على سفن الشحن، وهو ما وضع القيادة المصرية في موقف اقتصادي وسياسي بالغ الحساسية.
كيف ردّت مصر على الابتزاز الإسرائيلي؟
أمام هذا الواقع المتأزم، شرعت القاهرة في اتخاذ سلسلة من الإجراءات للحد من اعتمادها على الغاز الإسرائيلي، في مسعى لاحتواء آثار الابتزاز الجيوسياسي وتأمين احتياجاتها من الطاقة خلال الأشهر الحرجة من فصل الصيف.
أولى هذه الخطوات تمثلت في التعاقد على شراء 60 شحنة من الغاز الطبيعي المسال تُسلّم حتى سبتمبر 2025، بتكلفة تُقدَّر بـ2.5 مليار دولار. وقد لجأت الحكومة إلى آلية تمويل طارئة تتضمن تسديد جزء من هذه الكلفة مقدمًا، مع تأجيل الجزء الأكبر منها، بما يعكس حجم الضغط وأولوية تأمين الكهرباء لتفادي أزمات شعبية واقتصادية.
كما اتجهت مصر إلى تعزيز قدراتها على استيراد الغاز من خلال التوسع في البنية التحتية، حيث وقّعت اتفاقًا مع شركة “هوج إيفي” لاستئجار سفينة تغويز عائمة جديدة لمدة عشر سنوات، لترتفع بذلك عدد السفن التي تمتلكها أو تشغلها إلى 4 بحلول عام 2026، بطاقة تغويز إجمالية تبلغ نحو 3 مليارات قدم مكعبة يوميًا. وتدرس كذلك إمكانية إنشاء محطة تغويز جديدة بتكلفة تُقدّر بـ200 مليون دولار داخل مجمع إدكو المتوقف حاليًا عن عمليات التسييل، في خطوة تهدف إلى تنويع منافذ الاستيراد وتعزيز المرونة التشغيلية.
على الصعيد الاستراتيجي، دخلت مصر في مفاوضات لعقود طويلة الأجل مع منتجين كبار مثل “أرامكو” السعودية، و”ترافيغورا” السويسرية، و”سوناطراك” الجزائرية، في محاولة للخروج من دائرة الاعتماد على السوق الفورية المعرّضة للتقلبات. ويُظهر هذا التحوّل سعي القاهرة لتأمين إمدادات مستقرة ومحمية من الضغوط السياسية والتغيرات المفاجئة في الأسعار.
في الوقت ذاته، تسعى مصر إلى تحفيز الشركات الأجنبية العاملة في قطاع الطاقة على تكثيف الاستكشاف وزيادة الإنتاج المحلي، خصوصًا في مناطق البحر المتوسط ودلتا النيل. وقد برزت خلال الفترة الأخيرة شراكات نشطة مع شركات كبرى مثل “شيفرون” الأميركية، و”إيني” الإيطالية، و”قطر للطاقة”، التي أبدت اهتمامًا متزايدًا بتوسيع استثماراتها في السوق المصري.
وتتويجًا لهذا المسار، قام وزير البترول المصري بزيارة رسمية إلى قطر في منتصف مايو 2025، جاءت في توقيت حرج وسط تصاعد التوقعات بوقف إسرائيل الكامل لتصدير الغاز. وخلال الزيارة، ناقش الطرفان توقيع عقود طويلة الأجل لتوريد الغاز، بالإضافة إلى تعزيز الاستثمارات القطرية في مشروعات الاستكشاف والإنتاج داخل مصر، وهو ما يُعد تحركًا استباقيًا لتحصين البلاد في وجه الابتزاز السياسي وتمكينها من تجاوز أزمة الطاقة المتفاقمة.
البُعد الجيوسياسي لأزمة الغاز
منذ توقيع اتفاق تصدير الغاز بين مصر وإسرائيل عام 2019، لم تقتصر العلاقة بين الجانبين على الجانب التجاري، بل دخلت إسرائيل بعمق في معادلة أمن الطاقة المصرية. وقد تعزز هذا الدور في ظل استراتيجية إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى تحويل كلٍّ من مصر والأردن إلى “دول ممر” تعتمد على الغاز الإسرائيلي، ما يجعل من أي تهديد للبنية التحتية الإسرائيلية للطاقة تهديدًا مباشرًا لأمن الطاقة في البلدين.
وفي هذا السياق، تصبح مصلحة إسرائيل في حماية منشآتها الطاقوية غير مرتبطة فقط باعتبارات الردع العسكري أو الأمن القومي الداخلي، بل مدفوعة أيضًا بحسابات إقليمية أوسع، للحفاظ على استقرار منظومة التصدير وحماية شبكة المصالح المترابطة.
هل نحن أمام تحوّل استراتيجي أم مناورة تكتيكية؟
يبقى السؤال الجوهري المطروح: هل تعبّر الخطوات الأخيرة التي اتخذتها القاهرة عن تحوّل استراتيجي في سياساتها بملف الطاقة؟ أم أنها مجرد استجابة تكتيكية ظرفية لأزمة حادة فرضها صيف ملتهب سياسيًا واقتصاديًا؟
تذهب بعض التحليلات إلى اعتبار هذه التحركات “صحوة متأخرة” لكنها ضرورية، وتدلّ على بداية وعي رسمي بخطورة الارتهان لمصدر وحيد للطاقة، خاصة إذا كان هذا المصدر خاضعًا لحسابات سياسية معادية. لكن على الجانب الآخر، هناك تخوّف مشروع من أن تعود مصر إلى سابق عهدها من السياسات قصيرة النظر، إذا ما انخفض منسوب التوترات السياسية، بما يفتح الباب مجددًا لتغليب الاعتبارات الاقتصادية المؤقتة على أولويات الأمن القومي والاستقلال الاستراتيجي.
وحتى يتحول هذا الحراك إلى سياسة راسخة واستراتيجية طويلة الأمد، سيكون على مصر المُضي في مسار تنويع مصادر الإمداد الطاقوي بشكل جاد، عبر توقيع اتفاقيات طويلة الأجل مع عدد من الدول المنتجة، مثل السعودية، قطر، الجزائر، ماليزيا، وإندونيسيا، لضمان استقرار الإمدادات وخفض الاعتماد على السوق الفورية أو على مصادر قد تتحوّل إلى أدوات ضغط سياسي في لحظة ما.