لم تعد الأزمة النووية الإيرانية مجرد أزمة تخصيب أو تقنية تفاوضية بين إيران والولايات المتحدة، بل أصبحت تعبيراً عن تحول جيوستراتيجي عميق في توازنات الشرق الأوسط. منذ الجولة الخامسة من المحادثات التي جرت في روما، بوساطة عمانية بين واشنطن وطهران بوساطة عمانية، بدا المشهد وكأنه يسير على خيط رفيع بين تفاهم دبلوماسي هشّ وانفجار عسكري إقليمي واسع.
في هذا السياق، تتقاطع ثلاث مسارات رئيسية: الأول تقوده إيران، المصممة على تثبيت مشروعها النووي كأداة سيادية وردعية. والثاني تقوده الولايات المتحدة، التي تسعى إلى منع إيران من امتلاك قدرة نووية دون الانزلاق إلى حرب. والثالث، والأكثر اضطرابًا، تمثله إسرائيل، التي ترى في أي قدرة تخصيب إيرانية تهديدًا وجوديًا. هذه الديناميكيات المتشابكة تضع العالم أمام سيناريوهات متعددة تتراوح بين حلول توافقية، ومبادرات إقليمية، ومواجهات عسكرية محدودة. ولذلك تبحث هذه الورقة في سيناريوهات التفاوض والمواجهة وبنية المشروع النووي الإيراني كأداة للردع والدور الداخلي والدولي في هذه المفاوضات.
المشروع النووي الإيراني: أداة لبناء الردع الاستراتيجي
منذ الحرب العراقية الإيرانية (1980–1988)، تشكّلت لدى طهران قناعة أمنية مركزية مفادها أن البقاء لا يُؤمّن فقط بالشعارات أو الحلفاء، بل بالقدرة على الردع الذاتي، أي بامتلاك وسائل تجعل أي عدوان محتمل مكلفًا لدرجة تدفع الخصم لإعادة التفكير. هذه العقيدة لم تكن نظرية، بل تأسست في سياق تجربة وجودية شعرت فيها إيران بالعزلة، وحتى بالخيانة من قبل القوى الدولية.
لكن التحول الحاسم جاء بعد 2011، حين شهدت المنطقة انهيارات كبرى بفعل الربيع العربي، حيث تكرّست هذه التحولات في الوعي الاستراتيجي الإيراني بعد مشاهد سقوط بغداد وطرابلس في فترات سريعة تحت ضغط القوة الجوية الأمريكية أو حلف الناتو. الرسالة كانت واضحة وهي أن لا شيء يحمي الدول سوى امتلاك قدرة على الرد.
في هذا السياق، يُعاد تعريف المشروع النووي الإيراني ليس كأداة للحصول على سلاح نووي بالمعنى التقليدي (وإن كان هناك تيارات وازنة في إيران ترغب بذلك)، بل مجموعة من القدرات الكامنة (latent capabilities) التي تسمح لإيران بأن تصبح دولة على عتبة النووي دون أن تعبر الخط الأحمر. الهدف هنا ليس بناء القنبلة بل بناء القدرة على صنعها في حال الخطر، وهي سياسة تعرف في الأدبيات الاستراتيجية باسم “ردع العتبة” (Threshold Deterrence).
هذا النمط من الردع يعتمد على عنصرين:
وبالتالي، حين تصر إيران في المفاوضات على أن التخصيب داخل أراضيها “غير قابل للنقاش”، فهي لا تمارس تعنتًا دبلوماسيًا بقدر ما تدافع عن واحدة من الركائز الأخيرة المتبقية من منظومة الردع الاستراتيجي في وجه تفوق عسكري إسرائيلي كامل.
يجب هنا إدراك الفرق بين البرنامج النووي بصفته رمزية سيادية، وبين البرنامج النووي كوسيلة ردع. الأول يخاطب الداخل، ويرسّخ شرعية النظام. والثاني يضبط سلوك الخصوم في لحظات الأزمة.
على هذه الخلفية، يصبح من المفهوم لماذا يرفض الحرس الثوري، ومن خلفه المرشد والمنظومة الأمنية والسياسية الإيرانية، أي صيغة اتفاق تنص على نقل تخصيب اليورانيوم إلى منشآت خارجية، حتى لو كانت تحت إشراف إيراني-سعودي مشترك. فالنقل في هذا السياق لا يعتبر ترتيبا تقنيا، بل نزع أنياب استراتيجية.
المقترحات المطروحة على الطاولة: من التجميد المؤقت إلى الاتحاد الإقليمي
تتعدد المبادرات المطروحة للخروج من مأزق التخصيب الإيراني خلال المفاوضات مع الولايات المتحدة، لكنها تتقاطع عند هدف مشترك: تأخير أو إبطاء قدرة إيران على تطوير برنامج نووي قابل للتحول العسكري، دون المساس الكامل بما تعتبره طهران “حقوقًا نووية سيادية”.
أبرز هذه المقترحات يتمثل في صيغة “أقل مقابل أقل” (less for less)، والتي تتضمن وقف التخصيب عند نسبة 60% وإخراج مخزون اليورانيوم عالي التخصيب من إيران، مقابل رفع جزئي للعقوبات الاقتصادية والسماح بتصدير النفط ضمن سقف معين. هذا المقترح يهدف إلى خفض التوتر الفوري وكسب الوقت لمفاوضات أشمل لاحقاً.
هناك مقترح آخر يقوم على وقف كامل للتخصيب لمدة تتراوح بين سنة وثلاث سنوات، يتبعه برنامج تخصيب محدود في حدود اتفاق 2015 ، أي دون 5%. ورغم أن هذا المقترح قد يرضي الإدارة الأمريكية الحالية، إلا أن إيران تعتبره تقليصاً جوهرياً لسيادتها التقنية ولا يمكن تمريره داخليًا دون تكلفة سياسية.
أما المقترح الأكثر ابتكارًا فيكمن في إنشاء اتحاد إقليمي للتخصيب، تتوزع منشآته بين جزيرتين إحداهما إيرانية والأخرى سعودية، بإشراف مباشر من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإدارة مزدوجة. يُفترض أن هذا النموذج يقلل من احتمالات الانحراف العسكري، ويعيد تعريف البرنامج النووي بصفته مشروع تعاون إقليمي، وليس سلاحا استراتيجيا. وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، رحّب بهذا المقترح من حيث المبدأ، لكنه شدد في الوقت ذاته على استمرار التخصيب داخل الأراضي الإيرانية، ما يعكس رفضًا ضمنيًا لفكرة الاستبدال الكامل.
السيناريوهات الاستراتيجية: من إعلان المبادئ إلى المواجهة العسكرية
السيناريو الأول: إعلان مبادئ مؤقت
هو السيناريو المرجّح في الأمد القريب، ويتضمن اتفاقًا أوليًا يتناول المبادئ الأساسية دون دخول في التفاصيل التقنية. يشمل وقف تخصيب بنسبة 60%، وبدء مشاورات فنية حول المشروع الإقليمي، وتخفيف محدود للعقوبات.
هذا السيناريو يمنح جميع الأطراف مخرجًا دبلوماسيًا مؤقتًا يؤدي إلى استمرار المفاوضات للتوصل إلى اتفاق شامل. فترامب سيبدو كمن أوقف الانفجار، إيران كمن حافظت على الكرامة النووية، وإسرائيل تجد نفسها في وضع أكثر صعوبة لمواصلة الضغط.
السيناريو الثاني: اتفاق شامل مرحلي
يتطلب هذا السيناريو إرادة سياسية قوية داخل واشنطن وطهران، ويتضمن خطوات مترابطة تشمل تحديد نسب التخصيب، المواقع، الرقابة، والعقوبات. لا يبدو أن هذا السيناريو واقعي قبل حدوث تحول داخلي كبير في إيران والولايات المتحدة.
السيناريو الثالث: هجوم عسكري إسرائيلي محدود
ترجحه جهات استخباراتية غربية بناء على رصد تحركات إسرائيلية، ويتضمن ضربات خاطفة لمواقع التخصيب الرئيسية بهدف إبطاء البرنامج لا تدميره. لكن هذا السيناريو يحمل مخاطر عالية، من بينها رد فعل إيراني مباشر بصورة هجمات صاروخية ومسيرات مكثفة ضد إسرائيل، ما قد يؤدي إلى تصعيد غير محسوب.
السيناريو الرابع: فشل التفاوض وانهيار الوضع تدريجيا
أي استمرار التخصيب الإيراني، مع تصاعد العقوبات والضغط، وتزايد التهديدات الإسرائيلية، ما يخلق بيئة توتر مزمنة قد تندلع فيها المواجهة نتيجة خطأ أو سوء تقدير. هذا السيناريو هو الأخطر لأنه لا يتضمن قرارًا مركزيًا بالتصعيد، بل انزلاق تدريجي نحوه.
المواقف الدولية والإقليمية
في خلفية المشهد، تقف أطراف دولية فاعلة وإن لم تكن في واجهة التفاوض: روسيا، الصين، الاتحاد الأوروبي.
روسيا تنظر إلى البرنامج النووي الإيراني من زاوية مزدوجة: أولاً، كأداة ضغط على الغرب في ظل الحرب في أوكرانيا وتعثر الحل هناك، وثانيًا، كفرصة لتوسيع نفوذها التقني والسياسي في طهران. لذلك فإن موسكو تميل إلى دعم أي اتفاق لا يلغي المشروع النووي الإيراني، بل يضبطه في إطار تعاون استراتيجي شرق-شرق.
الصين، بوصفها الشريك التجاري الأكبر لإيران، تفضل الاستقرار والهدوء، لكنها ترفض من حيث المبدأ استخدام الملف النووي كأداة للابتزاز السياسي من قبل الغرب. لذلك فهي تمارس ضغوطًا خفية لتجنّب المواجهة، وتدفع نحو حلول تقنية توافقية.
أما أوروبا، فهي أكثر الأطراف تعطشًا لاتفاق، لكنها أيضًا الأكثر ضعفًا في التأثير. فرنسا وألمانيا وبريطانيا تخشى انهيار التفاوض، لكنها ورقة ضغط حقيقية ضد طهران وهي آلية الزناد التي تستطيع تفعيلها في مجلس الأمن مما يعني عودة جميع العقوبات على إيران.
الداخل الإيراني: صناعة القرار بين موازين الردع وضغوط الشارع
لا يمكن فهم الموقف التفاوضي الإيراني دون تحليل معادلة السلطة في الداخل. يتوزع صنع القرار النووي بين مؤسسة الرئاسة، ووزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي، لكن الكلمة النهائية تعود إلى المرشد الإيراني عبر الحرس الثوري والأجهزة الأمنية.
من منظور استراتيجي، يمثل التخصيب داخل الأراضي الإيرانية أحد أعمدة السيادة الوطنية بعد سنوات من الاستثمار التقني والسياسي. التخلي عنه، حتى لو لصالح مشروع إقليمي مشترك، قد يُنظر إليه داخليًا كتنازل مفرط، ما يعرض القيادة لضغط داخلي من التيار المتشدد.
لكن في المقابل، تواجه الحكومة أزمة اقتصادية خانقة، انهيار العملة، بطالة متفاقمة، وتآكل الطبقة الوسطى. هذه العوامل تدفع تيارات إصلاحية داخل النظام إلى الدفع باتجاه اتفاق جزئي يفتح المجال أمام تخفيف العقوبات وعودة التبادلات الاقتصادية. لذلك، يقف صانع القرار الإيراني أمام خيار مزدوج: الحفاظ على هيبة الردع الاستراتيجي، أو تجنب الانهيار الاجتماعي المتدرج.
في هذا السياق، يمكن فهم مرونة عراقجي تجاه المقترح العماني لا كتنازل، بل كإعادة صياغة للموقف الإيراني وفق مبدأ: “الحفاظ على الجوهر، والتفاوض على الشكل”. أي أن إيران مستعدة للتفاعل مع أي مبادرة لا تنتقص من مكانتها النووية، لكنها قد تناور بقبول رقابة دولية أكثر صرامة من بينها القبول بمفتشين أمريكيين للقيام بعمليات تفتيش دورية منتظمة في المنشآت النووية الإيرانية، مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
الخاتمة
أظهرت المفاوضات الأخيرة بين طهران وواشنطن أن مجرد العودة إلى اتفاق 2015 لم تعد ممكنة، وأن العالم يواجه واقعًا نوويًا جديدًا في الشرق الأوسط. التحدي اليوم لا يقتصر على منع إيران من الوصول إلى العتبة النووية، بل على إيجاد بنية أمنية إقليمية جديدة قادرة على دمج القدرات النووية السلمية ضمن ترتيبات تعاونية طويلة المدى.
المقترح العماني بتأسيس اتحاد إقليمي لتخصيب اليورانيوم، رغم تعقيداته، قد يكون النواة الأولى لهذا النظام. لكنه يحتاج إلى غطاء سياسي أمريكي، قبول خليجي حذر، وضبط ترامب لإسرائيل بعدم التهور والاقدام على مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية قبل التوصل لاتفاق، وإيراني يجمع بين السيادة والانخراط البنّاء.
في نهاية المطاف، لا يملك أي طرف القدرة على فرض حل أحادي. الردع دون تفاهم سيؤدي إلى سباق تسلح، والتفاوض دون واقعية سينهار أمام أول أزمة. وحده الحل المركّب، الذي يوازن بين الردع، السيادة، والمراقبة المتبادلة، يمكن أن يشكل أساسًا لتسوية قابلة للاستمرار. إنه اختبار لإمكانية بناء شرق أوسط جديد لا على أنقاض الردع المتبادل، بل على أساس التخصيب المشترك كأداة تعاون لا كسلاح تهديد، وإلى ذلك الوقت لا يلوح في الأفق إلا إمكانية التوصل لاتفاق مؤقت على قاعدة الأقل مقابل الأقل.