في 18 أغسطس، قبلت حركة حماس مقترحًا جديدًا لوقف إطلاق النار في حرب غزة. هذا الاتفاق، الذي قدمته مصر وقطر وتطابق إلى حد كبير مع مقترحات سابقة صاغتها الولايات المتحدة ووافقت عليها إسرائيل دون أن تقرّها، دعا إلى الإفراج عن عشرة من أصل عشرين أسيرًا إسرائيليًا ما زالوا على قيد الحياة، مقابل هدنة مدتها 60 يومًا. وعلى عكس المقترحات السابقة، لم تطلب حماس أي تعديلات على الوثيقة وقبلتها خلال ساعات. حتى الآن، لم تقبل إسرائيل بالمقترح.
فسّر كثير من المراقبين قبول حماس الفوري على أنه علامة ضعف، إن لم يكن يأسًا. فوفقًا لهذا الرأي، وبعد نحو عامين من القصف الإسرائيلي المتواصل وحصار غزة، واغتيال قادة حماس البارزين، والهجمات المدمرة على حلفائها في المنطقة بما في ذلك إيران وحزب الله، لم يتبق أمام الحركة سوى خيارات قليلة.
لكن قبول حماس السريع قد يكون حيلة استراتيجية بقدر ما هو انعكاس للضغوط. فبعد عامين تقريبًا من الحرب، تعرض التنظيم السياسي للحركة لضربات قاسية وتضاءل نطاق سيطرته على غزة المدمرة. ومع ذلك، ورغم الدمار المتزايد في غزة، أظهر مقاتلو الحركة استمرارًا في القوة. فمنذ ربيع 2025، كثفوا هجماتهم الهجومية على القوات الإسرائيلية في أنحاء القطاع، بما في ذلك هجوم واسع النطاق على قاعدة إسرائيلية في 20 أغسطس، وعمليات أخرى في يونيو ويوليو قتل فيها عدد من الجنود الإسرائيليين. وفي الوقت نفسه، زادت الحركة من تنسيقها مع جماعات مسلحة أخرى في غزة وجددت صفوفها، حتى وسط المجاعة المنتشرة بين السكان. يقف وراء صمود حماس تطور في مقاربتها للحرب رفع الرهانات أكثر، وجعل الحملة الإسرائيلية المثيرة للجدل للسيطرة على مدينة غزة كارثة عسكرية وإنسانية في آن واحد.
صدمة من تحت الأرض
بعد كسرها وقف إطلاق النار في مارس 2025، ركزت إسرائيل أولًا على القصف الجوي، مع إبقاء التوغلات البرية محدودة جدًا. غياب القتال في المدن حرم حماس من المبادرة، وأبقاها في موقع المتفرج على المجازر. وفي الوقت نفسه، أعادت القوات الإسرائيلية احتلال أجزاء واسعة من القطاع. ومع قطع إسرائيل جميع المساعدات في مارس، تضاعفت معاناة غزة، وبدأ سكانها في الاحتجاج علنًا ضد حماس.
حينها بدأت قوات حماس في غزة بتغيير أسلوبها. ففي 20 أبريل، نصب مقاتلون كمينًا من نفق في بيت حانون، وهي منطقة “عازلة” تسيطر عليها إسرائيل. وباستخدام قذائف RPG وعبوات ناسفة، دمروا مركبة عسكرية وقتلوا جنديًا وأصابوا آخرين. ومنذ ذلك الوقت، صعدت المجموعات من عمليات مشابهة. ففي 24 يونيو، قتل مقاتلو القسام سبعة جنود في خان يونس. وفي 7 يوليو، هاجم مقاتلون قافلة دبابات في بيت حانون، وقتلوا خمسة جنود وأصابوا 14 آخرين. وفي 15 يوليو بجباليا، قُتل ثلاثة جنود في كمين استهدف فريقًا هندسيًا إسرائيليًا. وفي 22 يوليو بدير البلح، استهدف مقاتلو حماس قافلة عسكرية ودبابة ميركافا.
خلال الأسابيع الأخيرة، أصبحت هذه العمليات أكثر جرأة. وبحلول منتصف أغسطس، حين استأنف الجيش الإسرائيلي توغلاته في الأحياء السكنية، كانت هجمات حماس تتضاعف في شرق مدينة غزة، خاصة في التفاح والزيتون والشجاعية. كما برزت كتائب القسام في الجنوب، كما أظهر هجوم 20 أغسطس على معسكر للجيش في خان يونس، شارك فيه 18 مقاتلًا بأسلحة رشاشة وRPG عن قرب. خلصت إسرائيل إلى أن الهجوم ربما كان محاولة لأسر جنود، وهو ما يتطلب إعدادًا واستخبارات عالية.
هذه العمليات جزء من إعادة تقييم تكتيكي، حيث سعت حماس لاستغلال توسع أهداف إسرائيل لصالحها. فمع تقليص إسرائيل للتوغلات داخل المدن، اتجه مقاتلو حماس إلى استهدافها في “المناطق العازلة”. ومع سعي إسرائيل الآن للسيطرة على مساحات كبيرة من غزة، تواجه حرب عصابات في بيئة تعرفها حماس جيدًا. وقد تكون هذه التكتيكات فعالة بشكل خاص وسط أنقاض غزة، حيث ما زال للحركة شبكة كبيرة.
قوة من نوع مختلف
رغم قطع الدعم الخارجي وضغوط الداخل، أظهر مقاتلو حماس قوة مفاجئة. فقدرة الحركة على تجديد صفوفها لطالما كانت سمة أساسية. ورغم فقدان قادة بارزين مثل يحيى السنوار ومحمد الضيف ومروان عيسى، فإن قدرة الحركة القتالية لم تتأثر بشكل واضح.
التقديرات الإسرائيلية تحدثت عن مقتل 17 ألف مقاتل من حماس منذ أكتوبر 2023، لكن بيانات استخباراتية إسرائيلية مسربة كشفت أن العدد لا يتجاوز 8900 مقاتل من حماس والجهاد. وفي يناير 2025، خلصت المخابرات الأميركية إلى أن حماس ربما جندت 15 ألف مقاتل جديد. وإذا صح ذلك، فإن معظم القتلى البالغ عددهم 53 ألفًا حتى مايو 2025 كانوا مدنيين.
ومن المفارقات أن تصعيد إسرائيل قد يكون يغذي صمود حماس. فإلى جانب الاحتجاجات الشعبية في مارس ضد حماس بسبب منع المساعدات، استغلت فتح هذه الحالة، كما دعمت إسرائيل ميليشيا معادية لحماس في رفح بقيادة ياسر أبو شباب. لكن هذه الاستراتيجية لم تنجح سوى في تعزيز الغضب الشعبي ضد إسرائيل والميليشيا.
شبكة أنفاق حماس أيضًا لعبت دورًا محوريًا، إذ فشلت إسرائيل في تدميرها بالكامل رغم التكنولوجيا المتقدمة، مما سمح للحركة بإخفاء الأسرى وتنفيذ هجمات. وازداد القلق في الجيش الإسرائيلي من احتمال أسر مزيد من الجنود، ما دفع لتفعيل “إجراء هنيبال”.
وبما أن إسرائيل لم تتمكن من حسم المعركة تحت الأرض، لجأت إلى تدمير ما فوقها، بما في ذلك مخيمات النزوح والمدارس والمستشفيات، فضلًا عن التحكم بتوزيع المساعدات عبر “مؤسسة غزة الإنسانية”، التي تحولت نقاط توزيعها إلى “حقول قتل” بحسب شهادة لصحيفة هآرتس.
وترى حماس الحرب امتدادًا لتاريخ النكبة عام 1948، معتبرة أن التضحيات تعيد غزة إلى قلب القضية الفلسطينية. وشبّه خالد مشعل الوضع بحرب الجزائر التي كلفت أكثر من مليون شهيد.
معزولة ولكن ليست وحدها
رغم خيبة الأمل من الحلفاء الإقليميين، واصلت حماس تعزيز تحالفاتها داخل غزة، خصوصًا مع الجهاد الإسلامي. وعملت من خلال “غرفة العمليات المشتركة” التي تضم 12 فصيلًا مسلحًا. ومع ذلك، ظهرت في الأسابيع الأخيرة أصوات داخل هذه الغرفة تطالب بوقف الحرب، وهو ما قد يفسر قبول حماس الفوري لمقترح 18 أغسطس.
لكن كتائب القسام ترى أن استمرار الضغط العسكري وحده كفيل بفرض وقف إطلاق نار آخر. فهم يعتبرون أن عملياتهم في أواخر 2024 وبداية 2025 أجبرت نتنياهو على القبول بهدنة يناير.
بين حماس والمأزق الإسرائيلي
بعد نحو عامين من الحرب، تتناقض نقاط قوة وضعف حماس مع إسرائيل: لدى إسرائيل ترسانة هائلة لكنها تعاني نقصًا في الجنود، بينما تواصل حماس التجنيد رغم الخسائر. ومع اتساع العمليات، يخسر الجيش الإسرائيلي مزيدًا من الجنود، وتزداد صعوبة حشد الاحتياط.
المقترح الأخير لوقف إطلاق النار ليس جديدًا، بل يستند إلى خطة طرحها مبعوث ترامب، ستيف ويتكوف، وينص على انسحاب إسرائيلي كامل، مع السماح باستئناف الحرب بعد 60 يومًا. حماس وافقت على نسخ سابقة، بينما رفض نتنياهو إلا “صفقة الكل أو لا شيء” التي يراها المفاوضون مستحيلة.
وبينما يحاول نتنياهو دفع الجيش للتوغل في أنفاق غزة رغم تحذيرات العسكريين، يوسّع ضرباته في لبنان وسوريا واليمن، وحتى إيران في يونيو، للتغطية على فشل تحقيق أهدافه في غزة. ويتسع الفارق بين الصورة التي تروجها الحكومة الإسرائيلية وبين الواقع على الأرض.