ملخص
تتناول هذه الدراسة تطورات الدور الإيراني في الشرق الأوسط في أعقاب عملية طوفان الأقصى، والصراع بين إسرائيل وحزب الله، وانهيار نظام الأسد. فتبحث في الاتجاهات التي تشكل نفوذ إيران وسط ديناميكيات إقليمية ودولية متغيرة، وتستكشف قدرة طهران على تعديل استراتيجياتها وأدواتها للحفاظ على نفوذها.
وتركز الورقة على حجر الزاوية لنفوذ إيران وهي استراتيجيتها للأمن القومي، والتي تعتمد على الردع المتقدم. فتحلل المفاهيم الأساسية لهذه الاستراتيجية، والتحولات التي خضعت لها، والتحديات التي تواجهها الآن. كما تستعرض جهود إيران لإعادة إحياء حزب الله عبر الأبعاد العسكرية والسياسية والأيديولوجية، وتسلط الضوء على العقبات والتحديات التي تواجه هذه الجهود مثل عودة عقوبات الضغط بالحد الأقصى التي سيفرضها ترامب، وتنفيذ القرار 1701 للأمم المتحدة، والتحديات الداخلية في لبنان التي تؤثر بشكل مباشر على كل من إيران وحزب الله.
بالإضافة إلى ذلك، تستعرض الدراسة التحول المحتمل لإيران نحو استراتيجية بديلة، وهي استراتيجية تعطي الأولوية لدعم الحلفاء الأكثر كفاءة في المواقف الاستراتيجية المفيدة. إن هذا النهج يهدف إلى الحفاظ على مستوى أساسي من الدعم لحزب الله يكفي للحفاظ على نفوذ إيران في لبنان مع استكشاف الفرص لإعادة ضبط مشاركتها الإقليمية.
وتؤكد النتائج أن استراتيجية إيران لإحياء حزب الله محفوفة بتحديات كبيرة. ومن أبرز هذه التحديات فقدان سوريا كقناة استراتيجية بين طهران وحزب الله، فضلاً عن الضغوط اللبنانية المحلية والعقبات الإقليمية والدولية الأوسع نطاقاً. وقد تدفع هذه القيود إيران إلى إعادة توجيه دعمها نحو جهات فاعلة بديلة، مثل أنصار الله في اليمن وقوات الحشد الشعبي في العراق، كجزء من آلية ردع ثانوية. ومن شأن مثل هذه التعديلات أن تعمل كتدابير مؤقتة بينما تعمل إيران على تطوير استراتيجية ردع جديدة وأكثر تكيفاً للتنقل في المشهد الجيوسياسي المتطور الذي لم تواجهه منذ انتصار ثورتها في 1979.
استراتيجية الردع المتقدم
لم تكن الثورة الإيرانية عام 1979 مجرد ثورة سياسية فحسب، بل كانت بمثابة تحول أيديولوجي عميق سعى إلى إعادة تعريف الحكم بما يتماشى مع القيم الإسلامية الشيعية. وكثيراً ما كان يُنظَر إلى الشعارات الثورية الإيرانية، التي ركزت في البداية على معاداة الإمبريالية، والعدالة للمظلومين (المستضعفين)، والوحدة الإسلامية، باعتبارها المبادئ التوجيهية للدولة. ومع ذلك، فإن تحويل هذه الشعارات إلى سياسات دولة براغماتية يكشف عن نهج أكثر دقة تمليه الضرورات الاستراتيجية المتطورة لإيران.
بعد الثورة، واجهت إيران التحدي الهائل المتمثل في إضفاء الطابع المؤسسي على نظام يمزج بين المثل الثورية والمتطلبات العملية. تطلب إنشاء الجمهورية الإسلامية التعامل مع الفصائل الداخلية والعزلة الدولية والتهديدات الخارجية. وبمرور الوقت، خففت الحماس الثوري بسبب ضرورات إدارة الدولة. إن هذا التحول يسلط الضوء على القدرة التكيفية للدولة الإيرانية، التي انتقلت من ثورة مشحونة إيديولوجيًا إلى كيان براجماتي يوازن بين الإيديولوجية والحسابات الجيوسياسية.
إن السرد التاريخي الذي ترويه إيران وكبار باحثيها يؤكد على موقفها الجيوسياسي الهش. فبسبب وجودها محاطة بدول ذات أغلبية سنية ومستبعدة من التحالفات الاستراتيجية مع القوى العالمية بسبب التمييزات الثقافية واللغوية والدينية، طورت إيران عقيدة الاعتماد على الذات الاستراتيجي. ولم ينظر نظام ما بعد الثورة إلى عزلتها باعتبارها مجرد تحدٍ بل باعتبارها حافزًا لاستراتيجيات مبتكرة لإبراز القوة وضمان البقاء.
في البداية، كان دعم إيران للجماعات المسلحة العابرة للحدود الوطنية مثل حزب الله متجذرًا بعمق في الهدف الإيديولوجي المتمثل في تصدير الثورة. وكان تشكيل حزب الله في أوائل الثمانينيات يمثل مظهرًا ملموسًا لهذا المبدأ، حيث استفادت طهران من القيم الدينية والإيديولوجية المشتركة مع الحزب لتعزيز النفوذ الإقليمي والنفوذ داخل لبنات نفسه. كان الهدف من هذا التصدير الأيديولوجي هو بناء شبكة من الحلفاء الملتزمين بتحدي الخصوم الغربيين والإقليميين.
بعد ذلك، غيرت الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) والتطورات الإقليمية اللاحقة، بما في ذلك غزو الولايات المتحدة لأفغانستان (2001) والعراق (2003)، الحسابات الاستراتيجية الإيرانية بشكل كبير. وقد أكد تصنيف الرئيس جورج دبليو بوش لإيران كجزء من “محور الشر” على المخاوف الوجودية لطهران، مما دفع إلى تحول في سياستها الخارجية. وفي حين ظل الغطاء الأيديولوجي سليما، تبنت إيران بشكل متزايد استراتيجيات براغماتية لموازنة التهديدات.
ولعل أهم ما قامت به هو تبنيها استراتيجية الردع الشبكي. حيث تطور استخدام إيران للجهات الفاعلة غير الحكومية إلى نظام متطور من “الردع الشبكي”. سمح هذا النهج لطهران بتوسيع نفوذها بشكل غير مباشر، مما خلق تحديات غير متكافئة للخصوم. أصبحت الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل حزب الله والحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق في وقت لاحق أدوات لهذه الاستراتيجية، مما يوفر لإيران نفوذاً دون الحاجة إلى مواجهة مباشرة مع أعدائها الأقوياء مثل إسرائيل والولايات المتحدة.
مهمة هؤلاء الحلفاء هو موازنة التهديدات. تعمل الشبكة على موازنة الوجود العسكري الأميركي في المنطقة وردع إسرائيل. وكانت الروابط الدينية والإيديولوجية بمثابة أداة لبناء التحالفات، ولكن الاعتبارات البراغماتية ــ مثل العمق الاستراتيجي واحتواء الخصوم ــ كانت بالغة الأهمية لإيران.
تواجه فعالية الاستراتيجية العابرة للحدود الوطنية لإيران تحديات غير مسبوقة. ويمثل “طوفان الأقصى” والاستهداف اللاحق لقادة حزب الله الرئيسيين من قِبَل إسرائيل ضربة حاسمة لحليف طهران الأكثر موثوقية. وعلاوة على ذلك، انتهى دور إيران في سوريا (ولو بشكل مرحلي ومؤقت) بسبب إسقاط المعارضة السورية لنظام بشار الأسد ولصعود الدور التركي الفعال في الساحة السورية. وفي حين تحافظ حماس على قدرتها على الصمود في غزة، يظل نفوذ إيران على الجبهة الفلسطينية محدودا بسبب الحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل اليوم على غزة والضفة الغربية.
إن الاستراتيجية الجيوسياسية الإيرانية تقف عند مفترق طرق. والتحديات التي تواجه نموذج الردع الشبكي تتطلب إعادة تقييم أولويات سياستها الخارجية. وفي حين تظل السرديات الإيديولوجية تشكل جوهر هويتها، فإن الحقائق البراغماتية المتمثلة في القيود المفروضة على الموارد، وإعادة التنظيم الإقليمي، والمعارضة الداخلية قد تدفع طهران نحو إعادة ضبط نهجها. كل ذلك يأتي في ظل تراجع نفوذها الإقليمي في سوريا ولبنان وأزمة اقتصادية قادمة مع الرئيس الأمريكي المقبل دونالد ترامب وأزمة النووي الإيراني مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. لذلك لا بد من استكشاف استراتيجية إيران الإقليمية لدعم حلفائها مثل حزب الله بوصفه الأداة الأقوى لها في المنطقة وهل هي قادرة حقا على إعادة إحيائه اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً.
حيث إن تصريحات القادة السياسيين والعسكريين الإيرانيين، بما في ذلك المرشد الأعلى الإيراني وقائد الحرس الثوري الإيراني، تؤكد استمرار استراتيجية إيران الشاملة فيما يتعلق بـدعم “محور المقاومة” بوصفه الركن الأساس في عملية الردع الإيرانية. ولا تشير هذه التصريحات إلى أي انحراف عن السياسة القديمة، التي تؤكد على الجهود المبذولة لاستعادة طريق العبور الاستراتيجي في سوريا. فقد أكد المرشد الإيراني خامنئي أن الشباب السوري سيلعب دورًا محوريًا في استعادة الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة. وفي الوقت نفسه، يؤكد اللواء حسين سلامي، قائد الحرس الثوري الإيراني، أن خطوط الإمداد لحزب الله لا تزال مفتوحة، وتمتد إلى ما هو أبعد من الحدود السورية، معرباً عن أمله في تغير الوضع تدريجيا قي سوريا.
إحياء حزب الله: مسعى عسكري وسياسي استراتيجي
الإحياء العسكري
إن التزام إيران بإعادة تسليح حزب الله وتنشيطه لا يزال قائما، بغض النظر عن انهيار نظام بشار الأسد. إن مثل هذه النتيجة لا تشير إلى التراجع، بل قد تجبر إيران على إعادة ضبط تكتيكاتها، والاستفادة من الفرص الناشئة وسط عدم الاستقرار المحتمل في سوريا. وتشمل استراتيجيات إيران التكيفية لإعادة تسليح حزب الله مجموعة متنوعة من الأساليب السرية والعلنية منها:
طرق التهريب البرية
عبر الحدود المجاورة: تشمل الممرات البرية الرئيسية المعابر عبر العراق أو الأردن. وقد يتم تهريب الأسلحة إلى حزب الله في صورة عمليات إغاثية أو ضمن السلع الرئيسية التي يتم تبادلها بين البلدان المذكورة.
عبر القوات الكردية أو المدن الساحلية: قد تستغل إيران الفصائل الكردية الراغبة في التعاون أو الاستفادة من المراكز الساحلية لتقصير طرق التهريب إلى لبنان. وعلاوة على ذلك، فإن العناصر المضمنة داخل مؤسسات الدولة السورية في ظل نظام الأسد السابق قد تسهل مثل هذه العمليات.
التهريب البحري
في ضوء نقاط الضعف على طول الطرق البرية، قد تكثف إيران جهودها للاستفادة من القنوات البحرية. وباستخدام السفن التجارية أو القوارب الأصغر حجماً، يمكن نقل الأسلحة مباشرة إلى سواحل لبنان أو سوريا، ثم نقلها إلى الأراضي التي يسيطر عليها حزب الله.
التعامل مع السوق السوداء الدولية
تقدم السوق السوداء العالمية للأسلحة طريقاً آخر قابلاً للتطبيق. وهنا، قد تتضمن استراتيجية المشتريات الإيرانية عمليات سرية متطورة لتأمين الأسلحة المتقدمة، والتنقل عبر التحديات اللوجستية المعقدة للتهرب من الكشف من قبل شبكات الاستخبارات الدولية.
زيادة الإنتاج المحلي داخل لبنان
لتخفيف الاعتماد على سلاسل التوريد الخارجية، يمكن لإيران تعزيز قدرة حزب الله المحلية على تصنيع الأسلحة. ويتضمن هذا النهج نقل الخبرة الفنية والمواد الخام اللازمة لإنتاج أنظمة متقدمة مثل الطائرات بدون طيار والصواريخ الموجهة بدقة. وستكون الخبرة المتراكمة لحزب الله على مدى السنوات الأخيرة مفيدة في تنفيذ هذه الاستراتيجية.
الإحياء الاقتصادي لحزب الله: الأسس الاستراتيجية
يعمل حزب الله كمنظمة عسكرية وحركة اجتماعية سياسية راسخة في النسيج الاجتماعي والاقتصادي في لبنان. وترتبط مرونة المجموعة ارتباطًا وثيقًا بقدرتها على دعم نظام اقتصادي موازٍ يدعم قاعدتها، ويتجاوز نقاط ضعف الدولة، ويخفف من آثار العقوبات الدولية. ومع ذلك، أدت الحرب الأخيرة مع إسرائيل إلى تفاقم نقاط الضعف الاقتصادية لحزب الله. وللتصدي لهذا، من المرجح أن يركز نهج إيران على كل من الاستقرار قصير الأجل والتكيفات البنيوية طويلة الأجل.
يعمل القرض الحسن كحجر الزاوية للنظام البيئي المالي لحزب الله. وعلى الرغم من تقديمه علنًا كمؤسسة خيرية تقدم قروضًا خالية من الفوائد، إلا أن القرض الحسن يعمل كمؤسسة مصرفية بحكم الأمر الواقع لدائرة حزب الله الانتخابية، حيث يوفر الائتمان والسيولة والاستقرار الاقتصادي للمجتمعات الشيعية المهمشة من قبل القطاع المالي الرسمي في لبنان. إن الضربات الإسرائيلية الموجهة لفروع مؤسسة القرض الحسن تكشف عن مركزية هذه المؤسسة ونقاط ضعفها. وستعمل كل من إيران والحزب على إعادة ترميم القطاع المالي والاقتصادي لحزب الله عبر:
إعادة الإعمار واللامركزية: قد تمول إيران إعادة البناء المادي لفروع القرض الحسن مع لامركزية عملياتها للحد من مخاطر الاستهداف في المستقبل. وقد يتضمن هذا إنشاء عُقد مالية أصغر وأقل وضوحًا مدمجة داخل المجتمعات المحلية. كما قدمت طهران تبرعاتها إلى حزب الله من أجل إعادة الإعمار حيث أعلن حزب الله عن تقديمه مبالغ تتراوح بين 12 إلى 14 ألف دولار للبيوت المتضررة من القصف الإسرائيلي.
التحول المالي الرقمي: نظرًا لمخاطر التدمير المادي التي يحتمل أن تقدم عليها إسرائيل والعقوبات الدولية، يمكن لإيران وحزب الله أن يتحولا بشكل متزايد نحو المنصات الرقمية والعملات المشفرة. وهذا من شأنه أن يسمح للأموال بالتدفق عبر الحدود مع قدر أكبر من عدم الكشف عن الهوية، متجاوزين الأنظمة المصرفية التقليدية وأنظمة العقوبات.
ويوفر الاقتصاد الموازي لحزب الله، والذي يجسده سلسلة متاجر النور ونظام بطاقة ساجد، سلعًا وخدمات مدعومة لقاعدته، مما يعزلهم عن الانهيار الاقتصادي في لبنان. وتخدم هذه المبادرات غرضين:
الحفاظ على ولاء الناخبين: من خلال التخفيف من تأثير التضخم المفرط والحرمان الاقتصادي، ويضمن لحزب الله ولاء قاعدته الشيعية.
تقويض مؤسسات الدولة: إن توفير الخدمات المتوقعة تقليديا من الدولة يؤدي إلى تآكل شرعية المؤسسات الرسمية في لبنان، مما يسمح لحزب الله بوضع نفسه كضامن أكثر موثوقية لرفاهية الشيعة.
ومن المرجح أن يتخذ دعم إيران هنا شكل إعانات مباشرة وتكامل سلسلة التوريد. ويضمن هذا النهج تدفقا ثابتا للسلع إلى المناطق التي يسيطر عليها حزب الله، حتى في ظل العقوبات الدولية الصارمة.
الحفاظ على التشيع السياسي في لبنان: ضرورة أيديولوجية
إن التزام إيران بالحفاظ على التشيع السياسي في لبنان متجذر في رؤيتها الإيديولوجية ورؤيتها للأمن القومي من حيث الحفاظ على نفوذها قائما في لبنان المنطقة الحيوية لها. ويلعب حزب الله دوراً محورياً في هذه الرؤية، ليس فقط كحليف عسكري ولكن أيضاً كرمز للمرونة السياسية الشيعية.
ستمتد جهود إيران للحفاظ على التشيع السياسي إلى ما هو أبعد من التدابير الاقتصادية لتشمل التعزيز الإيديولوجي والثقافي عبر المؤسسات التعليمية والدينية. حيث ستواصل إيران تمويل الحوزات والمدارس والمنافذ الإعلامية الشيعية في لبنان. وتعمل هذه المؤسسات على نشر الإطار الإيديولوجي الإيراني، وضمان نقل القيم الثورية إلى الجيل القادم.
كما أن روايات الاستشهاد والمقاومة توفر أرضاً خصبة لتجديد رواية حزب الله للمقاومة، والتي تصور المجموعة باعتبارها المدافع عن كرامة الشيعة ضد العدوان الصهيوني والإمبريالي. ومن المرجح أن تعمل إيران على تضخيم هذه الرواية من خلال شبكات الإعلام الإقليمية، مما يعزز الدور الرمزي لحزب الله داخل المجتمع الشيعي الأوسع.
ولموازنة الضغوط الخارجية، من المرجح أن تكثف إيران جهودها الدبلوماسية لدمج حزب الله بشكل أكثر ثباتًا في الهياكل السياسية اللبنانية. في حين أن حزب الله يمارس بالفعل نفوذاً كبيراً داخل النظام السياسي اللبناني، فقد تشجع إيران المجموعة على تبني نهج أكثر تصالحية تجاه الفصائل السنية والمسيحية، مما يؤمن مكانتها في لبنان ما بعد الصراع.
وعلى الرغم من كل ما قيل أعلاه وعلى الرغم من البوادر التي تشير إلى أن إيران لم تتخل بعد عن دعم حزب الله كأحد أفضل وأقوى حلفائها في الشرق الأوسط إلا أن مشهد إعادة إحياء حزب الله سياسياً واقتصادياً وإيديولوجيا يواجه تحديات حقيقية. فالمشهد الجيوسياسي المتطور والاستراتيجيات المتغيرة في الشرق الأوسط تشير إلى أن تحول حزب الله إلى حزب سياسي منزوع السلاح في لبنان قد يكون حتميا في الأمد المتوسط. الوصول إلى هذه النتيجة يأخذ بالاعتبار العوامل المؤثرة على هذا المسار، بما في ذلك إعادة تقييم إسرائيل استراتيجيتها في الحرب الأخيرة على لبنان، والآلية الصارمة لتنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 1701، والضغوط الخارجية من الولايات المتحدة، والديناميكيات الإقليمية الأوسع.
التحول لليمن والعراق
لقد كشفت الحروب في غزة ولبنان عن قيود حرجة في قدرة حزب الله على العمل كمحور أساسي في استراتيجية الدفاع الإيرانية، التي تهدف إلى إنشاء شبكة ردع موثوقة خارج حدودها. ومع ظهور تحالف تقوده إسرائيل والولايات المتحدة لتحجيم الدور الإيراني في الشرق الأوسط والضغط المستمر على حزب الله داخلياً قد تتعطل الاستراتيجية الإيرانية بدعم الحزب وإعادة إحيائه بشكل حقيقي مما يتطلب تغييراً في الاستراتيجية الإيرانية الكبرى لأمنها القومي.
ففي ضوء هذه القيود، قد تضطر طهران إلى إعادة معايرة الدور العملياتي لحزب الله. وقد يؤدي هذا التقييم الجديد إلى تقليص حزب الله لمشاركاته العسكرية الخارجية مع تعزيز وجوده السياسي داخل لبنان. إن مثل هذه الخطوة تهدف إلى حماية موقف حزب الله في النظام السياسي الطائفي المعقد في لبنان، وضمان بقاء التمثيل السياسي الشيعي قوياً، وتجنب التهميش السياسي الذي عانت منه المجتمعات المارونية والسنية في الماضي.
للتعويض عن تقلص نفوذ حزب الله الخارجي، يبدو أن إيران تعمل على توسيع استراتيجيتها الرادعة من خلال تمكين حلفاء أكثر قدرة على التكيف ومتوزعين جغرافياً بشكل مفيد لها. وتشمل هذه الجماعات الحوثيين في اليمن والفصائل الشيعية في العراق، وكلاهما أثبت كفاءة في إدارة حرب غير متكافئة مع تقديم عمق استراتيجي لطهران عبر مسارح إقليمية متعددة وذلك دون إنهيار كامل لقدراتهم خلال المواجهة مع إسرائيل. تعمل هذه الشبكة المتنوعة على تقليل اعتماد إيران على حزب الله مع تعزيز قدرتها على فرض قوتها بطريقة لامركزية ومرنة ليس تجاه إسرائيل والولايات المتحدة وحسب بل ضد دول الخليج كذلك حيث أن جماعة أنصار الله من الممكن أن تكون قوة موازنة للقوى الإقليمية كذلك.
يسلط المحور الاستراتيجي الإيراني الضوء على التكيف البراغماتي مع الحقائق الإقليمية المتطورة. من خلال إعادة تخصيص الموارد والتركيز على شبكة أكثر شمولاً من الحلفاء، تخفف طهران من المخاطر المرتبطة بالإفراط في الاعتماد على أي جهة فاعلة واحدة. إن استراتيجية التنويع هذه لا تعزز قدرات الردع الإيرانية فحسب، بل وتعزز أيضاً مرونتها الجيوسياسية في ظل الضغوط الدولية والإقليمية المتزايدة.
ومع ذلك، فإن هذا التحول يأتي مع مخاطر وتداعيات كبيرة على استقرار الشرق الأوسط. إن تقليص الدور العسكري لحزب الله قد يعمل على استقرار البيئة السياسية الداخلية في لبنان، ولكنه قد يضعف قدرته على الردع ضد التهديدات الخارجية. وفي الوقت نفسه، فإن زيادة الدعم الإيراني للحوثيين والميليشيات العراقية من شأنها أن تزيد من حدة الصراعات في تلك المناطق، مما يستدعي اتخاذ تدابير مضادة من جانب الدول الإقليمية والقوى الغربية.
وفي نهاية المطاف، تكشف استراتيجية الدفاع الإيرانية المتطورة عن محاولة مدروسة للحفاظ على نفوذها الإقليمي مع التكيف مع القيود التشغيلية التي ظهرت فيما بعد عملية طوفان الأقصى. ومن خلال تعزيز الدور السياسي لحزب الله في الداخل وتوسيع الدعم لوكلاء أكثر مرونة في الخارج، تسعى طهران إلى الحفاظ على قدراتها على الردع بطريقة أكثر استدامة ومرونة. ولا يعمل هذا التعديل الاستراتيجي على إعادة تعريف النفوذ الإيراني فحسب، بل يعيد أيضاً تشكيل الديناميكيات الجيوسياسية الأوسع في الشرق الأوسط بطرق معقدة وغير متوقعة تفرض تحديات كبيرة على القوى الإقليمية أكثر من الولايات المتحدة أو إسرائيل.
النتائج
تعترف طهران تدريجيا بالتحديات التي تواجهها استراتيجيتها للأمن القومي، والتي اعتمدت على فرض الردع خارج حدودها من خلال منظومات الصواريخ والطائرات المسيرة المتطورة، وتكتيكات غير متكافئة. وكان المقصود من هذا النهج أن يتم تعزيزه من خلال شبكة من الجهات الفاعلة غير الحكومية المتحالفة التي تشكل حاجزا لإيران ضد خصومها على الأخص إسرائيل والولايات المتحدة وذلك قبل الوصول إلى أراضيها. ومع ذلك، فإن خسارة سوريا كمعقل محوري أجبرت طهران على إعادة تقييم حدود نفوذها الجيوسياسي، مما دفعها إلى التراجع الاستراتيجي للتركيز على إعادة معايرة عقيدة الأمن القومي. وقد تنطوي إعادة التقييم هذه على إعادة التفكير في الدور التقليدي لحزب الله اللبناني كحليف عسكري وسياسي وإقليمي.
لقد أكد القضاء على قاسم سليماني، مهندس النفوذ الإقليمي لإيران، متبوعًا بالضربات التي تلقاها حزب الله بخسارة قيادات الصف الأول والثاني وتعطيل البنية التحتية الدفاعية له في جنوب نهر الليطاني، على المخاطر الكامنة في الاعتماد على حلفاء محليين للحفاظ على الدور الإيراني في الشرق الأوسط. ونتيجة لهذا، قد تتجه طهران إلى توجيه مواردها العسكرية والاقتصادية نحو لاعبين آخرين، مثل الحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق، كآليات بديلة للردع وذلك لإن جهود إعادة إحياء حزب الله اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ستكون مكلفة للغاية وستواجه تحالف من قوى الداخل اللبناني وتنسيق أمريكي-إسرائيلي لتقويض هذه الجهود.
ونظراً للقيود المفروضة على استئناف الدعم العسكري القوي لحزب الله، فقد يقتصر انخراط إيران على تقديم المساعدة المالية الرامية إلى الحفاظ على دور حزب الله كثقل سياسي موازن داخل ديناميكيات القوة في لبنان. ومن المرجح أن يركز هذا الدعم على حماية وجود التشيع السياسي وسط الجهود الغربية الإسرائيلية المتزايدة للضغط على حزب الله لكي يصبح كياناً سياسياً بحتاً. وتشمل هذه الجهود التهديدات العسكرية، والعقوبات الاقتصادية، والمبادرات الرامية إلى تعزيز مؤسسات الدولة اللبنانية، وخاصة الجيش والرئاسة اللبنانية، في حين تركز هذه القوى المتحالفة المخالفة للنفوذ الإيراني في لبنان على توجيه جهود إعادة الإعمار والمساعدات من خلال شخصيات ومنظمات بديلة تتجاوز حزب الله.