“سعداء برحيل الأسد لكن الإسلاميين ينتقمون من العلويين ويؤذون الأكراد”، هذا ما صرح به وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي جدعون ساعر عقب سقوط نظام بشار الأسد، إلى جانب تصريحات وزير دفاع الاحتلال يسرائيل كاتس المتكررة بأن “أي شخص يؤذي الدروز في جنوب سوريا سيواجه ردنا”، وأنهم لا يثقون بالنظام السوري الجديد ولن يتخلوا عن الدروز.
هكذا بدأت إسرائيل، مدفوعة بقلقها المتفاقم تجاه التحول الاستراتيجي الذي شهدته سوريا، تلوح بورقة الأقليات وإمكانية دعمهم تحت ذريعة “حمايتهم”، وهو ما أعاد للواجهة الحديث عن مفهوم “حلف الأقليات” وموقع هذا المفهوم في الاستراتيجية الإسرائيلية.
منشأ الفكرة
تعود المسألة إلى ما قبل إعلان الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948، وتحديدًا إلى بداية وجود الحركة الصهيونية في المنطقة مطلع القرن العشرين. وفي الواقع، تجمع الأقليات الطائفية والعرقية في المنطقة، يهودًا وموارنة ودروزًا وأكرادًا وعلويين، قدر كبير من المصالح المشتركة في ظل الغالبية الكبيرة من المسلمين السنة الرافضين لمشاريع الأقليات الخاصة بكل منها، وهو ما تُرجم إلى مفهوم “تحالف الأقليات”.
ومن منظور إسرائيلي، فإن استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي قائمة في جانبها السياسي على ضرورة الحد من عزلتها، والوصول إلى أسواق ومجتمعات متنوعة في محيطها، بما يضمن لها هامشًا من المناورة السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية إن لزم الأمر، حيث يدرك الاحتلال الإسرائيلي الطبيعة الشاذة التي قام عليها في منطقة الشرق الأوسط، ولذلك يسعى دومًا لمنع تبلور موقف إقليمي موحد مناهض له.
بين “الأقليات” و”التطبيع مع العرب”
منذ منتصف القرن العشرين، دفع الرفض العربي الرسمي والشعبي الاحتلال الإسرائيلي للتفاوض مع دول محيطة بالعالم العربي، مثل تركيا وإيران- زمن حكم الشاه- وأثيوبيا وأذربيجان، ومع مجتمعات الأقليات مثل الدروز وأكراد العراق وسوريا والموارنة في لبنان، واستثمرت في ذلك طاقة كبيرة ومبالغ طائلة لخلق صلات نشيطة ضمن العالم العربي.
ورغم الأمل بالحصول على القبول الرسمي العربي بوجود الكيان على أرض فلسطين، وهو ما حققت شوطًا منه اتفاقيات التطبيع العربي- الإسرائيلي، إلا أن القيادة الإسرائيلية لم تعارض مواصلة البحث عن تأييد إقليمي لدى مكونات أخرى رسمية وغير رسمية، فسياسة تبادل الخدمات والمصالح لا تتكافأ مع عمق المشاعر القومية العربية والإسلامية لدى شعوب المنطقة.
دعم مشاريع التقسيم
في ضوء ما سبق وضمن سياسة “صناعة الأصدقاء وتقليص الأعداء”، تدعم الاستراتيجية الإسرائيلية المشاريع الانفصالية في المنطقة التي تعزز “تعددية الجهات الفاعلة” المحيطة بها، حيث إن المنطقة العربية كلما كانت أقل تجانسًا كان من الأسهل دمج كيان صغير إضافي آخر فيها. كما أن القبول بكيانات مختلفة في أديانها ومذاهبها وأعراقها، وبالتالي مختلفة في مواقفها وسياساتها، كفيل بإضفاء الشرعية على الوجود القومي اليهودي في فلسطين المحتلة.
فالنتيجة المرجوة إذًا إنهاء العزلة الإسرائيلية في المنطقة، بينما تتمثل المصلحة المشتركة في أن يتجنب اليهود والأقليات معًا سيطرة المسلمين، وربما إقناع الدول الغربية للتدخل أكثر لصالحهما.
الضغط على سوريا الجديدة
جاء سقوط نظام بشار الأسد في مرحلة “ما بعد 7 أكتوبر”، وهي مرحلة مختلفة للغاية عما سبقها بالنسبة للتفكير الإسرائيلي، حيث بدأ الحديث في الدوائر الإسرائيلية عن صياغة سياسة جديدة للأمن القومي الإسرائيلي. وفي هذا السياق، نشر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي وثيقة ضمَّنها توصيات للتعامل مع المتغيرات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط منذ يوم “7 أكتوبر”. ولم تغفل الوثيقة خشيتها من أن تنخرط الإدارة السورية الجديدة في “معسكر الإسلام السياسي الذي يضم الإخوان المسلمين وتركيا وقطر”، بما قد “يقيم كيانًا شبيهًا بحماس في الجولان السوري” وفقًا لما ورد في الوثيقة.
ولذلك، أوصى المعهد بإعطاء الأولوية لمنع توجه حكم سوريا الجديد نحو الخيار الإسلامي، والدفع إما لربط الحكومة المركزية في دمشق بالغرب، أو تسهيل قيام “اتحاد كونفدرالي مجزأ” يقسم سوريا إلى أربع مناطق: كردية في الشمال الشرقي، وعلوية في الساحل، ودرزية في الجنوب، وسنية في الوسط.
يرى الاحتلال الإسرائيلي أن تقسيم سوريا إلى كيانات مختلفة سيجعل منها أكثر قابلية لتلقي دعمه الخارجي وبناء روابط معه، على مبدأ “عدو عدوي صديقي” الذي يوحي بأن الأقليات التي تقاوم السيطرة الإسلامية عليها ستجد في إسرائيل حليفًا طبيعيًا لها.
وعلى الصعيد الدولي، يرى الاحتلال أن قبول المجتمع الدولي بدويلات درزية أو علوية أو كردية من شأنه أن يعزز من شرعية إسرائيل اليهودية في المحيط العربي الإسلامي.
سُبل المواجهة
إن تقسيم دول المنطقة إلى دويلات أصغر يعزز من التفوق الإسرائيلي في المنطقة، ليس على الجانب العسكري وحده، بل كذلك على الصعيد الاقتصادي والدبلوماسي والجبهة الداخلية. ومن شأن تقسيم سوريا أن يُضعف الدولة السورية، فيترك دمشق بلا ثروات نفطية، وبلا منفذ على البحر، وبعيدة عن حدود فلسطين المحتلة بما يضعف حضورها الإقليمي.
ولمواجهة هذا المشروع، تجب مراعاة الفارق الكبير في موازين القوى بين الإدارة السورية الجديدة والاحتلال، مع استحضار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تركها نظام الأسد خلفه. لكن دمشق قادرة على توظيف أوراق على المستوى “دون الدولتي” والشعبي، للضغط على إسرائيل ووضعها أمام معضلة جديدة مشابهة لما تواجهه في غزة والضفة الغربية.
ومن الأهمية بمكان الإبقاء على التواصل والحوار مع الدروز والأكراد والعلويين، وتجنب سياسات طائفية من شأنها أن تدفعهم أكثر نحو حضن إسرائيل. ولكون الساحل السوري- معقل العلويين- غير مرتبط جغرافيًا مع فلسطين المحتلة، فسيكون الخيار الإسرائيلي الأمثل والأسهل دعم الدروز في الجنوب والأكراد في الشمال الشرقي.
وضمن هذا السياق، نقلت “وول ستريت جورنال” عن مصادر إسرائيلية قولها إن تل أبيب “ستنفق أكثر من مليار دولار لمساعدة الدروز في سوريا”. كما أعلن قائد “قوات سوريا الديمقراطية – قسد” مظلوم عبدي، في حديث مع شبكة “بي بي سي”، ترحيبه بالدعم الإسرائيلي لحماية ما أسماه بـ “الإنجازات الكردية”.
في المقابل، تستطيع الإدارة السورية المراهنة على التأثير في المشهد الدرزي من خلال تعزيز العلاقة مع الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط، الرافض لحلف الأقليات مع الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب استثمار وقف إطلاق النار الذي أعلن عنه قائد حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان لخلخلة الموقف الكردي.
أمام ما سبق، ستكون سوريا على موعد مع اضطرابات أمنية ومجتمعية وضغوطات خارجية، فضلًا عن التهديد الإسرائيلي المتفاقم. ولذا، فإن المطلوب اليوم عدم استفزاز الأقليات محليًا، واللجوء إلى سياسة الاحتواء بدلًا من الطرد، مع مراعاة ضرورة الأخذ بالحزم في موضعه تجاه مرتكبي الجرائم ومفتعلي الأزمات.