زادت حدة التوترات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط منذ تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي،عندما شنّ الحوثيون المتمركزون في اليمن هجمات بطائرات مسيرة وصواريخ على سفن تجارية (مرتبطة بإسرائيل) تعبر البحر الأحمر، في محاولة للضغط على إسرائيل لوقف عدوانها على قطاع غزة. وقد أدّت هذه الهجمات إلى تعطيلٍ في حركة التجارة البحرية العالمية، ممّا نتج عنه ارتفاع في تكاليف الشحن والتأمين، واختلالات في سلاسل التوريد، ومن ثم يؤثر على معدلات التضخم وأسعار السلع. وقد تأثّرت بهذه التطورات دولٌ من مختلف أنحاء العالم، من الشرق إلى الغرب، وليلقي كل ذلك بظلاله مرة أخرى للحديث عن عالم متعدد الأقطاب، في ظل تحول البحر الأحمر لساحة حرب وصراع دولي.
وتعتبر منطقة الشرق الأوسط من أهمّ مناطق الملاحة بالنسبة للتجارة العالمية، فهي تحوي ممرات مائية حيوية وهامة، مثل قناة السويس، ومضيق هرمز، ومضيق باب المندب، والتي تشكل كلا منها شريان رئيسي لنقل النفط من دول الخليج للعالم، والبضائع كذلك بين مختلف أنحاء العالم، لذا؛ فهي ركائزٌ أساسية للتجارة الدولية عبر البحر الأحمر.
هجمات الحوثيين في البحر الأحمر وتداعياتها
أشارت تقارير صادرة عن صندوق النقد الدولي إلى أن هجمات الحوثيين على السفن في منطقة البحر الأحمر أدَّت إلى انخفاض حركة المرور عبر قناة السويس بنحو 50%، وهي الممر البحري الأقصر بين آسيا وأوروبا، ويمر عبرها نحو 15% من حجم التجارة البحرية العالمية، إذ تسببت هجمات الحوثيين في مضيق باب المندب وما حوله، في إتلاف حوالي ثلاثين سفينة حتى أواخر مارس/آذار الماضي بحسب تقارير، وبالهجوم على ما يقرب من 84 سفينة حتى العاشر من أبريل/ نيسان الجاري.
وكنتيجة لذلك، قررت العديد من شركات الشحن تحويل مسارات سفنها نحو طريق رأس الرجاء الصالح عبر إفريقيا، ما تسبب في زيادة أوقات التسليم، وأضر بالشركات ذات المخزون المحدود، وعزز المخاوف بشأن مستقبل التجارة العالمية. الأمر الذي يشير إلى أن الحوثيين نجحوا في تحقيق جزء من أهدافهم المتمثل في فرض تكاليف باهظة على السفن الإسرائليلة ومن يؤيدها، إلا أن حربها العدوانية على قطاع غزة لا تزال مستمرة.
قناة السويس الخاسر الأكبر
وبما أن مضيق باب المندب بوابة رئيسية لعبور السفن من و إلى قناة السويس، وكنتيجة لتحويل مسارات السفن، انخفضت حركة سفن الشحن في البحر الأحمر بنسبة 55% خلال الربع الأول 2024، مقارنة بالربع ذاته من العام الماضي، حسب بيانات صندوق النقد الدولي. وعلى سبيل المثال، فإنه في 31 مارس/آذار الماضي، كشفت بيانات منصة بورت ووتش – التي تتتبع حركة السفن وناقلات الشحن عبر الممرات البحرية المهمة في العالم – أنه تم رصد مرور 10 ناقلات و21 سفينة شحن بقناة السويس، مقارنة بـ 26 ناقلة و38 سفينة شحن في اليوم ذاته من عام 2023.
وعلى صعيد متصل، أوضحت البيانات أن نحو 2900 سفينة قد حولت مسارها بعيداً عن قناة السويس منذ تصاعد الاضطرابات في منتصف ديسمبر/كانون الأول للعام 2023، أي ما يعادل نحو 2% من التجارة البحرية العالمية لعام 2023.
وقد بلغت آثار تلك الاضطرابات في حركة الملاحة بقناة السويس مداها، للحد الذي دفع مدبولي رئيس الوزراء المصري للتصريح بأن مصر تتحمل الضرر الأكبر، ما تسبب في تراجع إيرادات قناة السويس بما يتجاوز 50% من إيراداتها السنوية، وهو الذي يؤثر بلا شك بشكل مباشر على مصر من تدفقات العملة الاجنبية، مما يبرز التداعيات الاقتصادية الأوسع نطاقاً جراء هذا الصراع في المنطقة.
أزمة سلسلة توريد قاسية تلوح في الأفق
طريق طويل آمن خير من قصير آخر تحفه المخاطر جوا وبحرا!
كانت هذه هي القاعدة الحاكمة لقرار شركات الشحن البحري، فلتجنب قناة السويس واضطرابات البحر الأحمر، بدأت السفن في توجيه مسارها نحو رأس الرجاء الصالح، ذلك الطريق البحري العريق المهجور، والذي بُنيت قناة السويس في الأساس كبديل له لاختصار المسافة البحرية الطويلة بين أوروبا وآسيا.
وإن كان ما سبق مخيف، فربما القادم أخوف!
فإن كانت التجارة خلال الأشهر الماضية تضررت، فإن استمرار الهجمات في البحر الأحمر خلال شهري مارس وأبريل يثير مخاوف بشأن حدوث أزمة في سلسلة التوريد مثلما حدث في الفترة بين 2021 و2022 على إثر جائحة كورونا.
وظهر ذلك في تحليل مشترك لخبراء اقتصاديات النقل، جان فرانسوا أرفيس و كوردولا راستوجي داريا أولمبينا، على موقع البنك الدولي إذ قالا “إن مصدر الضغوط على سلسلة التوريد مختلف اليوم، ولكن النتيجة قد تكون متشابهة خاصة وأن هذين الشهرين يتميزان بانتعاش موسمي في التجارة العالمية”.
وعلاوة على ذلك فإن وقف شركات من عمالقة الشحن البحري، مثل ميرسك وهاباج لويد، لعملياتها عبر قناة السويس من شأنه خلق أزمة توريد بسبب طول المسافة التي تحتاج السفن لقطعها عبر رأس الرجاء الصالح. إذ أن هذا الطريق يضيف حوالي 3 آلاف إلى 3.5 ألف ميل بحري (5.5 ألف إلى 6.5 ألف كيلومتر)، وهو ما يزيد أوقات التسليم بما يتراوح بين سبعة إلى عشرة أيام إضافية في الرحلات بين أوروبا وآسيا، والذي بدوره يهدد بنقص الإمدادات وحدوث أزمة في سلسلة التوريد.
فرصة شركات الشحن البحري: من رحم الأزمات تولد الفرص
ونتيجة لما سبق فإن التكاليف الإضافية للرحلة في طريق رأس الرجاء الصالح – والتي تشمل ما يصل إلى مليون دولار أمريكي من الوقود لكل رحلة ذهاباً وإياباً – ستنعكس على ارتفاع أسعار الشحن، ما يمثل فرصة أمام شركات الشحن الكبرى.
وقد ارتفعت أسعار شحن الحاويات، مع ارتفاع مؤشر الحاويات العالمي بنحو 151% منذ أوائل أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وفقاً لوكالة فيتش للتصنيف الائتماني، كما زادت الأسعار على الطرق بين أوروبا وآسيا بنسبة 284%، وأكثر من المثلين على الممرات الرئيسية الأخرى بين الشرق والغرب.
وفي هذا الصدد، تبرز أحد أشهر القواعد الاستثمارية والتي تقول بأنن الأزمات هي بمثابة فرص متاحة لتحقيق الربح، وهو ما ظهر جليا في استغلال شركات الملاحة لهذه الأزمة، فعلى الرغم من ارتفاع التكاليف التي تكبدتها شركات الشحن لإعادة توجيه مساراتها بنحو 50%، إلا أنه وفقا لبيانات “فيتش” فإن الزيادات الأخيرة في أسعار الحاويات تجاوزت هذه النسبة، الذي قد يعزز ربحية شركات الشحن البحري ومؤجري السفن على المدى القريب.
وعلى صعيد متصل، فإن أزمة البحر الأحمر تحولت لفرصة أيضا لخطوط الشحن الصينية التي استغلته، حيث يرى محللون بحسب “فاينانشيال تايمز” أن هذه الخطوة هي محاولة لاستغلال (حصانة الصين المُتصوّرة) من هجمات الحوثي التي دفعت معظم المشغلين الآخرين إلى الخروج من المنطقة. ويأتي هذا التحرك بعد تخلّي معظم خطوط شحن الحاويات الكبيرة – بما في ذلك شركة “كوسكو” الصينية، المشغلة لرابع أكبر أسطول في الصناعة- عن جنوب البحر الأحمر بسبب المخاطر الأمنية.
لهيب البحر الأحمر يرشد لمسارات بديلة
تسلّط الأزمة التي یشھدھا البحر الأحمر، الضوء على الحاجة إلى مسارات نقل بديلة، والتي تضم طرق ومسارات مقترحة عبر شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام أو عبر العراق وتركيا، وإدخال ما قد يكون تغييراً دائماً في أنماط التجارة والنقل العالمية.
وتشمل المقترحات خطة لإنشاء ممر اقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، والذي أُعلن عنه خلال قمة مجموعة العشرين المنعقدة في نيودلهي في سبتمبر/أيلول الماضي، ووقع مذكرة التفاهم كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند والسعودية والإمارات من أجل المضى قدماً في المشروع. وهو الذي ضمّنه البعض ضمن تحليل أسباب انطلاق معركة طوفان الأقصى، إذ يرون بأنه لقيام هذا المشروع، يجب تصفية القضية الفلسطينية والتخلص من وجود المقاومة، وبالتالي جاء طوفان الأقصى كخطوة استباقية.
وفي مقابل ذلك هناك مشروع طريق التنمية في العراق ضمن الخطط المقترحة لإنشاء خطوط سكك حدیدیة تربط برلين بالبصرة، والذي أُعلن عنه رسمياً في مايو 2023، بتكلفة قدرها 17 ملیار دولار، على أن يتم استكمال المشروع بحلول عام 2029.
وقد فطن العديد من المحللين إلى حقيقة أن تلك المشروعات صارت مرهونة بمسار القضية الفلسطينية، وأنه لا يمكن إحراز أي تقدم في تلك المبادرات قبل التوصل إلى حل سياسي للحرب في قطاع غزة، باعتباره الأمر الرئيسي وراء الأزمة التي تشهدها الملاحة في البحر الأحمر.
وفي هذا الصدد، قال فنسنت كليرك، الرئيس التنفيذي لشركة ميرسك، لشبكة CNN “لسنا قريبين من حل أو وضع يمكننا أن نرى فيه أن المجتمع الدولي قادر على توفير ممر آمن، لذلك أعتقد أن هذا الوضع سيستمر معنا لبضعة أشهر”.
وتجدر الإشارة هنا إلى نقطة هامة، وهي أن دخول جماعة الحوثي على خط المواجهة ومساندة المقاومة الفلسطينية فرض معادلة جديدة في البحر الأحمر، بحيث لم تعد السيطرة في هذا الممر الملاحي الهام للأنظمة الرسمية المحيطة به فقط، بل صار للفاعلين الدوليين المطلين عليه كلمة مسموعة فيه، وهو ما ظهر جليا في تجييش أمريكا لعملية “حارس الازدهار” التي تمثلت في عمليات بحرية وجوية على الأراضي اليمنية والتي تضم دولا أوروبية وبعض الدول الآخرى.
وبالتالي فإنه حتى بعد أن ينتهي العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فستبقى هذه المعادلة الجديدة أحد العناصر الهامة في نظرة الولايات المتحدة والغرب لهذا الممر البحري وهو ما يرى بعض المحللون أنه قد يكون بوابة صراع عسكري جديد في هذه المنطقة.
درسا إستراتيجيا مستفادا
وعلى صعيد متصل يرى المحلل الأمريكي رامون ماركس، في تحليل لـ “مجلة ناشيونال إنترست” الأمريكية، بأنه على الرغم من قوة البحرية الأمريكية، لا يزال الحوثيون متماسكين، و يهاجمون بانتظام السفن التجارية في البحر الأحمر والحربية الأمريكية. إذ أطلق الحوثيون في مارس/آذار الماضي صاروخاً مضاداً للسفن على السفينة الحربية الأمريكية “يو إس إس لابون”، وهي من طراز “آرلي بيرك” والتي تكلف بناؤها حوالي مليار دولار.
وألمح بأنه ثمة درسا إستراتيجيا من أحداث كلا من البحر الأسود في صد البحرية الروسية من قبل أوكرانيا، و في البحر الأحمر من استهداف السفن من قبل الحوثي؛ هو أن إحصاء السفن الحربية ربما لم يعد الدليل الأفضل لتقييم قدرة أي دولة على غلق الممرات البحرية أوالسيطرة عليها. إذ يمكن للصواريخ والطائرات بدون طيار غير القابلة للغرق والمنطلقة من الشواطيء، والقادرة على ضرب أهداف على بعد مئات أو حتى آلاف الأميال في البحر، أن تمثل الآن تهديدًا كالسفن الحربية السطحية أو أكثر.
توقعات مستقرة للتجارة العالمية رغم التحديات
رغم التحديات التي تواجه التجارة العالمية بسبب الهجمات على سفن الشحن في البحر الأحمر والتورات الإقليمية، إلا أن وكالة ستاندرد آند بورز العالمية تتوقع نمو إجمالي التجارة العالمية بنسبة 2% لعام 2024، مقارنة بالعام السابق.
وقال كريس روجرز، رئيس أبحاث سلسلة التوريد لدى إس آند بي جلوبال ماركت إنتليجنس “لا نتوقع نمواً مطرداً ولا توجد في الواقع أي قطاعات نرى فيها نمواً قوياً أيضاً، لكن الأمر أشبه بالعودة إلى الوضع الطبيعي”.
كما أضاف روجرز “من منظور التجارة الإجمالية، يمكن وصف 2024 بأنه عام الاستقرار والنمو البطيء”، لكنه حذر من أن استمرار التوترات لبقية العام قد يكون سبباً إضافياً للشركات لتغيير مساراتها التجارية، قائلاً “كلما طال الأمد وبدت القضايا أكثر ديمومة، كلما زاد احتمال اتخاذ هذا القرار الاستراتيجي”.
وأخيرا، فإن تصاعد وتيرة الاضطرابات الجيوسياسية في المنطقة والبحر الأحمر، يؤثر بلا شك على التجارة الدولية، إذ تسببت هجمات الحوثي بالفعل في حدوث اضطرابات وارتفاع تكاليف الشحن لتجارة السلع التي تعتمد على الشحن عبر البحر الأحمر. ليس هذا فحسب، فمن الممكن لهذه الاضطرابات أن تشتد حدتها أكثر فأكثر، وتمتد إلى مضيق هرمز، وهوا ما حدث بإعلان إيران الاستيلاء على سفينة مملوكة جزئيا لرجل أعمال إسرائيلي، في أبريل/ نيسان الجاري، والذي قد يرفع أسعار النفط أيضا، لذا فإن ذلك كله من شأنه أن يرفع الضغوط التضخمية ويؤثر سلباً على النشاط الاقتصادي.