في الأول من نيسان/ أبريل 2024، تعرضت القنصلية العامة الإيرانية في العاصمة السورية دمشق لغارة نسبها المسؤولون الإيرانيون والسوريون لسلاح الجو الإسرائيلي. أودت الغارة حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان بحياة 16 من إيرانيين وسوريين ولبناني واحد، معظمهم من الحرس الثوري الإيراني على رأسهم العميدين محمد رضى زاهدي ومحمد هادي رحيمي القياديين في الحرس الثوري، وعنصر من حزب الله اللبناني إضافةً إلى مدنيين إثنين.
على عكس معظم الغارات الإسرائيلية التي تستهدف فيها القوات الإسرائيلية مصالح إيرانية في سوريا، فإن الغارة استهدفت مقراً لبعثة دبلوماسية. حيث إن لإسرائيل سجلاً حافلاً بالاستهدافات على الأراضي السورية منذ وقت مبكر بعد تطور أحداث الثورة، وتحديداً مطلع عام 2013. وهي الغارات التي استهدفت غالباً مواقع عسكرية وتحصينات ومخازن أسلحة، وأحياناً أفراد وقيادات عسكرية من حزب الله أو الحرس الثوري أو حتى النظام السوري. ومع ذلك فإنها لم يسبق وأن استهدفت بعثةً دبلوماسية، والتي تعد وفقاً للأعراف الدولية جزءاً من أراضي الدولة التي تمثلها. وهو ما مثل انعطافاً مفصلياً في طبيعة الاشتباك الدائر بين إيران وإسرائيل على الأراضي السورية، والذي تميز بأنه كان دائماً بإقدام إسرائيلي يقابل بتصريحات “الاحتفاظ بحق الرد”، أو ردود مختزلة من قوات حليفة لإيران بصواريخ إلى شمال إسرائيل دون وقوع أضرار في الغالب.
ظهرت فرادة الحدث في وقت مبكر، وسرعان ما صرّح المسؤولون الإيرانيون بأن الرد الإيراني قادم على “الجريمة” التي ارتكبتها إسرائيل. في ذات الوقت دعت العديد من الأطراف إلى ضبط النفس، في حين كانت الولايات المتحدة متأكدة من أن الرد الإيراني قادم، ونبهت إسرائيل إلى أنه سيكون في غضون أيام. كما أكدت على أنها ستكون جاهزة للدفاع عن أمن إسرائيل وملتزمة به.
قبل منتصف الليل، قرابة الساعة 11 مساءً من يوم السبت 13 نيسان/ أبريل، أعلنت هيئة الطيران الأردنية إغلاق المجال الجوي ووقف كافة الرحلات من وإلى الأردن بسبب توتر الأوضاع في الإقليم وحفاظاً على سلامة المسافرين والرحلات. لم تتأخر بعدها الأخبار التي تناقلت انطلاق مسيّرات إيرانية من إيران نحو إسرائيل، وهي الأخبار التي سرعان ما أكدتها إسرائيل ثم إيران.
مثّل الاستهداف الإيراني حدثاً مهماً ومفصلياً، ويمكن القول أن تلك الليلة كانت ليلة ترقّب وتأهب على مستوى الإقليم، للتعامل مع نتائج استهداف دولة بشكل رسمي ومعلن من داخل أراضيها لإسرائيل، وهو الأول من نوعه منذ استهداف العراق لإسرائيل عام 1991 بصواريخ سكود، خصوصاً مع إصرار إسرائيل والولايات المتحدة على التعامل مع الحوثي كمليشيا، وليس بصفته حكومة في اليمن.
ابتداءً يمكن القول بأن مجمل الأحداث العسكرية الحاصلة منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم، اشتركت بمشترك أساسي، وهو المناورة الدقيقة من الأطراف على تغيير قواعد الاشتباك. ففي حين مثلت عملية السابع من أكتوبر تحولاً في طبيعة الفعل الفلسطيني المقاوم، وغيرت طبيعة الاشتباك بين فصائل المقاومة وبين الاحتلال الإسرائيلي. فإن كل الأطراف التي اشتركت وتدخلت بالمواجهة بنسب متفاوتة، حرصت على أن تغير قواعد اشتباكها مع الاحتلال الإسرائيلي، وفي لحظات معينة أن تغير طبيعة علاقتها بالنظام الدولي.
حيث إن أهم ما كان يؤكد عليه حزب الله في محاولته التأكيد على نجاح عملياته وأثرها، هو إشارته إلى أن هذه الاستهدافات غيرت من طبيعة الاشتباك بين إسرائيل وحزب الله. وأن الاستهدافات التي يقوم بها حزب الله للثكنات والآليات العسكرية، كانت ستؤدي لحرب شاملة لو تمت في وقت آخر وظروف أخرى. وأن حزب الله فرض تغيراً في معادلة المواجهة مع إسرائيل، وصنع معادلة ردع جديدة.
كذلك الأمر بالنسبة لكل المجموعات المسلحة وما يسمى بـ “وكلاء إيران” في سوريا والعراق، التي عملت على صنع واقع جديد وقواعد مختلفة للاشتباك مع إسرائيل، بل حتى على صعيد علاقتها في دول الإقليم، مثل الأردن على سبيل المثال. كذلك الأمر سعى الحوثي من خلال تحركاته العسكرية في مضيق باب المندب أو من خلال إطلاق المسيرات تجاه إسرائيل إلى إعادة تموضعه مع محيطه وتغير قواعد اتصاله بالإقليمي والدولي وفرض نفسه كقوة مؤثرة لابد من التعامل معها باعتبارات أكثر جدية.
إن كل هذه التحولات التي بدأت منذ السابع من أكتوبر ووجهت بتحركات معاكسة من قبل الاحتلال الإسرائيلي وحلفاءه الذين كانوا حريصين على أن أي تغير في القواعد من قبل المقاومة الفلسطينية، أو حزب الله، أو إيران وأي من حلفائها لابد من أن يقابل بتغير في قواعد الاشتباك أيضاً من قبل الجانب الإسرائيلي. حيث لم تحافظ إسرائيل على المستوى المعتاد من الرد في حربها على قطاع غزة، ولم تتقيد بالقواعد التي فرضتها الحروب السابقة، أو الشروط التي حاولت أن تفرضها المقاومة في حرب 2021 في محركة سيف القدس التي بادرت فيها كتائب القسام لأول مرة إلأى استهداف إسرائيل.
كذلك الأمر عندما توغلت إسرائيل في عمق الأجواء اللبنانية وصولاً إلى العاصمة بيروت لتغتال القيادي في حركة حماس صالح العاروري، وهو ما مثل تحولاً جذرياً لقواعد الاشتباك التي وضعتها حرب تموز في حرص من إسرائيل على عدم تحقيق حزب الله منجزات على صعيد تغيير قواعد الاشتباك إلا ويرافقها تغيير في الرد الإسرائيلي يوازن هذه التغيرات. كما حرصت الولايات المتحدة على ألا يتمكن الحوثي من فرض قواعد جديدة في المياه الدولية دون كلف ووجهت مجموعة من الضربات بالتعاون مع مجموعة دولية حليفة.
إن كل هذا السياق يخبرنا بأنه وإلى جانب الحرب العسكرية لتحقيق منجزات على الأرض، فهناك معركة ثقيلة طوال الفترة الماضية تدور على تغيير قواعد الاشتباك بشكل عام. وهو ما مثله هجوم إسرائيل على القنصلية الإيرانية في دمشق ابتداءً. فقبل أن يكون الرد الإيراني مثل تغيراً في قواعد الاشتباك مع إسرائيل في هجومها على مصالحه في المنطقة. فإن هجوم إسرائيل على بعثة دبلوماسية مثل انتقالاً نوعياً في طبيعة هجماتها على مصالح إيران. وهو ما حاولت إيران عدم السماح بتمريره وقبوله، ولم تقبل بتغيير موقع خط الاشتباك من طرف واحد، ما دفعها إلى الحرص على توجيه ضربة عسكرية تغير من طبيعة قواعد الاشتباك بين إيران وإٍسرائيل.
وفي قراءة لطبيعة العملية وما فرضته من قواعد جديدة، فإن أولى التحولات هي المتعلق بالأطراف المتدخلة في الصراع. فلأول مرة لا ترد إيران على إسرائيل عبر وكلائها، بل تتوجه للرد بنفسها، وهذا يعني أن ساحة المعركة اليوم يممكن أن تصبح بلا وسطاء ولا حواجز بين الطرفين. وهو ما يرفع من خطورة الصدام وتداعياته على كل من إيران وإسرائيل وعلى الإقليم بشكلٍ عام.
ثانياً، طبيعة المواقع المستهدفة، إن العملية العسكرية فرضت تحولاً في جغرافيا المعركة، فكما أن إسرائيل لأول مرة تستهدف منشأة رسمية دبلوماسية إيرانية، فإن إيران لأول مرة تدخل في اشتباك مباشر مع إسرائيل من خلال استهداف الأراضي المحتلة وليس باستهداف مصالحها فقط أو خطوط تجارتها مثلما فعلت باحتجاز سفينة في ذات اليوم وقبل الضربة الصاروخية.
ثالثاً، وهو ما يتعلق بالكثافة النارية، حيث إن ما قامت به إيران من إطلاق ما يقرب من 300 قطعة حربية نحو إسرائيل لا يمكن اعتباره ضربة صغيرة، وفي حين أن إيران تعبر عنها بوصفها ضربة محدودة فإن هذا متعلق غالباً بمستوى التكنولوجيا الحربية وطبيعة الاستهداف لا حجمه. فلم توجه إيران ضربة صاروخية واحدة قوية مثلاً، بل حرصت على توزيع الضربات ابتداءً من الجليل الأعلى وحتى إيلات -أم الرشراش- جنوباً محاولةً إيصال رسالة بالقدرة على الوصول إلأى كامل الجغرافيا المحتلة، وبكثافة نارية عالية.
أخيراً، إن أهم ما تفرضه إيران بهذه الضربة العسكرية هو الندية في الاستهداف. حيث إن استهداف أراضي وممثليات إيرانية لا يمكن أن يمر إلا باستهداف مقابل. ويبقى السؤال الأهم هنا، هل ولّى عصر الاحتفاظ بحق الرد، وهل سترد إيران على أي استهداف لمصالحها؟ وهل تتمكن إيران من تحمل تبعات مثل هذا التغير؟ أم أن إيران ستحتفظ بهذا التغير على مستوى الاستهدافات المتعلقة بالممثليات والأراضي الإيرانية؟
في الغالب، ستحاول إيران الاستفادة من توسيع فوائد تغير قواعد الاشتباك لمنع أي استهداف لمصالحها في المنطقة، إلا أن هذا لا يمكن الجزم بمدى فاعليته والقدرة على تحقيقه. حيث إن إيران إن ردت، فإنها على الأقل لن ترد بذات الكثافة في حال عودة إسرائيل إلى نمطها السابق بالاستهداف للمواقع العسكرية والأفراد، بينما وفي الغالب ستحافظ على ما حققته من إنجاز في تغير قواعد الاشتباك فيما يتعلق باستهداف ما هو سيادي. حيث لا يملك أي من الطرفين للمخاطرة بإشعال حرب إقليمية مع أي نوع من أنواع الاستهدافات.
من الواضح أن إيران لم تحاول في هذه المعركة أن تحقق أهدافاً عسكرية على الأرض، بقدر ما أنها حاولت قدر المستطاع أو توصل مجموعة من الرسائل وتحقق منجزات على صعيد تغير قواعد المعركة. ويظهر هذا جلياً في طبيعة الأسلحة التي استخدمتها إيران، فكل من طائرات شاهد 136 وصواريخ فجر 4 وهي أسلحة ليست الأكثر تطوراً في قائمة الصواريخ والمسيرات الإيرانية؛ ما يعرض رغبة في تسيير الضربة أكثر من تحقيق خسائر على الأرض.
إضافةً إلى هذا من الواضح أن إٍيران لم تحرص على المحافظة على عنصر المفاجأة، وأطلقت عمليتها في الوقت المتوقع الذي أشارت إليه الولايات المتحدة، وحرصت على توزيع الكثافة النارية على كامل الخارطة الفلسطينية بدلاً من التركيز على موقع واحد، لتثبيت رسالة القدرة على الوصول، بدلاً من تحقيق دمار واسع. كل هذا يشير إلى حرص على منجزات سياسية ومعنوية بدلاً من العسكرية.
يضاف إلى هذا أن إيران ومن خلال حراكها الدبلوماسي الساعي إلى ضبط توسع المعركة، واستخدامها ممثلها في الأمم المتحدة والتواصل مع السفراء الأجانب لديها؛ تحرص على إيصال صورة مغايرة عن التي تعرضها الولايات المتحدة وإسرائيل أو التي ترسخت نتيجة أعمالها في المنطقة، وعرض نفسها كعنصر متعقّل لم يتطرف في رده، ويرد أفعاله إلى المواثيق الأممية، ويعبر عنها بلغة الدفاع عن النفس، والسيادة، وحفظ الأمن والاستقرار، وهي ذات المفاهيم التي تستخدمها الولايات المتحدة في الصد عن إسرائيل والدفاع عنها.
أخيراً لا يمكن الجزم بأن إيران تمكنت من تثبيت ما غيرته من قواعد الاشتباك، أو ما إذا كانت إسرائيل ستلتزم بها، وخصوصاً مع كون إسرائيل تعتمد على مقاربة أمنية في حماية نفسها، وتحافظ على معادلة ردع في محيط ملتهب حولها، فإنه لا يمكن الجزم بعدم توجهها للرد، ويبقى هذا خياراً حاضراً يمكن أن يبقى في حدود ردود مختزلة وضيقة ويمكن أن يذهب لمفاقمة الوضع والاستفادة من فوضى ذات اتساع أكبر.