تقع سوريا عند تقاطع طرق بين دول أقوى منها، وهي تشكل نقطة ارتكاز لمنطقة مضطربة. وما يحدث في هذا البلد له انعكاسات كبيرة على مصالح الأمن القومي لكل من تركيا وإسرائيل. تحتاج تركيا إلى أن يرسّخ النظام السوري الجديد نفسه، بينما ترى إسرائيل في هذا النظام تهديدًا، كونه تقوده أكبر جماعة إسلامية في البلاد. أما الولايات المتحدة، فستجد صعوبة في إدارة علاقتين مع حليفين لهما رؤى مختلفة تمامًا تجاه سوريا.
في 23 يوليو، وافقت وزارة الدفاع التركية على طلبات سورية لتقديم دعم عسكري بعد أن استهدفت غارات جوية إسرائيلية الحكومة السورية وميليشيات إسلامية تابعة لها، كانت قد هاجمت مجتمعات الأقلية الدرزية في محافظة السويداء جنوب سوريا. جاء ذلك بعد يوم من تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان – في إشارة غير مباشرة إلى إسرائيل – بأن بلاده ستتدخل مباشرة ضد أي محاولة لتفتيت سوريا أو إفشال محاولات المجموعات الساعية للحكم الذاتي فيها. وفي سياق آخر، نُقل عن مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سوريا، وسفير الولايات المتحدة لدى تركيا، توم باراك، في تقرير لوكالة أسوشيتد برس بتاريخ 21 يوليو، قوله: “الدول القومية القوية تمثل تهديدًا – وخصوصًا الدول العربية تُعد تهديدًا في نظر إسرائيل”. وكان تقرير آخر لموقع “أكسيوس” في 20 يوليو قد نقل عن عدد من مسؤولي البيت الأبيض – لم يُذكر اسمهم – أنهم يشعرون بإحباط شديد من قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالقيام بعمل عسكري في سوريا.
لقد أسفرت نجاحات إسرائيل في تقليص نفوذ إيران في بلاد الشام عن نتيجة غير مقصودة. فقد ملأت جماعة “هيئة تحرير الشام” السلفية السنية الفراغ الاستراتيجي في سوريا، وهي العمود الفقري للحكومة المؤقتة برئاسة الرئيس أحمد الشرع. وببساطة، فإن إضعاف إيران ووكلائها الشيعة المتطرفين يفضي إلى تقوية الجهادية السنية، والعكس صحيح. ولا يبدو أن لإسرائيل مخرجًا قريبًا من هذه الدورة.
ولهذا السبب، أنشأ جيش الدفاع الإسرائيلي منطقة عازلة تبلغ مساحتها 91 ميلًا مربعًا (أي 236 كيلومترًا مربعًا) خارج هضبة الجولان في محافظة القنيطرة جنوب سوريا. والهدف المعلن من هذه المنطقة – الممتدة من جبل الشيخ على حدود لبنان وسوريا إلى وادي نهر اليرموك على حدود الأردن مع سوريا وإسرائيل – هو حماية شمال إسرائيل من الفصائل الإسلامية المتحالفة مع حكومة الشرع. وقد صرح النظام الجديد التابع لهيئة تحرير الشام بأنه لا يسعى إلى صراع مع إسرائيل، وتشارك البلدان حاليًا في محادثات بوساطة الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة، كما تسهّل أذربيجان بعض جوانب هذه المحادثات. ومع ذلك، لا تزال نوايا الحكومة الجديدة وقدراتها غير واضحة بالنسبة لإسرائيل.
ومن خلال روابطها مع بعض فصائل الطائفة الدرزية السورية، تحتفظ إسرائيل بعلاقات وثيقة مع جماعات درزية تعارض محاولات الحكومة الجديدة ترسيخ نفوذها في السويداء. ولهذا تدخلت إسرائيل عندما اندلعت الاشتباكات بين الميليشيات الإسلامية والقبائل العربية المتحالفة مع حكومة الشرع من جهة، والفصائل الدرزية الانفصالية من جهة أخرى. ونفذت القوات الإسرائيلية ضربات جوية استهدفت مقاتلين إسلاميين وبدوًا، وقوات سورية كانت في طريقها إلى السويداء، بالإضافة إلى مقر القيادة العسكرية للحكومة في دمشق. وقد أدى هذا التدخل إلى خلق توتر بين إسرائيل وتركيا، الداعم الرئيسي للحكومة السورية.
وعلى الرغم من تدهور العلاقات بين أنقرة وتل أبيب منذ حرب غزة عام 2008-2009 والقضية الفلسطينية عمومًا، لم يكن هناك خطر فعلي لنشوب صراع مباشر بينهما. فقد كان نفوذ إيران في بلاد الشام حائلًا دون توغل تركي كبير في سوريا، وأبقت أنقرة على وجود عسكري محدود في الشمال، بهدف احتواء الانفصالية الكردية على جانبي الحدود. وكانت أولوية إسرائيل هي مواجهة تهديد إيران ووكلائها. واستمر ذلك حتى خريف العام الماضي. حينها، وفّرت عملية تدمير إسرائيل لقيادة حزب الله وتعطيل قدراته الهجومية فرصة تاريخية لتركيا وحلفائها السوريين لإسقاط نظام الأسد.
تسعى تركيا إلى أن يرسّخ النظام السوري الجديد سلطته – وهي عملية ستستغرق سنوات طويلة ما لم تحدث اضطرابات كبرى. وتحتاج أنقرة إلى حكومة صديقة في دمشق تبسط نفوذها على كامل الأراضي السورية، لا سيما في الشمال الشرقي، حيث يحكم الأكراد السوريون – بقيادة قوات سوريا الديمقراطية – أنفسهم منذ عام 2012. وتُعدّ هذه القوات رأس الحربة في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، ما منحها شرعية إضافية وقوة متزايدة، وهو ما زاد من حدة التهديد في نظر أنقرة. لذا، تود تركيا دمج قوات سوريا الديمقراطية والحركة الكردية الأوسع ضمن الدولة السورية الجديدة.
لكن الاشتباكات مع الدروز – وقبلها مع العلويين في شمال غرب سوريا – تُقوّض هذا الهدف. ومن وجهة نظر تركيا، فإن دعم إسرائيل للفصائل الدرزية يخلق سابقة خطيرة قد تُحفّز جماعات أخرى على انتهاج مسار مماثل. ورغم أن الدروز يشكلون نحو 3% من سكان سوريا، فإن فصائل قليلة منهم فقط متحالفة مع إسرائيل. لكن قلق أنقرة الأكبر يتمثل في احتمال أن تقدم إسرائيل دعمًا مستقبليًا للأكراد، الذين يشكلون ما يقرب من 10% من السكان، ويمثلون تحديًا عسكريًا أكبر بكثير لدمشق.
وبالتالي، وعلى الرغم من أن تركيا وإسرائيل لا تسعيان إلى صراع مباشر، فإن دوافع كل منهما تسير في اتجاه مغاير. ومنذ أبريل، عُقدت ثلاث جولات من محادثات “فض الاشتباك” بين الجانبين في العاصمة الأذربيجانية باكو، الحليف المقرب من الطرفين. غير أن هذه المناقشات لم تتناول بعدُ الخلافات الاستراتيجية الجوهرية بين تركيا وإسرائيل. وما يزيد الأمور تعقيدًا بالنسبة لتل أبيب هو أن واشنطن – ناهيك عن قوى عربية كالسعودية والإمارات – تريد أيضًا نجاح حكومة الشرع.
تُعدّ تركيا والسعودية الركيزتين الأساسيتين لاستراتيجية إدارة العالم العربي في إدارة ترامب. وتتمثل الخطوة الأولى في هذه الاستراتيجية في توجيه سوريا بعيدًا عن الحرب نحو التنمية الاقتصادية. وقد بدا ذلك واضحًا خلال لقاء ترامب بالرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض، بحضور الحاكم الفعلي للمملكة، ولي العهد محمد بن سلمان، ومشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان افتراضيًا. ومن وجهة نظر الولايات المتحدة، فإن إشراك إسرائيل في هذا الترتيب سيكون أمرًا بالغ الأهمية لتفادي انزلاق سوريا إلى حرب أهلية جديدة على غرار ما حدث في ليبيا واليمن. فمثل هذا السيناريو ستكون له تبعات أمنية كارثية على كامل المنطقة.