في سابقة خطيرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، نفّذت إسرائيل يوم 9 سبتمبر/أيلول 2025 غارة جوية استهدفت اجتماعًا لقيادات حركة حماس في العاصمة القطرية الدوحة. جاءت الضربة بينما كانت قيادات حماس تُجري مقترحا لوقف إطلاق النار تسلمته مباشرة من الإدارة الأمريكية بعيدا عن الوسطاء في الدوحة والقاهرة. وأسفر الهجوم عن سقوط عدد من القتلى والجرحى؛ فقد أعلنت حماس نجاة أعضاء وفدها المفاوض من القصف الإسرائيلي، لكنها أكدت مقتل 6أشخاص بينهم مدير مكتب قائد وفد حماس جهاد لبد ونجل خليل الحية، بالإضافة إلى 3 مرافقين أعلنت الدوحة مقتل أحد عناصرها الأمنية.
تسلط هذه الورقة الضوء على ثلاثة محاور رئيسية لفهم أبعاد هذا الحدث وتداعياته. أولاً، تأثير الغارة على مسار مفاوضات غزة وملف تبادل الأسرى والهدنة المرتقبة. ثانيًا، تُبرز أثر الهجوم على موقع قطر ودورها الدولي، وكيف تحولت الدوحة إلى محط اهتمام عالمي في أعقاب الحادث. ثالثًا، تقدّم تحليلًا قانونيًا ودوليًا لانتهاك السيادة القطرية، مع الإشارة إلى ردود الفعل الدبلوماسية الرافضة لهذا السلوك الإسرائيلي.
تداعيات الهجوم على مسار مفاوضات غزة، الأسرى والهدنة
يشكّل استهداف وفد حماس المفاوض في الدوحة ضربة مباشرة لمسار المفاوضات الجارية بشأن وقف إطلاق النار، فوفق مصادر حماس، كان الاجتماع المستهدف مخصصًا لمناقشة مقترح قدمته الولايات المتحدة لتحقيق هدنة في قطاع غزة، وقد عبّر قياديون في حماس عن اعتقادهم بأن إسرائيل تعمّدت بهذا الهجوم اغتيال عملية التفاوض ذاتها؛ إذ وصفوه بأنه استهداف لـ”كل محاولة لوقف الحرب” ورغبة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مواصلة عملياته العسكرية.
من الجانب الإسرائيلي، ظهرت انقسامات داخلية حيال جدوى هذا التصرف. فقد أفادت تقارير عبرية بأن جهات ضمن الفريق الإسرائيلي المفاوض عارضت الهجوم على قطر، لاعتقادهم أن المباحثات كانت لا تزال قابلة لتحقيق نتائج مهمة، فمن المرجح أن تقتل عملية القصف الثقة الهشة التي بُنيت خلال مفاوضات غير مباشرة بمشاركة قطر ومصر والولايات المتحدة. وقد أكدت الأمم المتحدة وبعض القوى الدولية هذه المخاوف.
على الصعيد الأمريكي، بدا أن الضربة وضعت الإدارة الأمريكية في موقف حرج. فعلى الرغم من انخراط واشنطن في رعاية مفاوضات التهدئة، فوجئ البيت الأبيض بالهجوم الإسرائيلي – كما قال – وقالت تقارير أن هذا أثار غضب كبار بعض مستشاري الرئيس الأميركي. صرّح ترامب بعدها لوسائل الإعلام أنه “ليس سعيدًا” بالعملية الإسرائيلية واصفًا الوضع بأنه “غير جيد”، مشددًا على أن أولوية واشنطن هي استعادة الرهائن الإسرائيليين لدى حماس، وأن ما جرى اليوم لا يخدم هذه الأهداف. وأكد ترامب لاحقًا أن قرار الضربة اتخذه نتنياهو بمفرده دون موافقته، موضحًا أن الجيش الأمريكي أخطر البيت الأبيض قبيل الهجوم بوقت قصير لكن لم يكن هناك متسع لوقفه.
وفي المجمل؛ تشير هذه التطورات إلى أن الضربة الإسرائيلية جاءت على حساب المسار التفاوضي؛ فقد أوقفت – ولو مؤقتًا – جهود التهدئة، وأدخلت توترًا على العلاقات بين الوسطاء والطرف الإسرائيلي، مما قد يؤخر إبرام هدنة شاملة أو صفقة تبادل كبرى للأسرى.
مع ذلك، ورغم ما سببه الهجوم من صدمة، أكدت حركة حماس تمسكها بمواصلة التفاوض والمقاومة في آن معًا، وعدم الرضوخ لمحاولة إفشال مساعي التهدئة وقال أحد قيادييها البارزين إن “أمل نتنياهو قد خاب في وقف جهود إنهاء الحرب، مشددين على أن الحركة لن تتوقف عن النضال لرفع المعاناة عن الفلسطينيين حتى إن فقدت قادتها”. هذه الرسائل توحي بأن مسار المفاوضات قد يستأنف لاحقًا.
أثر الحدث على موقع قطر ودورها الدولي
أدى هذا الهجوم إلى تحوّل قطر إلى مركز الاهتمام العالمي بين عشية وضحاها، مما أعاد إبراز ثقلها الدبلوماسي ودورها الفاعل في أزمات المنطقة. فمن ناحية، وجدت الدوحة نفسها هدفًا لعدوان عسكري مباشر رغم أنها ليست طرفًا مقاتلًا، بل وسيطًا نشطًا يحظى بثقة مختلف الأطراف. هذا الواقع أطلق موجة تضامن عربية ودولية غير مسبوقة مع قطر، وأكّد مكانتها كدولة مسؤولة تلتزم بالقانون الدولي.
فخلال ساعات من وقوع الغارة، صدرت بيانات تنديد من مختلف عواصم العالم: عربياً، أدانت دول الخليج والجامعة العربية الهجوم بأشد العبارات، واعتبرته انتهاكًا سافرًا ضد دولة عربية شقيقة تقوم بجهود مخلصة لوقف الحرب. ووصف بيان جامعة الدول العربية التصرف الإسرائيلي بأنه سلوك “دولة مارقة” تتحدى الأعراف والقانون الدولي، لاسيما وأن قطر المستهدفة “ؤدي دور وساطة إلى جانب مصر والولايات المتحدة من أجل وقف حرب الإبادة في غزة”. كما اتصل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني مؤكّدًا أن المملكة تضع كافة إمكاناتها لمساندة قطر في مواجهة الاعتداء. هذا التطور يعكس تحولاً إيجابيًا في التضامن الخليجي، إذ وقفت الرياض وبقية العواصم الإقليمية صفًا واحدًا مع الدوحة، رغم خلافات سابقة، إدراكًا لخطورة استهداف وسيط إقليمي بهذا الشكل.
على الصعيد الدولي، حازت قطر على تضامن ودعم واسع. فقد ندد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بالهجوم الإسرائيلي على قطر، واعتبره تهديدًا للاستقرار الإقليمي وتقويضًا لجهود السلام، داعيًا إلى احترام سيادة الدول وعدم تكرار مثل هذه الحوادث. كما توالت مواقف دولية داعمة؛ اليابان مثلاً شددت على تضامنها مع قطر في وجه ما اعتبرته تهديدًا لسيادتها وعرقلة للجهود الدبلوماسية، فيما أكدت دول أوروبية عديدة ضرورة صون دور الوساطة القطرية وعدم السماح بترهيبها. وحتى الولايات المتحدة – الحليف الأبرز لإسرائيل – عبّرت عن موقف مغاير هذه المرة؛ إذ وصف الرئيس الأميركي قطر بأنها “دولة ذات سيادة وحليف وثيق للولايات المتحدة عملت بشجاعة على تحقيق السلام”، معتبرًا أن قصفها أحاديًا لن يخدم مصالح واشنطن وتل أبيب. وبادر ترامب إلى طمأنة القيادة القطرية بتعهد واضح أن مثل هذا الهجوم لن يتكرر على أراضيها، بل وأوعز إلى إدارته تسريع إبرام اتفاقية تعاون دفاعي مع قطر لتعزيز وحماية أمنها.
كما أبرز الحدث في التغطيات العالمية الدور المحوري التاريخي الذي تلعبه الدوحة في حل النزاعات الإقليمية. حيث عُرفت خلال العقود الأخيرة بأنها عاصمة الوساطات في المنطقة، إذ نجحت في تقريب وجهات النظر وإبرام اتفاقات سلام في ملفات عديدة معقدة. ومع ذلك؛ أكد رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أن بلاده مستمرة في جهودها الإنسانية والدبلوماسية لنصرة الشعب الفلسطيني ووقف العدوان، مهما كانت المخاطر. وهكذا، خرجت قطر من هذه الأزمة أكثر قوة ووحدة مع محيطها.
الانتهاك الإسرائيلي للسيادة القطرية: منظور قانوني ودولي
أثار الهجوم الإسرائيلي على الدوحة إدانة قانونية ودولية واسعة النطاق كونه انتهاكًا صريحًا لسيادة دولة مستقلة وعضو في الأمم المتحدة. يعد هذا الفعل غير المسبوق – قصف عاصمة دولة محايدة – خرقًا جسيمًا لمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، الذي يحرّم استخدام القوة ضد سلامة أراضي أي دولة أو استقلالها السياسي (المادة 2/4 من الميثاق).
سيادة الدول مبدأ مقدس في القانون الدولي المعاصر، وانتهاكها بهذا الشكل العدائي يُعد سابقة خطيرة. فلم تكن قطر في حالة نزاع مسلح مع إسرائيل، مما ينفي تمامًا أي ذريعة قانونية إسرائيلية بـ”الدفاع عن النفس” خارج أراضيها. وحتى في حال وجود مطلوبين أو خصوم لإسرائيل على أرض قطر، كان يتعين اللجوء إلى القنوات الدبلوماسية والتعاون الأمني وفق القانون، لا أن تُنفّذ ضربة عسكرية أحادية دون إذن الدولة المضيفة. وقد استذكر البعض حادثة مماثلة وقعت عام 1985 عندما قصف سلاح الجو الإسرائيلي مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، وما تبعها آنذاك من إدانة دولية واسعة وقرار من مجلس الأمن (رقم 573) اعتبر الهجوم انتهاكًا لسيادة تونس.
وسرعان ما انتقلت قطر وحلفاؤها إلى الساحة الدبلوماسية لتحصيل حقها القانوني. فقد وجّهت الدوحة رسائل عاجلة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي تشرح فيها تفاصيل الاعتداء وتطالب بموقف دولي حازم. وبناءً على ذلك، دعت دولة الجزائر – وبدعم عربي – إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن لمناقشة الهجوم الإسرائيلي على قطر. ومن المتوقع خلال هذا الاجتماع أن تُواجه إسرائيل انتقادات شديدة وربما مشروع قرار يُدين انتهاكها لسيادة قطر، على الرغم من احتمال اصطدامه بالفيتو الأمريكي.
لكن مجرد طرح المسألة في مجلس الأمن يزيد الضغط السياسي والقانوني على إسرائيل، ويضع سابقة بأن مثل هذا العدوان على دولة وسيطة محايدة غير مقبول. وفي الوقت ذاته، فتحت السلطات القطرية تحقيقًا وطنيًا موسعًا في الحادثة لجمع الأدلة والوقوف على تفاصيل الاختراق الإسرائيلي، تمهيدًا ربما لاتخاذ خطوات قانونية أخرى كرفع قضية أمام محكمة العدل الدولية أو الجمعية العامة للأمم المتحدة لتحميل إسرائيل المسؤولية الدولية.
وفي المحصلة، أسس هذا الهجوم غير القانوني لإجماع دولي واسع على إدانة انتهاك السيادة ووجوب احترام دور الوسيط المحمي بموجب الأعراف الدبلوماسية. كما أن إجراءات المتابعة في مجلس الأمن وغيرها ستشكل اختبارًا لمصداقية النظام الدولي في رفض العدوان ومعاقبة المعتدي، حتى لو كان الطرف المُدان دولة تتمتع بدعم قوى كبرى.
خاتمة
في الختام، كشفت الغارة الإسرائيلية على الدوحة في 9 سبتمبر 2025 عن منعطف خطير في مسار الصراع، لكنها في الوقت ذاته أظهرت صلابة الموقف القطري وعدالة الدور الذي تلعبه الدوحة على الساحة الدولية. وفي حين ستعطل مسار المفاوضات لإنهاء الحرب، لكنها أيضا ستزيد من عزلة إسرائيل الدولية وضغط العالم عليها.