تستعرض هذه الورقة البحثية الموقف الإيراني من عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، وتأثير هذا على العلاقات الإيرانية الأميركية، خاصة في ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة. وتستكشف الورقة كيف يمكن أن تضع عودة ترامب، المعروف بسياسة “الضغط الأقصى”، تحديات جديدة أمام إيران، مع احتمال فرض عقوبات مشددة تستهدف بشكل خاص قطاع النفط الإيراني. كما تناقش إمكانية استمرار إيران في استراتيجية “لا حرب ولا تفاوض” التي تبنتها خلال فترة ترامب السابقة، وذلك في ضوء التحولات السياسية والأمنية، بما في ذلك الصراع المباشر مع إسرائيل وإمكانية تشكيل تحالف مع ترامب لضرب المفاعلات النووية الإيرانية وتأثير كل ذلك على موقف إيران الإقليمي. وتسلط الورقة الضوء على الانقسام داخل الصف الإيراني بين التقليديين، الذين يؤيدون عدم التفاوض لحين انقضاء أربع سنوات قادمة من حكم ترامب، والبراغماتيين، الذين يفضلون مساراً تفاوضياً يمكن أن يجلب مكاسب اقتصادية، والمتطرفين الذين يدعون إلى تصعيد الردع النووي.
وتخلص الورقة إلى أن الخيارات الإيرانية في مواجهة عودة ترامب ستكون محفوفة بالمخاطر، إذ تواجه إيران معضلة بين استراتيجيات مقاومة الضغط الأميركي وبين السعي للتفاوض لتحقيق الاستقرار. كما تشير الورقة إلى أن التركيز على الردع النووي كحلٍّ للأزمات الأمنية الإيرانية المتصاعدة قد يكون غير فعّال ويزيد من عزلة إيران الدولية، لا سيما مع احتمالية تصعيد إسرائيلي قوي ضدها. في الوقت نفسه، قد يدفع الدعم الأميركي لإسرائيل إيران إلى تبني مواقف أكثر تحالفاً مع القوى البديلة، مما يعقّد الجهود الدبلوماسية المستقبلية.
مقدمة
لقد شهدت السنوات الأربع الماضية تحولات كبيرة في مشهد العلاقات الإيرانية الأميركية، تحت تأثير سلسلة من الأحداث المحورية. ومع خروج دونالد ترامب من منصبه في 2020، تكشفت موجة من التطورات الجيوسياسية وإعادة المعايرة الاستراتيجية، مما أعاد تشكيل الديناميكيات الإقليمية التي تؤثر على كل من الولايات المتحدة وإيران. وتبرز بعض الأحداث باعتبارها ذات أهمية خاصة مثل عملية طوفان الأقصى وأثارها على الشرق الأوسط والعالم، وتصعيد العمليات العسكرية الإسرائيلية عبر جبهات متعددة، وسلسلة من الاغتيالات البارزة التي استهدفت أعضاء حزب الله، الحليف الهائل لإيران. تشير هذه الإجراءات إلى تحول في موقف إسرائيل الأمني، مما يؤثر بشكل مباشر على إيران ويضيف طبقات جديدة من التعقيد إلى علاقة متوترة بالفعل.
كما خضعت العلاقة بين إيران وأوروبا لتغيير كبير. لقد ألقت مخاوف أوروبا بشأن دعم إيران المزعوم لقدرات الصواريخ الروسية بظلالها على العلاقات الدبلوماسية، مما أدى إلى تفاقم التوترات وتقليص احتمالات التعاون. إن ما يزيد من حدة هذه التوترات هو اقتراب انتهاء صلاحية خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) وانهيار المفاوضات النووية، التي كانت بمثابة آلية استقرار في العلاقات الدولية لإيران. ومع وصول هذه المفاوضات الآن إلى طريق مسدود، يستعد الجانبان الأمريكي والإيراني لفترة من التوتر المتزايد والمواقف الاستراتيجية.
ولعل التطور الأكثر أهمية كان المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران، حيث استهدفت كل من الطرفين أراضي الأخر بطرق غير مسبوقة. وقد أدى كسر الحواجز القائمة منذ فترة طويلة أمام المواجهة المباشرة إلى إدخال عنصر متقلب من المرجح أن يؤثر على سياسات ترامب تجاه إيران في المستقبل. وتشير مثل هذه المشاركات المباشرة، إلى جانب المناورات الإقليمية الإسرائيلية، إلى مرحلة جديدة في الجغرافيا السياسية الإقليمية حيث قد لا يكون معادلات الردع التقليدية سارية بعد الآن.
وفي خضم هذا المشهد المتطور، لا يزال هناك عدم القدرة على التنبؤ العميق فيما يتعلق بسياسات إدارة ترامب الجديدة تجاه إيران. إن عودة ترامب إلى منصبه، والذي اشتهر بنهجه غير التقليدي في التعامل مع السياسة الخارجية، قد تضيف طبقة إضافية من عدم اليقين، حيث قد ينحرف نهج إدارته تجاه إيران بشكل كبير عن المعايير الراسخة. وكما هو الوضع الآن، فإن اليقين الوحيد في هذه الشبكة المعقدة من العلاقات، هو عدم اليقين المحيط بالمسار المستقبلي للسياسة الأمريكية تحت قيادة ترامب المحتملة.
علينا ألا ننسى بأنّه من الممكن جداً أن تسعى إدارة بايدن الحالية إلى استغلال فرصة الصراع الإسرائيلي الإيراني وتتدخل في الحرب بشكل مباشر عبر استهداف الأراضي الإيرانية وذلك بهدف ترك حمل ثقيل لإدارة ترامب القادمة.
الموقف الإيراني المعلن من عودة ترامب
إن موقف إيران تجاه الانتخابات الأمريكية الأخيرة يسلط الضوء على التفاعل المعقد بين التفضيلات الاستراتيجية والالتزامات الإيديولوجية، وخاصة في ردها على الإدارة الأمريكية المتغيرة. عند مراقبة الانتخابات، أشارت بعض العلامات في البداية إلى أن إيران ربما كانت تأمل في فوز ديمقراطي بقيادة كامالا هاريس. نشأ هذا التفضيل من مسار تفاوضي أسهل تاريخيًا مع الديمقراطيين، على الرغم من الانتقادات التي وجهتها إيران لإدارة بايدن، بما في ذلك دعم الديمقراطيين لإسرائيل في الإبادة الجماعية ضد غزة والاعتداءات على لبنان. ومع ذلك، في أعقاب فوز ترامب غير المتوقع، قلل المسؤولون الإيرانيون علنًا من أهمية القيادة الأمريكية لمسار السياسة الخارجية الإيرانية، حيث أكدت شخصيات رئيسية إيرانية أن الحزبين الجمهوري والديمقراطي يشتركان في موقف عدائي تجاه إيران. وقد تردد صدى هذا السرد بقوة من قبل شخصيات مثل قائد الحرس الثوري حسين سلامي والمتحدثة باسم الحكومة الإيرانية فاطمة مهاجراني.
ولكن وراء هذه التصريحات الحازمة تكمن نغمة دبلوماسية خفية تشير إلى اهتمام إيران باستقرار العلاقات مع إدارة ترامب القادمة. وتكشف التصريحات الصادرة عن وزارة الخارجية الإيرانية عن نهج دقيق يهدف إلى خفض التصعيد. حيث قال وزير الخارجية عباس عراقجي بأن إيران لا ترغب بامتلاك أسلحة نووية، ومؤكدا على الطبيعة المتبادلة لبناء الثقة بين طهران وواشنطن. كما رفض عراقجي بشدة الاتهامات الأميركية بشأن مؤامرة اغتيال مزعومة ضد دونالد ترامب، ووصفها بأنها افتراءات. وفي بيان دقيق مماثل، اقترح المتحدث باسم وزارة الخارجية إسماعيل بقائي أن الانتخابات الأميركية تمثل فرصة لإعادة تقييم نقدي للسياسات الأميركية السابقة، ملمحاً إلى انفتاح إيران على إعادة معايرة العلاقات إذا تم اتخاذ إيماءات متبادلة.
ولكن غاب عن هذه المبادرات الدبلوماسية أي تعليق من المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي فيما يتصل بعودة ترامب إلى السلطة، وهو الصمت الذي يؤكد التناقض الاستراتيجي الذي يلعب دوراً في نهج إيران. والتأمل في تصريحات خامنئي السابقة خلال ولاية ترامب الأولى يقدم لنا نظرة ثاقبة إلى التحفظات الإيرانية الدائمة. والجدير بالذكر أن خامنئي كان قد صرح في وقت سابق بأنه حتى لو تفاوضت إيران مع الولايات المتحدة، فإنها لن تفعل ذلك تحت قيادة ترامب. وقد تعزز هذا الموقف في عام 2019 عندما رفض خامنئي بشكل مباشر مبادرة دبلوماسية من ترامب قدمها رئيس الوزراء الياباني آنذاك شينزو آبي. وكان رفض خامنئي الصريح حتى لتلقي رسالة من ترامب سبباً في إغلاق جهود الوساطة اليابانية بشكل فعال، وأكد على تصور إيران لترامب باعتباره نظيراً غير جدير بالثقة.
وفي هذا السياق، يبدو موقف إيران مزيجاً من الانفتاح البراجماتي الذي يخففه انعدام الثقة العميق الجذور. في حين تشير إيران إلى اهتمامها بتخفيف حدة العداء مع واشنطن، فإنها تظل حذرة، وتتذكر الطبيعة المتقلبة لسياسات ترامب السابقة. ويوضح هذا النهج المزدوج ــ التحدي العلني الذي يخففه الدبلوماسية الحذرة ــ الاستراتيجية الإيرانية المدروسة بعناية، والتي تسعى إلى التنقل عبر المشهد المعقد وغير المتوقع في كثير من الأحيان للعلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، وخاصة في مواجهة التحدي المتجدد المتمثل في التعامل مع إدارة ترامب المألوفة ولكن غير المتوقعة.
هل تستمر معادلة لا حرب ولا تفاوض
في ولايته الرئاسية الأولى، اتسم نهج دونالد ترامب تجاه السياسات والعلاقات الرئيسية في الشرق الأوسط مع إيران بالتأخير المحسوب بدلاً من العمل الفوري الجذري. فقد امتنع في البداية عن الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، لمدة 18 شهرًا تقريبًا. وجاءت القرارات الكبرى مثل الأمر باغتيال الجنرال قاسم سليماني أو نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في وقت لاحق، بعد تحول تدريجي في فريق السياسة الخارجية لإدارته، ولا سيما مع وصول مايك بومبيو وجون بولتون، اللذين أثرا على موقف أكثر تشددًا له.
خلال هذه الفترة، عدلت طهران استراتيجيتها، حيث تبنى المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي مبدأ “لا حرب، لا مفاوضات”، مؤكداً على مقاومة إيران للصراع المباشر ورفضها إعادة التفاوض على الاتفاق النووي بشروط الولايات المتحدة. وعلى الرغم من التوترات المتزايدة، بما في ذلك اغتيال سليماني، وإسقاط طائرة أمريكية بدون طيار، والهجمات (غير معروفة المصدر) على البنية التحتية النفطية السعودية، لم يتحرك أي من الجانبين نحو حرب شاملة. لقد فشلت جهود الوساطة الخارجية في تحقيق أي إعادة تفاوض على الاتفاق النووي، مما أبقى المنطقة في حالة حساسة من المواجهة المنضبطة.
في السنوات الأخيرة، حدث تحول كبير في الديناميكية الإقليمية، مع انخراط إيران وإسرائيل في مواجهات مباشرة، والخروج من العمليات في المساحات الرمادية إلى الأعمال العدائية العلنية. استهدفت كلا الطرفين أراضي الأخر في عروض علنية للقوة، مثل عمليات الصواريخ الإيرانية “الوعد الصادق” ضد إسرائيل والغارات الجوية الإسرائيلية على الدفاعات الجوية الإيرانية. بالإضافة إلى ذلك، تم كسر عتبة جديدة في ميزان القوى، حيث سعت إسرائيل إلى حملات عسكرية متزامنة ضد حماس وحزب الله، والتي تميزت باغتيالات رفيعة المستوى لقادة حزب الله، مما يشير إلى نواياها للولايات المتحدة وإدارة ترامب العائدة.
إن تحليل خطاب ترامب بشأن إنهاء الحروب في الشرق الأوسط يدعو إلى تفسيرات متناقضة. قد يرى المتفائلون تصريحاته على أنها دعوة لوقف إطلاق النار الدائم على الجبهتين الفلسطينية واللبنانية، لكن يبدو من المرجح أن ترامب يتصور إنهاء هذه الصراعات من خلال تمكين إسرائيل. إن هذا من شأنه أن يسمح لنتنياهو بتكثيف تحركاته في غزة ولبنان، وتأمين الأهداف العسكرية قبل وقف الأعمال العدائية بشروط مواتية لإسرائيل.
وفي الوقت نفسه، تصلب موقف أوروبا تجاه إيران، وخاصة مع اقتراب انتهاء صلاحية الاتفاق النووي. وربما تستعد القوى الأوروبية لإعادة تنشيط “آلية الزناد” في الاتفاق النووي، والتي قد تعيد فرض العقوبات إذا ظلت المفاوضات النووية متوقفة. ومع عودة ترامب بأغلبية جمهورية في الكونجرس ومجلس الشيوخ، فقد يواجه أيضا فرصة تاريخية فريدة من نوعها. فقد يتحول نحو خفض التصعيد مع إيران، بهدف التوصل إلى اتفاق تاريخي قد يضعه في إطار “صفقة القرن الحقيقية”. وإذا مرت مثل هذه الصفقة عبر الكونجرس ومجلس الشيوخ، فقد تكتسب المتانة والدعم الحزبي الذي افتقرت إليه الاتفاقات السابقة، مما يخلق إطارا طويل الأجل للعلاقات بين الولايات المتحدة وإيران.
وقد تنظر طهران إلى هذا الاحتمال باعتباره مفيدا، وربما يوفر لها الاستقرار والحماية من التحولات السياسية الأميركية في المستقبل. ونظرا لهذه الديناميكيات المتكشفة، فإن السنوات المقبلة قد تشهد إما دورة متجددة من المواجهة أو تحولا غير مسبوق نحو المشاركة الدبلوماسية، حيث يعتمد توازن القوى في الشرق الأوسط على قرارات الجهات الفاعلة الرئيسية على الجانبين.
سياسة ترامب المقبلة: الضغط بالحد الأقصى
مع عودة “الضغوط القصوى” إلى جدول الأعمال، تستعد إدارة ترامب الثانية لتبني نهج متجدد ومكثف تجاه إيران، والذي يُقال إنه يتكيف مع المشهد الجيوسياسي المتغير في الشرق الأوسط اليوم. سعت هذه السياسة، التي تم تنفيذها في الأصل خلال فترة ولاية ترامب الأولى، إلى تقييد إيران اقتصاديًا وسياسيًا، وخلق إطار صارم مصمم للحد من نفوذ طهران الإقليمي. وفقًا للعديد من المسؤولين السابقين في إدارة ترامب والمطلعين على الحملة، فإن الضغط الأقصى يظل سمة أساسية لطموحات ترامب في السياسة الخارجية القادمة ضد إيران، مما يعد بفرض عقوبات متجددة وعزلة دبلوماسية على إيران.
وأشار مسؤول سابق في إدارة ترامب لصحيفة بوليتكو، إلى أن “تكثيف الضغوط الاقتصادية على إيران سيكون أولوية للسياسة الخارجية في اليوم الأول لتصحيح أخطاء بايدن في الشرق الأوسط”. ويؤكد هذا البيان على استراتيجية أوسع لمعالجة ما يعتبره حلفاء ترامب بيئة إقليمية مهملة في ظل إدارة بايدن، وهي بيئة تتسم بالتنازلات المفترضة لإيران والقيود الاقتصادية غير الكافية. يزعم حلفاء ترامب أن العودة إلى الضغط الأقصى أمر ضروري ليس فقط لإعادة ترسيخ النفوذ الأمريكي ولكن أيضًا للاستفادة من نقاط ضعف إيران في منطقة محددة بشكل أكثر انفتاحًا من خلال المواجهات الاستراتيجية، مثل الأعمال العدائية المفتوحة بين إيران وإسرائيل.
في انحراف ملحوظ عن التكهنات السابقة، أعلن ترامب مؤخرًا أن مايك بومبيو، وزير الخارجية السابق، ولا نيكي هالي، السفيرة الأمريكية السابقة لدى الأمم المتحدة، لن يخدما في إدارته الثانية، على الرغم من أدوارهما الأساسية في تشكيل سياسته الخارجية السابقة. تتعارض هذه الخطوة مع الافتراضات السابقة، حيث كان بومبيو يُعتبر على نطاق واسع المرشح الأوفر حظًا لمنصب وزير الدفاع. بدلاً من ذلك، يقود برايان هوك، الذي شغل منصب الممثل الخاص للولايات المتحدة لإيران وكان أحد مهندسي استراتيجية الضغط الأقصى الأولية لترامب، فريق انتقال وزارة الخارجية لترامب. يشير الدور البارز لهوك إلى استمرار محتمل لنهج متشدد تجاه طهران، وهو النهج الذي يعتقد أنه سيؤكد على التدابير الاقتصادية الصارمة والعزلة الدبلوماسية.
وأوضح هوك أن هدف ترامب ليس تغيير النظام في إيران بل إضعاف إيران اقتصاديًا وإجبارها على الجلوس على طاولة المفاوضات تحت الضغط. يعكس موقف ترامب نهجًا حساسًا للتكاليف في السياسة الخارجية، مع التركيز على العقوبات والنفوذ الاقتصادي على التدخل المباشر. وكما أوضح هوك، فإن هدف ترامب هو إبقاء إيران معزولة دبلوماسيًا وإضعافها اقتصاديًا، وتجنب العواقب الباهظة لسياسات تغيير النظام.
تأخذ الاستراتيجية أيضًا في الاعتبار تحول سياسات الطاقة العالمية. في عهد بايدن، امتنعت الولايات المتحدة عن تشديد العقوبات النفطية على إيران، ويرجع ذلك جزئيًا إلى المخاوف بشأن ارتفاع أسعار الطاقة، حيث سعت الإدارة إلى تقييد النفوذ الاقتصادي الروسي من خلال فرض عقوبات على النفط الروسي. ومع ذلك، فإن رغبة ترامب الواضحة في حل الصراع بين روسيا وأوكرانيا وعلاقته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتن تشير إلى أن الإدارة الجديدة قد تتحول من خلال استبدال صادرات النفط الإيرانية بإمدادات النفط الروسية. من شأن هذا النهج أن يمكن الولايات المتحدة من إعادة فرض قيود شديدة على النفط الإيراني، وعزل إيران اقتصاديًا وممارسة الضغط على مصدر إيراداتها الأساسي.
وعلى هذا فإن حجر الزاوية المحتمل لسياسة ترامب تجاه إيران سيكون نظام عقوبات مكثف يهدف إلى الضغط على طهران لحملها على التفاوض بدلا من محاولة الإطاحة بزعامتها السياسية. ويتماشى هذا الموقف الاستراتيجي مع نظرة ترامب للسياسة الخارجية البراغماتية التي تركز على الاقتصاد، والتي تقدر الضغوط المالية والعزلة الدبلوماسية على جهود تغيير النظام المباشرة التي يعتبرها باهظة التكلفة. وبينما يستعد حلفاء ترامب لتنفيذ إطار السياسة المعاد تنشيطه هذا، تواجه إيران احتمال تجدد العزلة والتحديات الاقتصادية والتدقيق الأمريكي المتزايد، مما قد يجبرها على إعادة النظر في نهجها في المفاوضات.
خيارات إيران في التعامل مع إدارة ترامب
إن النهج الاستراتيجي الذي تتبناه إيران تجاه الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب المستقبلية يكشف عن مشهد داخلي معقد، حيث يقترح كل من الفصائل الثلاثة الرئيسية مسارات مميزة. وتعكس رؤية كل مجموعة للعلاقات بين الولايات المتحدة وإيران اختلافات أيديولوجية أساسية وتقييمات متنوعة للموقف الجيوسياسي لإيران ومصالحها الوطنية.
المجموعة الأولى: التقليديون والحرس القديم
تتكون المجموعة الأولى من شخصيات محافظة تقليدية تدافع عن سياسة “لا مفاوضات، لا حرب” مع الولايات المتحدة. وتعتقد هذه المجموعة، التي تتجذر في التزام أيديولوجي بمقاومة النفوذ الأمريكي، أن الحفاظ على موقف دفاعي دون الانخراط بشكل مباشر قد يكون الطريقة الأكثر فعالية للحفاظ على سيادة إيران. ومع ذلك، يتجاهل هذا المنظور التحولات الكبيرة التي حدثت في المنطقة أثناء غياب ترامب، مثل إضعاف حلفاء إيران في لبنان، والقيود المفروضة على عمليات إيران في سوريا، وضعفها الاقتصادي الناجم عن الاعتماد على صادرات النفط، وهي المنطقة التي من المرجح أن تستهدفها العقوبات الأمريكية في عهد ترامب. إن مقاومة هذه المجموعة لإعادة تقييم موقف إيران في ضوء هذه التحولات تهدد بترك البلاد عُرضة لضغوط اقتصادية ودبلوماسية مكثفة.
المجموعة الثانية: البراغماتيون الساعون للتفاوض وتحقيق المكاسب
ترى المجموعة الثانية، وهي فصيل براغماتي، أن التفاوض مع الولايات المتحدة يشكل فرصة لتأمين استقرار إيران في المستقبل. وتزعم هذه المجموعة أن الوقت قد حان للتوصل إلى اتفاق تفاوضي يمكن أن يعالج القضايا الخلافية مثل البرامج النووية والصاروخية الإيرانية في مقابل رفع العقوبات الاقتصادية. ويرى كثيرون أن صعود الرئيس الإيراني الحالي مسعود بزشكيان يشكل جزءاً من التحضير المدروس لهذه المشاركة المحتملة مع واشنطن. ويمثل بزشكيان فصيلاً داخل النظام يدافع عن التفاوض، معتقداً أن تأمين صفقة مع الولايات المتحدة من شأنه أن يسفر عن فوائد اقتصادية كبيرة ويفتح السبل أمام التكامل الإقليمي لإيران. وتزعم هذه المجموعة أن التنازلات التي يتم التفاوض عليها بعناية قد تسمح لإيران بتشكيل علاقاتها مع الغرب بشكل أكثر بناءً مع الحفاظ على عناصر أساسية من أمنها القومي.
المجموعة الثالثة: المتطرفون الذين يدافعون عن الردع النووي
إن الفصيل الثالث، الذي يوصف غالباً بأنه الجناح المتطرف داخل النظام، يدعو إلى تصعيد حاد من خلال الردع النووي. ورغم أن هذه المجموعة تشكل أقلية، فإنها تتمتع بحضور قوي في وسائل الإعلام والخطاب السياسي في إيران. ويزعم أعضاؤها أن إيران لابد وأن تتخذ خطوات حاسمة نحو تطوير الأسلحة النووية، باعتبارها الضمانة الأمنية النهائية في بيئة معادية على نحو متزايد. ولقد ألمح شخصيات بارزة مثل كمال خرازي إلى أن إيران إذا واجهت تهديداً وجودياً فإنها تمتلك القدرة التكنولوجية والعزيمة اللازمة لتصنيع الأسلحة النووية.
بيد أن هذا المسار محفوف بتحديات كبيرة. فأولاً، إن اختبار سلاح نووي تحت المراقبة الوثيقة من جانب أوروبا وإسرائيل والولايات المتحدة يمثل صعوبات ومخاطر تشغيلية هائلة. ومن المرجح أن يؤدي التحرك نحو القدرة النووية إلى إثارة معارضة موحدة من جانب هذه القوى، مع احتمال قيادة إسرائيل لضربات استباقية على المواقع النووية الإيرانية. والتحدي الثاني هو افتراض أن الأسلحة النووية من شأنها أن توفر ردعاً فعالاً للمخاوف الأمنية الفريدة التي تواجهها إيران. إن فكرة الردع النووي هي في كثير من النواحي وهم بالنسبة لإيران؛ فالترسانة النووية لن توقف العقوبات، ولن تمنع الاغتيالات، أو التخريب، التي نفذتها إسرائيل في السابق ضد الأصول الإيرانية دون خوف كبير من التصعيد.
إن مثال القوة النووية الروسية يوضح هذا القيد. فعلى الرغم من امتلاكها لواحدة من أقوى الترسانات النووية في العالم، تظل روسيا غير قادرة على ردع جميع أشكال المواجهة التقليدية والاقتصادية. لقد فرضت القوى الغربية عقوبات واسعة النطاق على روسيا، وتستمر أوكرانيا، بدعم من الأسلحة الغربية، في مقاومة التقدم الروسي دون إثارة رد نووي روسي. وبالتالي فإن الأسلحة النووية ليست حلاً سحرياً؛ فهي لا تعمل إلا كدرع أخير ضد التهديدات الوجودية، وهي العتبة التي لم يتم تجاوزها بعد في وضع إيران.
وفي السياق الإيراني الإسرائيلي، تصبح حدود الردع النووي أكثر وضوحاً. إن إسرائيل، التي تمتلك أكبر ترسانة نووية في المنطقة وتدعمها القدرات النووية الأميركية، سوف تنظر إلى أي تحرك إيراني نحو الأسلحة النووية باعتباره تهديداً وجودياً، وسوف ترد بقوة على أي استفزاز حتى لو كان بسيطاً. وبالتالي فإن سعي المجموعة المتطرفة نحو التسلح النووي يخاطر باستفزاز رد إسرائيلي هائل، وهو ما قد يتصاعد إلى صراع إقليمي أوسع نطاقاً.
في الصورة الاستراتيجية الأوسع، من المرجح أن تؤدي الأسلحة النووية إلى تفاقم التحديات الأمنية التي تواجهها إيران بدلاً من تخفيفها. والهدف المعلن لترامب ليس الإطاحة بالنظام الإيراني بل تغيير سلوكه ــ وهو الموقف الذي لا يشكل تهديداً وجودياً، رغم عدوانيته. وبدون مبرر الدفاع ضد تغيير النظام، قد تؤدي طموحات إيران النووية إلى تكثيف العزلة الاقتصادية، والضربات العسكرية، والمزيد من زعزعة الاستقرار، مما يقوض في نهاية المطاف أمن إيران بدلاً من حمايته.
خاتمة
إن الديناميكية المتكشفة بين الولايات المتحدة وإيران، وخاصة في ظل إدارة ترامب القادمة، تكشف عن مشهد إقليمي معقد وهش بشكل متزايد. تهدف استراتيجية “الضغط الأقصى” التي سينتهجها ترامب إلى إرغام إيران على تقديم تنازلات من خلال العقوبات المكثفة والعزلة الاقتصادية، وتجاوز التكاليف الباهظة للتدخل العسكري المباشر. ومع ذلك، قد يؤدي هذا النهج إلى زعزعة استقرار التوترات بدلاً من تصعيدها، حيث تواجه إيران ضغوطًا متزايدة على المستوى الإقليمي والداخلي. كما تقدم الأجنحة السياسية الداخلية في إيران، التقليديون والبراغماتيون والمتطرفون، كل منها نهجًا متباينًا للعلاقات مع أمريكا، مما يسلط الضوء على معضلة طهران، ما إذا كانت تسعى إلى التقارب أو المقاومة. يشير هذا الانقسام الداخلي، جنبًا إلى جنب مع استراتيجية ترامب الاقتصادية، إلى مستقبل محفوف بالمخاطر حيث يحمل أي مسار مخاطر كبيرة لطهران.
وعلاوة على ذلك، تعمل المواجهات المتصاعدة بين إيران وإسرائيل على تضخيم هذا الوضع الهش. وتؤكد التدابير الأمنية الإسرائيلية الأخيرة والهجمات المباشرة على المصالح الإيرانية على التحول الإقليمي حيث يتم استبدال التكتيكات السرية بشكل متزايد بالأعمال العدائية المفتوحة. ولا يؤدي هذا التحول إلى تعقيد استجابة طهران فحسب، بل ويضع أيضًا ضغوطًا إضافية على خيارات السياسة الأمريكية، وخاصة إذا جددت إدارة ترامب الدعم القوي للأهداف العسكرية الإسرائيلية. والولايات المتحدة، في سعيها لتحقيق الاستقرار الإقليمي من خلال القوة، تخاطر بمزيد من الاستقطاب، مما يدفع إيران إلى التحالف بشكل أوثق مع القوى البديلة وتعقيد الدبلوماسية المستقبلية.