مخفي الرابع والعشرين من يوليو/ تموز 2024، وقف رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، أمام أعضاء الكونغرس الأمريكي، بغرفتيه النواب والشيوخ، مستعرضا رؤيته لمستقبل غزة بعد الحرب، معلنا عن هدفين أساسيين: “النصر على حماس، وإقامة إدارة مدنية” تحكم القطاع.
خطاب نتنياهو الذي استمر 52 دقيقة، وتوقف للتصفيق وقوفاً من جانب الجمهور الذي تم استئجاره لحضور هذا العرض المسرحي الفاشل، لم يأت على حل الدولتين الذي تتحدث عنه الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ قرار التقسيم الصادر عام 1947 وحتى اليوم دون جدية حقيقة لتنفيذه.
كما لم يذكر الخطاب السلطة الفلسطينية، التي قدمت الكثير والكثير حفاظاً على مسار أوسلو الذي تم رسمه عام 1993، وكان على حساب القضية الفلسطينية، ورغم ذلك تمسكت به السلطة، ظناً منها، بل ووهماً، أنه يمكن أن يرسخ لعملية سلام حقيقية مع كيان استيطاني، لن تتوقف أطماعه عند حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة.
لقد أعاد خطاب نتنياهو، وأطروحته العبثية، إلى الأذهان تجارب إسرائيلية سابقة لتأسيس كيانات فلسطينية تتبع مباشرة لسلطة الجيش الإسرائيلي، ففي السبعينيات من القرن العشرين، بحث الحاكم العسكري الإسرائيلي للمدينة، يغئال كرمون، فكرة إقامة هيكل إداري مدني لإدارة شؤون الضفة الغربية وقطاع غزة، وتلقف مناحيم ملسون، مستشار الشؤون العربية في مؤسسة الحكم العسكري الإسرائيلي، الفكرة وشرع بتنفيذها بعد اتفاق كامب ديفيد مع مصر عام 1978، في محاولة لإلغاء وجود منظمة التحرير الفلسطينية.
وأسس ميلسون وكرمون “روابط القرى” لتكون هيئة فلسطينية مدنية مدعومة من الحاكم العسكري الإسرائيلي الذي اختار مصطفى دودين رئيسا لها، وكان عائدا إلى بلدته دورا قضاء الخليل بعد أن كان وزيرا في الأردن، وفشلت الخطة لأن الفلسطينيين قاطعوا “روابط القرى” واعتبروها وجها مدنيا للاحتلال بوجوه فلسطينية أصبحت منبوذة.
وتصاعدت قوة الشخصيات الوطنية الفلسطينية المرتبطة بمنظمة التحرير الفلسطينية، ردا على “روابط القرى”، وشهدت الانتخابات البلدية أحداثا فهم من خلالها الإسرائيليون أن أي محاولة لتشكيل إدارة للفلسطينيين من دون منظمة التحرير ستفشل حتمًا، وبعد نحو نصف قرن على تلك المحاولة، أعاد نتنياهو الحديث عن “إدارة مدنية” تحكم هذه المرة قطاع غزة بعد انهاء جيشه حربه في القطاع.
ما قاله نتنياهو تكرار لما تحدث عنه قبل أشهر، ومنذ طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، باستمرار وجود الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وحتى إن لم يتواجد في مناطق الكثافة السكانية، إلا أنه يريد الاحتفاظ بالسيطرة الأمنية، والجديد هو إنشاء إدارة مدنية في القطاع، أي اختيار أشخاص فلسطينيين تابعين لجيش الاحتلال، تكراراً لتجربة روابط القرى بين 1978 و1984.
البعض ذهب للقول إن من بين البدائل المطروحة أن يكون رئيس الوزراء الفلسطيني هو من يدير الأمور في قطاع غزة، على أن يدعو دولًا عربية، للمساهمة والمشاركة في إدارة الأمور في غزة لمدة عام أو أكثر، وهذا يعني عدم وجود أي سلطة لحماس في غزة، بعد السماح للسلطة الفلسطينية للعودة من خلال إدارة رئيس الوزراء، أو من ينوب عنه، إلا أن هذا الطرح لا يتفهم أنه لن تتعاون أي جهة فلسطينية مع إدارة مدنية تابعة للاحتلال الإسرائيلي في غزة، في ظل بقاء حركات المقاومة الفلسطينية، والتي لن تسمح بتجاوز دورها، في ظل كل التضحيات التي قدمتها هذه الحركات، وقدمها سكان غزة منذ الطوفان وحتى الآن.
ووجود المقاومة الفلسطينية يعني أن أي شخص يتعامل مع إسرائيل سيصبح هدفا مشروعا لخيانة الوطن، لأن تصور نتنياهو وكيانه الاستيطاني وحكومته الصهيونية تقوم على صناعة وكيل فلسطيني لإسرائيل في غزة، يحمل عنها عبء مسؤولياتها كقوة احتلال، سعيًا للقضاء على حركات المقاومة أولاً، وعلى عملية السلام ثانيًا، وصولا إلى القضاء على التطلعات الوطنية الفلسطينية في دولة حرة مستقلة ثالثًا.
التحولات الدولية والحضور الصيني
لقد تجاهل نتنياهو في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي العديد من التحولات المهمة، بل الجذرية التي شهدتها المنطقة، وهو يحاول تقديم نفسه كزعيم للمنطقة، ويقوم برسم السيناريوهات وبناء التحالفات، ومن بين هذه التحولات، تصاعد حدة التنافس الدولي في المنطقة، وأن السلطة الفلسطينية، وحركات المقاومة على اختلاف تياراتها ستواصل العمل من أجل انتزاع الحقوق للفلسطينيين على المسار السياسي والقانوني، وقد اتجهت نحو القوى الموجودة في الشرق، من خلال إعلان بكين الذي تم التوقيع عليه من جانب 14 فصيلًا فلسطينيًا، ويركز على الوحدة الوطنية وتشكيل حكومة تمثل كل الفلسطينيين.
سقوط الأساطير الوهمية
التحول الثاني، هو تداعيات عملية طوفان الأقصى على الأساطير التي تأسس عليها الكيان الصهيوني، حيث ضربت هذه العملية 6 أساطير كبرى، عاش عليها الكيان ورسم حولها الكثير من الأوهام، وهي: أسطورة واحة الديمقراطية، أسطورة المجتمع الآمن الذي يستوعب الجميع، أسطورة أقوى جيش في المنطقة، أسطورة أقوى جهاز استخباراتي في المنطقة، أسطورة الدولة الحامية التي يمكنها أن توفر الأمن والحماية لحلفائها ممن طبعوا معها في مواجهة الأخطار والتحديات التي تواجههم، أسطورة القدرة على الردع في مواجهة الأطراف الإقليمية والدولية، والتي سقطت بعد أن أصبحت تل أبيب مستباحة من إيران والحوثيين وفصائل المقاومة في العراق والشام.
الحراك الطلابي والمظاهرات الشعبية
التحول الثالث، هو أن الأكاذيب التي يرددها نتنياهو، ورددها عدة مرات في خطابه أمام الكونجرس، حول المظلومية الصهيونية، في مواجهة المتطرفين المسلمين وخاصة من حركات المقاومة، قد سقطت أمام الكثيرين من المواطنين الأمريكيين والغربيين، وما تلك المظاهرات التي شارك فيها الملايين في مختلف الميادين، والاعتصامات التي شارك فيها عشرات الآلاف في أهم الجامعات الأمريكية والأوروبية، إلا دليل شديد الأهمية، على ما يشهده الرأي العام الأمريكي والأوروبي من تحولات.
وقد تتطور وتتبلور هذه التحولات خلال السنوات القليلة القادمة، في ظل قدرة شباب الجامعات على الوصول للمعلومات والحقائق بعيداً عن هيمنة الإعلام الصهيوني، وشبكات التواصل الاجتماعي التي تتحكم فيها الصهيونية العالمية، وتفرض على الجميع خوارزمياتها.
صعود كيانات ما دون الدولة
التحول الرابع، هو بروز عدد من الأطراف الإقليمية التي تمتلك قدرات وتوجهات مختلفة عن التوجهات الرسمية التي تمثلها النظم الحاكمة، مع تعاظم الحضور والتأثير الذي كشفت عنه عملية طوفان الأقصى، فقد كشفت عن القدرات النوعية التي يمتلكها حزب الله، ووصلت إليها تقنياته المعلوماتية والصاروخية، وقدرته على الوصول للعمق الصهيوني.
وكذلك القدرات التي تمتلكها جماعة أنصار الله الحوثي في اليمن، والتي وصلت لدرجة تصنيع مسيرات ضربت قلب عاصمة الكيان الصهيوني، ونجحت خلال أكثر من تسعة أشهر في فرض إرادتها على الأمن والمرور في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، واستهدافها للعديد من السفن التابعة للكيان أو التي تدعمها، واضطرت معها الولايات المتحدة وحلفائها إلى تشكيل تحالف خاص تحت مسمى الأمن في البحر الأحمر.
إن هذه التحولات وغيرها، تكشف عن أن ما بعد الطوفان، لن يكون كما قبله، ولن يستطيع الكيان الصهيوني ومن يقف خلفه إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وأن الحديث عن أوهام التطبيع وتحالفات أبراهام، والقيادة الصهيونية للشرق الأوسط، ستسقط كما سقطت غيرها من أساطير، بل إن نتنياهو نفسه، لن يكون له دور بعد الطوفان، وما إن تتوقف آلة حربه الإجرامية، سيكون أول من يحاكم ويحاسب داخليًا قبل أن يكون خارجيًا.