في مواجهة الخطر الروسي: إعادة بناء استراتيجيات الأمن الأوروبي

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
07/05/2024
شارك المقالة

اتخذت الحكومات الأوروبية الغربية مجموعة تدابير مواجهة التحديات والأخطار المحدقة بها، وخاصة في مجالي الأمن القومي والوطني للحفاظ على الأمن والاستقرار في بلادهم، وأصبحت الاستراتيجية العسكرية والأمنية في مقدمة أولويات دول أوروبا الغربية، حيث ازداد الإنفاق العسكري خلال الأعوام العشرة الماضية ليصل إلى 552 مليار دولار في نهاية العام 2023م، بينما كان 330 ملياراً دولار في نهاية عام 2014م.

وتأتي في مقدمة هذه الدول بريطانيا (74.9) مليار دولار، ثم ألمانيا (66.8) مليار دولار، وفرنسا (61.3) مليار دولار، وإجمالي نفقات الدول الأعضاء الـ (31) في حلف الناتو (1341) مليار دولار والذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وتأتي الأخيرة بالمركز الأول في الإنفاق العسكري (916) مليار دولار.

وتنظر دول أوروبا الغربية إلى نفسها باعتبارها خط الدفاع الثاني بالمواجهة العسكرية مع روسيا الاتحادية وحلفائها بالحرب القائمة حالياً بين روسيا الاتحادية وجمهورية أوكرانيا، وعلى نفس النهج ازداد الإنفاق العسكري لدى حكومات دول وسط أوروبا والتي انفصلت عن الاتحاد السوفييتي سابقاً وانخرطت بالتحالف الأوروبي الغربي، وتأتي في المقدمة أوكرانيا (64.8) مليار دولار، بينها مساعدات عسكرية مقدمة من حلفائها تقدر بـ (35) مليار دولار منها (25.4) مليار دولار من الولايات المتحدة الأمريكية خلال عام 2023م.

ثم تأتي جمهورية بولندا والتي تتخوف من أن يكون مصيرها كمصير أوكرانيا، فكان الإنفاق العسكري البولندي ملفتاً للنظر حيث يقدر بـ (31.6) مليار دولار خلال العام 2023م، في الوقت الذي قُدر الإنفاق العسكري لجمهورية روسيا الاتحادية بنحو (109) مليار دولار، وفق إحصائيات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري).

تحديات الأمن الأوروبي

تواجه القارة الأوروبية مجموعة أخطار أهمها: خطر انتشار المجموعات الإرهابية المسلحة، وهؤلاء أصبحوا عبئاً وخطراً على الأمن القومي الأوروبي بعد تورطهم بالأعمال الإرهابية التي نفذوها في بعض المدن الأوروبية، كما أن هناك خطر التطرف اليميني الأوروبي وهؤلاء لهم تمثيل في البرلمانات الأوروبية ولديهم أحزاب ومجموعات وتنظيماتهم الخاصة بهم، ويحاولون الوصول إلى هرم السلطة عن طريق الانتخابات الرئاسية، ولديهم أجنداتهم السياسية الخطيرة بتحويل منهجية ونظام الدول الديمقراطية إلى نظام عنصري أو نازي.

ونفذت بعض المجموعات المتطرفة اليمينية اعتداءات على المهاجرين والأجانب المقيمين في الدول الأوروبية وصلت إلى حد ارتكاب جرائم القتل.

ومن هذه المجموعات خرجت أحزاب ومجموعات مسيحية متصهينة مرتبطة بالحركة الصهيونية العالمية الداعمة للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وخرج من هؤلاء شخصيات سياسية وأصحاب قرار ولهم نفوذهم في الحكومات الأوروبية الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية ويتجاوز عددهم الـ /70/ مليون شخص، حيث يتفاخرون بانتسابهم للحركة الصهيونية العنصرية.

أما الخطر الخارجي والذي يهدد الأمن القومي للدول الأوروبية الغربية هو التخوف من تمدد روسيا الاتحادية باتجاه حدودهم، وهذا القلق بدأ منذ أن ضمت الأخيرة شبه جزيرة القرم لأراضيها 2014، ثم اجتاح الجيش الروسي الأراضي الأوكرانية خلال عام 2022م، ومازالت المعارك الضارية تدور بين الجيشين الروسي والأوكراني حتى اليوم، وأعادت هذه المواجهات للواجهة ذكريات الحرب الباردة والحروب التي قبلها، وأصبحت جميع القوى المتناحرة على الساحة الأوكرانية تنذر بحرب عالمية ثالثة.

هجوم كروكوس 22 مارس 2024

في ظل هذا التشابك والتمدد والانتشار لشتى أنواع الصراعات المسلحة على الساحة الأوروبية والدولية، جاء هجوم كروكوس الإرهابي داخل الأراضي الروسية ليعمق الخلافات السياسية والعسكرية، ويفتح الباب أمام القيادة الروسية لاستخدام الذراع الطويلة في حربها مع المجموعات الإرهابية المسلحة ومع الدول التي دعمتها في تنفيذ الهجوم، وهذا ما برز من خلال تصريحات وتهديدات السياسيين الروس حيث قال: نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف: (كل من شارك في هجوم كروكوس الإرهابي هو الآن هدف قانوني لروسيا)، ثم جاء تصريح رئيس جهاز الأمن الفيدرالي الروسي الكسندر بورتنيكوف والذي اتهم واشنطن ولندن وكييف وراء الهجوم المدبر على قاعة كروكوس.

لقد جاء توقيت وهدف عملية كروكوس الإرهابية لتلفت وتعيد أنظار المجتمع الدولي للحرب المشتعلة في أوكرانيا، بعد أن أصبحت أولوية المجتمع الدولي الحرب على قطاع غزة والإبادة الجماعية التي ينفذها العدو الصهيوني، بدعم واهتمام واشنطن والعواصم الغربية التي تزود الكيان الصهيوني بالسلاح والمال بحربه على غزة، وتركت نظام كييف يواجه الصراع مع روسيا الاتحادية، وهذا ما أغضب قادة نظام كييف بعد خسارتهم لمساحات واسعة من الأراضي في جبهات القتال مع الجيش الروسي وحلفائه.

لذلك ذهب البعض إلى أن هجوم كروكوس ليس أقل أهمية من شرارة الحرب العالمية الأولى، عندما أقدم شاب بوسني على اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فردينال وزوجته عام 1914م، لتندلع بعدها حرب طاحنة راح ضحيتها نحو 25 مليون نسمة، وكان كل طرف أو حلف له أهدافه السياسية والاقتصادية وأطماعه في السيطرة على المزيد من الأراضي، أو الرغبة في التسوية والتحرير والاستقلال، وهذا ما يحدث حالياً مع الدول الأوروبية وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد.

بين حربين عالميتين وحرب باردة

لقد استمرت الحرب العالمية الأولى أكثر من أربع سنوات بين عامي 1914 و1918، وتم خلالها تدمير البنية التحتية للدول المشاركة فيها، وتغيرت الخارطة الجيوسياسية لأوروبا ودول المنطقة والعالم، حيث اندلعت ثورات وسقطت أنظمة وحكومات تلتها نزاعات داخلية وخارجية، وكانت نتائج الحرب العالمية الأولى مقدمة للحرب العالمية الثانية التي بدأت عام 1939، رغبة من هتلر في الانتقام لما تعرضت له بلاده من إذلال في تسويات الحرب العالمية الأولى.

واستخدمت الدول المشاركة في هذه الحرب أسلحة أكثر تطوراً وفتكاً وكانت نتائجها مرعبة على العالم بأسره، سقط نحو 70 مليون قتيل وعشرات الملايين الجرحى، بالإضافة للدمار الذي لحق البنية التحتية للأطراف المتنازعة بالحرب، وأعيدت من جديد رسم الخارطة الجيوسياسية لأوروبا ومستعمراتها حول العالم بعد الحرب مباشرة.

ثم جاءت الحرب الباردة وانقسم العالم إلى قطبين القطب الأول الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية، والقطب الثاني الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية، وتسابق القطبان لفترة طويلة على التسلح النووي والتهديد به، وفي النهاية تمكنت الولايات المتحدة الأميركية من حسم الصراع واخترقت المنظومة السياسية للاتحاد السوفيتي، وتم تفكيكه وتقسيمه إلى 15 جمهورية مستقلة عام 1991م.

 وعمّت الفوضى في جميع البلاد وانتشر الفقر، وأصبحت كل جمهورية سوفيتية لها استقلالها وكيانها السياسي والاقتصادي والثقافي، وظهرت النزعة القومية والدينية والمذهبية، وانفصلت بعض الكنائس عن الكنيسة المركزية الأم الشرقية، ووجدت هذه الدول المستقلة مصالحها المشتركة مع أوروبا الغربية.

حتى وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتن إلى الحكم عام 1999، وبذل جهداً كبيراً لإحياء ما تبقى من الاتحاد السوفياتي والمتمثل حالياً بروسيا الاتحادية، وجعلها قوة لا يستهان بها حيث حافظت الأخيرة على مؤسستها العسكرية وصناعتها بقدر المستطاع، برغم كل الأزمات والتحديات الداخلية والخارجية التي ألمت بها، وبدأ التحرك على كل المستويات لإعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي.

خاصة أنه واحد من أبناء هذه الإمبراطورية التي عاصرها وخدم في مؤسساتها العسكرية والأمنية، ويشعر بالاعتزاز بقوة ونفوذ الاتحاد السوفياتي على الصعيد العالمي، لكنه اصطدم بانخراط واندماج شعوب وقوميات الدول السوفيتية المستقلة في المجتمع الأوروبي الغربي الأكثر تطوراً ورفاهية، حتى الشعب الروسي لم يعد كما كان سابقاً أيام الاتحاد السوفيتي منغلقاً عن التواصل مع الأكثرية من دول العالم، حيث أدى الاندماج مع الشعوب الأوروبية اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً إلى تغيرات كثيرة في الأفكار والآراء والعقائد المشتركة، كما أن روسيا الاتحادية أصبحت محطًا لأنظار الأوروبيين الغربيين للاستثمار فيها بسبب ثرواتها الباطنية وما تمتلكه من مصادر الطاقة المتنوعة وخاصة من النفط والغاو التي تحتاجها أوروبا الغربية.

شرق أوروبا والناتو وتعقيد المعضلة الأمنية

عندما انخرطت بعض دول وسط أوروبا بحلف الناتو فقد أحدث ذلك حالة عدم الاستقرار وتفاقم التهديدات الأمنية والعسكرية في منطقة أوروبا الشرقية، وأصبحت هذه الدول في جبهة المواجهة العدائية مع روسيا الاتحادية، وكانت أوكرانيا بمثابة رأس الحربة بالمواجهة العسكرية مع روسيا الاتحادية في حربها الدائرة منذ فبراير 2022، وأصبحت الحلول السياسية فيها شبه مستحيلة وأكثر تعقيداً بعد رفض روسيا الانسحاب من الأراضي التي استولت عليها بالقوة العسكرية، وأعلنت ضمها إلى أراضيها، بعد أن اعترفت به كجمهوريات مستقلة في إقليم الدونباس الأوكراني.

يتصرَّف بوتين في حربه ضد أوكرانيا مدفوعا بمجموعة مبادئ متداخلة لسياسة بلاده الخارجية تشير إلى أن موسكو ستكون طرفا مثيرا للاضطرابات في السنوات المقبلة، في إطار عقيدته السياسية التي يقع في القلب منها إجبار الغرب على معاملة روسيا وكأنها الاتحاد السوفيتي، أي قوة لها احترامها وهيبتها، ولها حقوق خاصة في جوارها المباشر، وصوت مسموع في كل قضية دولية مهمة.

وترتكز هذه العقيدة على أن دولا قليلة فقط هي التي يحق لها امتلاك مثل هذه السلطة، إلى جانب السيادة الكاملة على أراضيها، وأنه ينبغي لبقية الدول الخضوع لأهواء تلك النُّخبة القليلة من القوى الكبرى. وتنطوي هذه العقيدة على ضرورة الدفاع عن النظم الاستبدادية وتقويض الديمقراطيات، وهي ترتبط في الأخير بهدف بوتين الأسمى في عادة بناء مجد الاتحاد السوفيتي، وتفكيك التحالف الأطلسي، والتفاوض من جديد على التسوية الجغرافية التي أنهت الحرب الباردة.

لكن روسيا تحتاج إلى إعادة هيكلة استراتيجيتها الأمنية والعسكرية، فالتحديات كثيرة في جبهاتها الداخلية والخارجية، وقوة روسيا الاتحادية وجيشها الحالي لا تتناسب مع قوة الاتحاد السوفياتي سابقاً والذي ظل يشكل القطب الثاني بين عامي 1945 و1991 في نظام عالمي ثنائي القطبية يقود المعسكر الشرقي والكتلة الشرقية وحلف وارسو في مواجهة المعسكر الغربي والكتلة الغربية وحلف الناتو، لأنه في حال اتسعت رقعة الحرب باتجاه أوروبا الغربية ستكون الكارثة أعظم، خاصة وأن هذه الدول لديها العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية، بجانب قضايا البطالة والمهاجرين والإرهاب واليمين المتطرف، وكلها ملفات تدفع بقوة باتجاه حرب عالمية ثالثة.

شارك المقالة

اشترك في نشرتنا الاخبارية