أسفرت نتائج الانتخابات الأوروبية، التي تمت بين 7 و9 يونيو/ حزيران 2024، عن تقدّم كبير لأحزاب اليمين، داخل البرلمان الأوروبي، وهذه النتائج من شأنها أن تعيد رسم الخرائط السياسية داخل الاتحاد الأوروبي، مما قد يسفر عن إعادة تشكيل التوازنات القائمة منذ عقود، بفعل اتساع الكتلة الانتخابية لليمين المتطرف في عدد من الدول الأوروبية التي تمثّل مركز الثقل في الاتحاد، مثل ألمانيا وفرنسا، وغيرهما من الدول، كما سيكون لحضوره داخل الاتحاد الأوروبي تأثير في منظومة التشريع والقوانين، وفي السياسات الخارجية للاتحاد وعلاقاته التجارية والاقتصادية، وخاصة ما يتعلق منها بقضايا الهجرة واللجوء والعلاقة مع روسيا الاتحادية والموقف من الحرب الأوكرانية.
أولاً: أسباب صعود اليمين الأوروبي
تعددت العوامل المؤثرة في صعود شعبية اليمين الأوروبي، ومن ذلك الأزمة الاقتصادية العالمية، التي كانت لها انعكاسات على مستويات المعيشة وحالة الرفاه والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في عدد من الدول الأوروبية، وهنا عملت أحزاب اليمين على استثمار الأزمة بتوجيه الأنظار بخطاب شعبوي إلى طبيعة التهديدات التي تمثلها قضايا الهجرة واللجوء، والتأكيد على أن حلول الأزمة الاقتصادية والاجتماعية ترتبط بتبني سياسة “أوروبا للأوروبيين”، في السياسة والاقتصاد والثقافة والفكر وبالتالي في سياسات الهجرة وواقع التعددية والحريات الدينية والثقافية.
وارتبط هذا الخطاب الداخلي في أوروبا بصعود اليمين والشعبوية في عدد من الدول الكبرى في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية مع وصول دونالد ترامب للسلطة في يناير 2017، ورفعه شعار “أمريكا أولاً” وتبنيه العديد من السياسات المضادة للمهاجرين واللاجئين والخروج من عدد من المنظمات الدولية والمعاهدات الدولية، في مرحلة شهدت معدلات عالية من الركود الاقتصادي عقب جائحة كورونا، وأزمة التضخم، وإفلاس عدد من الشركات.
هذا الصعود الكبير لليمين أثر على الخطاب السياسي للعديد من الأحزاب، وبدلًا من العمل على تقديم أطروحات تستوعب التنوع والتعددية، بدأت أحزاب اليمين التقليدي ويمين الوسط في تبني خطاب يشبه خطاب اليمين الشعبوي، خاصة فيما يتعلق بالمهاجرين وقضايا الهُوية والموقف من المسلمين في أوروبا، وتظهر الأزمة في أشكال الإساءة للإسلام والمسلمين، والتي وصلت إلى اعتداءات أو محاولات اعتداء، مما يزيد من تهميش المسلمين في المجتمعات الأوروبية ويخدم أجندات اليمين، ويساهم في تصاعد حالة العنف والإرهاب.
ثانياً: تداعيات صعود اليمين الأوروبي
إن من شأن صعود تيارات اليمين المتطرف أو ما يسمى في بعض الأدبيات “أقصى اليمين” لا يُشكل تهديدًا فقط للنظم السياسية القائمة في الدول التي نجح فيها، من باب المصالح الوطنية لهذه الدول، ولكنه يشكل تهديدًا أكبر للنسيج الاجتماعي لشعوبها، وخلق حالات من الاضطرابات والأزمات المجتمعية من ناحية ثانية، كما أن خطر التهديد على المدى البعيد يمكن أن ينال من استقرار هياكل ومؤسسات الاتحاد الأوربي، بل ويهدد بقاء الاتحاد من أساسه، خاصة أن تنامي التيارات اليمينية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين قاد لحرب عالمية ثانية كانت القارة الأوربية أكبر مسارح عملياتها، من ناحية ثالثة.
ومن ناحية رابعة، فإن هناك تهديد مرحلي، يرتبط بالمواقف السياسية لبعض القيادات اليمينية المتطرفة تجاه الحرب الأوكرانية وتجاه الموقف من روسيا الاتحادية، واستعداد بعضهم من هذه القيادات للتعاطي بإيجابية مع الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، ويزيد من الشكوك حول توجهات الأحزاب والتيارات اليمينية المتطرفة وخاصة في إيطاليا من روسيا، حديث عدد من التقارير الإعلامية عن دعم مالي روسي لمجموعة من هذه الأحزاب وتلك التيارات، بهدف تسهيل وصولها إلى السلطة على أن تتبنى مقابل ذلك مواقفًا مؤيدة للنظام الروسي، وهو أمر لو حدث فعليًا من شأنه أن يؤثر سلبيًا في وحدة الصوت الأوربي في مواجهة سياسات بوتين.
ويرتبط مستقبل هذه التيارات في جانب كبير منه بقدرة الأحزاب والحركات اليمينية وخاصة التي ستتولى تشكيل حكومات على الوفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطنين، وتنفيذ أجندة برامجها الانتخابية التي تم على أساسها انتخابها، وقدرتها كذلك على الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية التي تواجهها النظم والشعوب الأوربية، وخاصة مع تفاقم تداعيات أزمة كورونا والأزمة الأوكرانية على المستويات كلها.
ثالثاً: ضوابط المسارات المستقبلية لليمين الأوروبي
بالإضافة إلى التداعيات السياسية الوطنية، فإن النتيجة الرئيسة لانتخابات البرلمان الأوروبي هي التحول نحو اليمين، من يمين الوسط إلى الأكثر تطرفا، وقد يكون لهذا التحول تأثير كبير على السياسات المتعلقة بالمناخ والهجرة والتوسع والميزانية وسيادة القانون، خاصة إذا تعاونت الأحزاب اليمينية.
أولاً: يتوافق هذا التحول مع اتجاه أوسع نحو اليمين في الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، حيث تشكل الأحزاب اليمينية المتطرفة جزءا من الحكومات الوطنية في ثماني دول من أصل 27 دولة عضو في الاتحاد، فتترأس هذه الأحزاب اليمينية الحكومات في المجر وإيطاليا، بينما تشارك في الائتلافات الحاكمة في كل من هولندا وفنلندا وسلوفاكيا والتشيك وكرواتيا والنمسا، وتقدم الدعم البرلماني للحكومة السويدية. وهذا الوضع يؤثر بشكل كبير على درجة فعالية القيادات السياسية وترتيب الأولويات سواء داخل الدول الأعضاء أو في مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
ثانياً: إن صعود القوى اليمينية المتطرفة والشعبوية مبعث قلق من حيث تداعياته السلبية على ترسيخ المشروع الأوروبي ومواصلة اندماجه، وهذا القلق يتحوّل خطراً مباشراً يهدد استمرار الاتحاد عندما يتركّز هذا الصعود في فرنسا وألمانيا اللتين تشكلان قوة الدفع الرئيسية للمشروع الأوروبي. وقد ظهرت أهمية المحور الألماني – الفرنسي بشكل خاص أثناء أزمة الديون السيادية التي شهدتها القارة الأوروبية منذ 2007، ثم أثناء جائحة «كوفيد – 19» وما عقبها من توافق حول خطة النهوض، ثم مع الاجتياح الروسي لأوكرانيا سواء عام 2014 أو عام 2022. وثمة قاسم مشتكر بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني شولتز في الرؤية نفسها للمشروع الأوروبي التي تختلف كلياً عن تلك التي يحملها المنافسان المحليان اليمينيان لهما، مارين لوبان في مواجهة ماكرون، وحزب البديل من أجل ألمانيا في مواجهة شولتز؟
ثالثاً: إذا كان البرلمان الأوروبي قد اكتسب صلاحيات واسعة خلال السنوات الأخيرة، فإن غرفة العمليات الأساسية في الاتحاد الأوروبي ما زالت تتمثل في المفوضية ومجلس الاتحاد الأوروبي، وهما الجهتان اللتان تمثلان حكومات الدول الأعضاء مجتمعة. وعندما تكون هاتان المؤسستان متوافقتان على نفس التوجهات، تزداد احتمالات الاستمرار والاستقرار في السياسات الأوروبية، لكن عندما يختلّ التوافق بين البلدان الأعضاء، في حال سيطرة التيارات اليمينية على الحكومات فإن هذا من شأنه أن يؤثر سلباً في هذه السياسات.
رابعاً، إن الوضع في ألمانيا، وعلى الرغم من خطورته نظراً لموقعها ودورها الاستراتيجي داخل الاتحاد، يبقى مرحلياً في الظرف الراهن وقابلاً للتجاوز بسهولة في ظل وجود بديل أوروبي معتدل يقوده حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وهذا بعكس الوضع في فرنسا الذي ينذر بأزمة سياسية عميقة من شأنها تهميش الأحزاب السياسية التي لعبت دوراً تاريخياً في بناء البنية المؤسسية للاتحاد الأوروبي، منذ عام 1951.
خامساً: إن القوى التقليدية في الدول الأوروبية لم تحسم بعد بصورة نهائية مفاضلتها بين الحفاظ على التحالف التقليدي مع الاشتراكيين والتقدميين والليبراليين، هذا التحالف الذي ساهم في تحقيق التوازن والتناوب وإدارة التعددية السياسية في مؤسسات الاتحاد منذ 1992، من ناحية.
أو من ناحية ثانية، الاستمرار في الجنوح نحو الأحزاب اليمينية المتطرفة مثل حزب “إخوان إيطاليا” الذي تقوده رئيسة الوزراء جيورجيا ميلوني، مع اتجاه كتلة الحزب الشعبي الأوروبي، التي تُمثل منبر القوى المحافظة واليمينية التقليدية، إلى تجديد التفاهم التقليدي والانفتاح على أحزب الخضر في الدول الأوروبية التي أعربت عن استعدادها للانضمام إلى جبهة عريضة في وجه اليمين المتطرف، بشرط التأكيد على مضامين ما تسميه “الميثاق الأخضر” ضمن أولويات الاتحاد.
سادساً: تعددت التصريحات الرسمية الصادرة عن كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي، التي تؤكد على أن تيارات الوسط صامدة وقوية، وسترفع حصناً منيعاً ضد التيارات المتطرفة سواء من اليمين أو اليساري، ودعوة الأحزاب المعتدلة إلى توحيد الصفوف لبناء تحالف ديمقراطي أوروبي قوي ومتماسك بما يساهم في قطع الطريق على التطرف ويتصدى لمحاولات وتوجهات التيارات الهادفة إلى تدمير الاتحاد.
هذه التصريحات وغيرها يمكن أن تشكل خطوة مهمة، لكنها تبقى رهينة لوضوح التحالفات التي ستستقر عليها مواقف الأحزاب اليمينية الكبرى، مثل التجمع الوطني الفرنسي وحزب إخوان إيطاليا وحزب البديل من أجل ألمانيا. خاصة عندما تدخل المفاوضات حول توزيع المناصب القيادية في مؤسسات الاتحاد مرحلة الحسم قبل انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان الأوروبي الجديد في منتصف يوليو/ تموز 2024.
وفي إطار الحشد والتعبئة لقوى اليمين، وقبل انعقاد قمة الدول السبع الصناعية الكبرى في إيطاليا، قامت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بتعديل مشروع البيان النهائي حول بنود الهجرة والإجهاض، بالتنسيق المشترك مع زعيمة حزب التجمع الوطني الفرنسي مارين لوبان، وليس مع الرئيس الفرنسي والشركاء الحكوميين الأوروبيين، وهو ما يعكس درجة عالية من درجات التوافق بين تيارات اليمين في دولتين من أهم دول الاتحاد الأوروبي، ومن الدول المؤسسة له، إيطاليا وفرنسا، وفي حال توافق حزب البديل من أجل ألمانيا معهما سيكون التحرك المشترك أكثر قوة ورسوخ لأنه سيضم في هذه الحالة أهم ثلاثة أعضاء في الاتحاد، إيطاليا، ألمانيا، فرنسا.
وهذه الدول الثلاث تضم 253 عضواً من أعضاء البرلمان الأوروبي البالغة 720 عضواً، فألمانيا لها 96 مقعداً، وفرنسا 81 مقعداً، وإيطاليا 76 مقعداً، وهي الدول الأعلى بالترتيب من حيث عدد الأعضاء وتبلغ نسبتها مجتمعة 35.1% من إجمالي عدد الأعضاء، وفي حال توافق أغلبيتها اليمينية مع التيارات اليمينية الأخرى من دول الاتحاد، فالتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية في الاتحاد، سواء على المدى المتوسط أو المدى البعيد ستكون كبيرة، ليس في الداخل الأوروبي فقط، ولكن في العلاقات الدولية والسياسات الخارجية للاتحاد.