تصعيد حزب الله وإسرائيل: من الرغبة بالانتقام إلى الخوف من الحرب

بواسطة
أمد للدراسات
تاريخ النشر
10/02/2024
شارك المقالة

في نهاية شهر يوليو/تموز، نفذت إسرائيل عملية اغتيال لفؤاد شكر، أحد القادة الرئيسيين لحزب الله اللبناني، في الضاحية الجنوبية لبيروت. وفي أعقاب هذه الحادثة، تعهد حزب الله بالرد لكنه أكد أنه سيختار توقيت رده مع الاحتفاظ بجبهة اسناده لغزة في جنوب لبنان.

وفي صباح يوم الأحد 25 أغسطس/آب، أعلن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أن الحزب شن عملية كبرى رداً على اغتيال شكر. وفي خطاب متلفز، كشف نصر الله أن حزب الله استهدف قاعدة غليلوت للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، إلى جانب العديد من المواقع الاستراتيجية الأخرى، باستخدام 340 صاروخ كاتيوشا وعدد من المسيرّات الانتحارية. تزامنت هذه العملية، التي أطلق عليها اسم “عملية الأربعين”، مع أربعين الحسين واستهدفت على وجه التحديد الوحدة 8200 الموجودة داخل قاعدة غليلوت، الواقعة على بعد 1500 متر فقط من مشارف تل أبيب، وهو هدف بالغ الأهمية. بالإضافة إلى ذلك، استهدفت العملية مواقع عسكرية وثكنات مختلفة في الجليل والجولان.

وأوضح نصر الله أن وابل الصواريخ كان مصممًا لإرباك نظام الدفاع الإسرائيلي “القبة الحديدية”، مما يسمح للطائرات بدون طيار بالوصول إلى أهدافها. ووفقًا لمعلومات استخباراتية لحزب الله، فقد ضربت عدة طائرات بدون طيار بنجاح مواقعها المقصودة، على الرغم من أن نصر الله زعم أن إسرائيل كانت تخفي المدى الكامل للضرر.

كما دحض نصر الله مزاعم إسرائيل بشأن الضربات الاستباقية التي من المفترض أنها أحبطت خطط حزب الله، مؤكدًا أن الغارات الجوية الإسرائيلية ضربت “الوديان الفارغة” فقط.

على العكس من ذلك، أبلغت إسرائيل عن سلسلة من الغارات الجوية الاستباقية في لبنان، زاعمة أن هذه الإجراءات كانت تستند إلى معلومات استخباراتية تفيد بأن حزب الله كان يستعد لهجوم كبير على إسرائيل. كانت هذه الضربات جزءًا من استراتيجية إسرائيل الأوسع لتحييد تهديد حزب الله، وخاصة بعد مقتل فؤاد شكر. وبحسب الرواية الإسرائيلية فقد استخدم الجيش الإسرائيلي أكثر من 100 طائرة مقاتلة، مستهدفًا منصات إطلاق الصواريخ والمنشآت العسكرية لحزب الله في جميع أنحاء جنوب لبنان.

فن تجنب الحرب: الحسابات الاستراتيجية لحزب الله وإسرائيل

إن الروايات التي نسجتها إسرائيل وحزب الله عن “النصر المتصور” تكشف عن اعتراف متبادل بأن التصعيد إلى حرب مفتوحة ليس في مصلحتهما. فقد أكد كل جانب أن العمليات الأخيرة، في شكلها الحالي، كافية، مما يشير إلى نية واضحة لتجنب المزيد من الصراع.

إن تأكيد نصر الله على تجنب وقوع إصابات بين المدنيين وإعلانه أن رد حزب الله كان مدروساً وكاملاً يعكس تحولاً استراتيجياً. فحزب الله لا يتجنب الحرب الشاملة فحسب؛ بل إنه يقيّم الموقف ببراغماتية اللاعب شبه الحكومي. ويتناقض هذا النهج بشكل حاد مع موقفه في حرب 2006، مما يسلط الضوء على اعتبار أكثر حساباً للديناميكيات الداخلية في لبنان وقدرته العسكرية على التحمل. وتأخذ استراتيجية حزب الله الآن في الاعتبار إحجام الفرقاء وعدم رغبة الأحزاب السياسية اللبنانية الأخرى بالانخراط في حرب مع إسرائيل، فضلاً عن التقييم الواقعي لقدراته على تحمل صراع طويل الأمد.

ومع ذلك، فإن العملية الأخيرة ضد إسرائيل، على الرغم من أنها ليست إعلاناً لحرب مفتوحة، تشكل عرضاً هائلاً لقدرات حزب الله. لقد أرسلت العملية رسالة مهمة لا يمكن تجاهلها مفادها أن حزب الله ليس مستعدا فقط، بل إنه قادر على الانخراط في صراع أوسع إذا لزم الأمر. وقد تجلى هذا من خلال هجومه المنسق على أهداف عسكرية واستخباراتية إسرائيلية، وضرب عميقا داخل أراضي إسرائيل – ما يصل إلى 100 كيلومتر من الحدود اللبنانية – حتى في مواجهة الضربات الاستباقية.

تستغل استراتيجية حزب الله نقاط الضعف الجغرافية لإسرائيل، مدركة أن العمق الجغرافي الاستراتيجي المحدود لإسرائيل يجعلها عرضة للقوة النارية المركزة. يسمح هذا الفهم لحزب الله بالتخطيط لضربات منسقة باستخدام الصواريخ والطائرات بدون طيار، مع إمكانية فتح مسارات للقوات البرية للتقدم إلى شمال إسرائيل في حالة نشوب صراع واسع النطاق.

ومع ذلك، تظل إسرائيل خصما هائلا وماكرا. إنها تختبر باستمرار حدود صبر خصومها، وتسعى إلى إيجاد طرق لتقويض دفاعاتهم أو تجاوزها. قد تتراجع إسرائيل عندما تقابل بمقاومة حازمة، لكنها لا تلين في متابعة استراتيجيات بديلة لتحقيق أهدافها.

كسر خط الدفاعات الإسرائيلية: الوجه الجديد للحرب غير المتكافئة

إن التكتيك الأخير المتمثل في إطلاق الصواريخ متبوعًا بطائرات بدون طيار انتحارية يمثل انحرافًا كبيرًا عن الأساليب التقليدية التي يستخدمها ما يسمى محور المقاومة، والذي يفتقر عادةً إلى قوة جوية أو طائرات حربية متقدمة. تنحرف هذه الاستراتيجية عن العمليات السابقة، مثل “الوعد الصادق” الإيرانية، حيث استخدمت طهران أولاً طائرات بدون طيار استغرقت ساعات للوصول إلى أهدافها قبل إطلاق الصواريخ الباليستية والصواريخ لتحدي الدفاعات الجوية الإسرائيلية.

إن قرار حزب الله بالضرب بصواريخ كاتيوشا بدائية أولاً متبوعة بضربات بطائرات بدون طيار يوضح طريقة تكتيكية مرحلية، باستخدام نقاط القوة والقيود في ترسانته لتحقيق أقصى قدر من التأثير. من خلال البدء بوابل من الصواريخ، حاول أن يخلق حالة من الفوضى، ويلهي دفاعات الجيش الإسرائيلي ويجبرها على التركيز على اعتراض التهديد المباشر. تعمل هذه الصواريخ، على الرغم من بساطتها ورخصها، كتحويل فعال، وتشبع الدفاعات الجوية وتزرع الارتباك والخوف بين قوات العدو.

ومع ترنح العدو من وابل الصواريخ الأولي، أطلق حزب الله طائراته بدون طيار بشكل استراتيجي، والتي يتم تخصيصها لضربات دقيقة على أهداف عالية القيمة. إن توقيت هذه الضربات بالطائرات بدون طيار أمر بالغ الأهمية، لأنها تستغل الثغرات التي كشفتها الهجمات الصاروخية السابقة. ويعكس هذا النهج درساً في تحسين الموارد: ففي حين أن الصواريخ وفيرة وسهلة الإطلاق، فإن الطائرات بدون طيار، كونها أكثر تطوراً ومحدودة العدد، يتم الاحتفاظ بها للحظات حيث يمكن تعظيم دقتها والأضرار التي من الممكن ان تلحقها بضفوف إسرائيل.

إن استراتيجية حزب الله تجسد الحرب غير المتكافئة، حيث تستخدم قوة أصغر، وتكتيكات غير تقليدية لمواجهة خصم أكثر قوة. ولا تلحق الصواريخ الضرر فحسب، بل تكشف أيضاً عن استراتيجيات العدو الدفاعية، مما يسمح للطائرات بدون طيار بضرب مواقع ضعيفة حديثاً بدقة مميتة. هذا الخداع الاستراتيجي هو المفتاح فمن خلال التركيز في البداية على الهجمات الصاروخية، قد يخلق حزب الله الوهم بأن هذه هي أسلحته الأساسية، ويخفي وجود وقدرات أسطوله من الطائرات بدون طيار حتى اللحظة الأكثر ملاءمة.

من جهة أخرى، إذا تصاعد الصراع إلى حرب واسعة النطاق، فمن المرجح أن يتبنى حزب الله تكتيك إيران المتمثل في اشباع أنظمة الدفاع الجوي بموجات من الطائرات بدون طيار قبل إطلاق مخزونه من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز التي يخزنها لمثل هذه المواجهات. لقد أثبتت التجربة الإيرانية فعالية مثل هذا النهج، مع إمكانية اختراق حتى الدفاعات المتقدمة لإسرائيل وحلفائها. ونظراً للمساحة الجغرافية الصغيرة لإسرائيل، فإن حزب الله قد يستغل هذا الضعف لإلحاق أقصى قدر من الضرر.

نتائج الهجمات وسيناريوهات المواجهة المستقبلية

1) إن الأحداث الجارية في الشرق الأوسط أشبه بالمشي على حافة السكين، حيث تهدد كل خطوة بإغراق المنطقة في الفوضى. ورغم أن الولايات المتحدة تلعب دوراً محورياً، فإنها تتجنب بعناية التدخل المباشر، حيث كشفت عن أنها قدمت دعماً حاسماً للجيش الإسرائيلي، وساعدته في مراقبة وتتبع إطلاق حزب الله للصواريخ من لبنان في وقت مبكر من صباح الأحد. ومع ذلك، جاءت هذه المساعدة دون التدخل بشكل مباشر، مما يشير إلى رغبة أمريكية في تجنب الحرب المفتوحة.

2) لقد كشفت عملية حزب الله للانتقام لقائده فؤاد شكر عن عيوب خطيرة في القرار الاستراتيجي لما يسمى “محور المقاومة”. ويكشف هذا الارتباك عن فهم عميق بين هذه المجموعات: فالاستجابة الموحدة الشاملة قد تشعل حرباً لا يمكن السيطرة عليها، وهو أمر لا يستعد أي منها لمواجهته. ولكن في الوقت نفسه، لا يستطيع أي عضو في هذا المحور، سواء كان إيران أو حزب الله أو الحوثيين أو الفصائل العراقية المختلفة، أن يتجاهل الرد بشكل مباشر على الخروقات الإسرائيلية ضدهم وذلك لإن أي تردد أو فشل في التحرك السريع قد يشجع إسرائيل لمزيد من الانتهاكات.

3) هذه المواجهات ليست مجرد مناوشات؛ بل هي لعبة شطرنج عالية المخاطر حيث يكون لكل خطوة ــ أو عدم وجودها ــ آثار عميقة. ويجد محور المقاومة نفسه يتصارع مع تحد خطير هو عدم القدرة على الرد السريع والاستراتيجي على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. حيث يشير مفهوم “قواعد الاشتباك”، الذي غالبا ما يُساء فهمه، إلى الالتزام ببروتوكولات معينة. ولكن إسرائيل أظهرت ميلاً إلى انتهاك هذه القواعد، ببطء ولكن بثبات، في سعيها إلى تطبيع مثل هذه العمليات حتى بعد انتهاء حرب غزة.

إن هذا التردد في الانخراط في حرب مفتوحة، وخاصة من جانب حزب الله وإيران، مدفوعاً بحسابات داخلية معقدة، ليس خافياً على إسرائيل. والواقع أن إسرائيل تقرأ الموقف بعين ثاقبة، وتلاحظ التأخير والاستراتيجيات الحذرة التي ينتهجها خصومها. وقد أدت هذه الملاحظة إلى استراتيجية جديدة جريئة وهي تطبيع الاغتيالات والضربات الاستباقية. وقد توصلت إسرائيل إلى الاعتقاد بأنها قادرة على تنفيذ هذه العمليات دون خوف يذكر من عواقب وخيمة، وهو اعتقاد متجذر في عقيدة عسكرية تعود إلى حرب الأيام الستة عام 1967. حيث شنت إسرائيل ضربة استباقية بالقوات الجوية المصرية، مما ضمن لها التفوق الجوي المبكر والحاسم.

والآن، نجد أن الضربة الجوية الاستباقية التي شنتها إسرائيل مؤخراً على جنوب لبنان تتجاهل بشكل صارخ قواعد الاشتباك الحالية التي أنشئت بعد معركة طوفان الأقصى. إن هذه الضربة الوقحة والمدروسة تتطلب رداً بحد ذاتها.

4) يتأرجح الشرق الأوسط على حافة الهاوية. إن الفشل في فرض وقف إطلاق النار، إلى جانب الجرائم الإسرائيلية المستمرة في غزة، يدفع المنطقة نحو كارثة محتملة. لم تكن المخاطر أعلى من أي وقت مضى، مع وجود لاعبين وتحالفات متعددة على استعداد لصراع يمكن أن يعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي بأكمله. وبينما يزن كل جانب خياراته، تحبس المنطقة أنفاسها، وهي تعلم أن الخطوة التالية قد تكون تلك التي تغرقها في حرب مدمرة وبعيدة المدى.

شارك المقالة

اشترك في نشرتنا الاخبارية