في التاسع من يناير/ كانون الثاني 2019، قدَّم وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، خلال اجتماع رايسينيا الدولي للحوار، شرحاً عن ركائز نظرية “المنطقة القوية”، وقال “إنّنا اليوم بدلاً من هيمنة رجال أقوياء، بحاجة إلى بناء منطقة قوية”، وإنّ الاستقرار السياسي والوطني المحلّي، والاعتماد على الجمهور، هما مصدرا القوّة وشرعية الأمن والسعادة، كما أنّ التنسيق بين الهوية الوطنية والمواطنة الإقليمية من الركائز الأخرى لتحقيق منطقة قوية”.
وأضاف أنّ مساهمة الدول الإقليمية كافّة، المعنية في إرساء السلام في المنطقة، عن طريق الأجهزة والمنظمات الإقليمية واتخاذ الإجراءات اللازمة، من الركائز الأخرى لتحقيق منطقة قوية، وأنّ الثقة والتجارة وتعزيز التواصل بين الدول الإقليمية بدلاً من القوى الأجنبية.
وكذلك، محورية العلاقات الاقتصادية، والتعامل بين الناس، الذي يجعل الإقبال على الحرب ذا تكاليف باهظة، وغير قابل للتبرير، تعدّ من الأسس الأخرى لهذه النظرية. وتابع ظريف، أنّ الثقافة الإقليمية، التي لا تعتبر الأمن القومي منفصلاً عن الأمن الإقليمي، وكذلك البيئة الإقليمية المستقرّة، تعدّان من العناصر الأخرى لنظرية المنطقة القوية.
ولفت إلى أنّ الجمهورية الإسلامية تمدّ مرّة أخرى يد الصداقة نحو دول الجوار في منطقة “الخليج الفارسي” لكي “نتقدّم معاً في هذا المسار”، وأنّ الحوار الحقيقي يتطلّب مكانة متكافئة واحتراماً متبادلاً بين الجانبين، وكذلك تحديد “المصادر المنوّعة للعلم والحكمة”.
واستناداً إلى هذه المنطلقات، ذكر ظريف أنّ المنطقة القوية تتميز بالسمات التالية: الاستقرار السياسي والإقليمي المحلّي، والاعتماد على الجماهير مصدراً للشرعية والأمن والازدهار، وتنسيق الهويات الوطنية والمواطنة الإقليمية، ومشاركة جميع الدول الإقليمية ذات الصلة في ضمان السلام في المنطقة من خلال المؤسّسات الإقليمية أو المنظمات أو الترتيبات الخاصة، ومزيد من الثقة ومزيد من التجارة والمزيد من التفاعل بين البلدان في المنطقة، مقارنة بالقوى الخارجية، والعلاقات الاقتصادية والتفاعلات التي تركّز على الناس، مما يجعل أيَّ لجوء إلى الحرب مُكلفاً وغيرَ مقبول، وثقافة إقليمية تضع الأمن القومي على قدم المساواة مع الأمن الإقليمي، وبيئة إقليمية مستدامة.
وفي إطار هذه السمات، أكد ظريف استعداد إيران لإشراك جيرانها، وكلّ المهتمّين باستقرار هذه المنطقة المحورية القائمة على الامتثال الجماعي والجمعي للمبادئ لتحقيق عدة أهداف، من بينها، كما جاء في نص كلمته:
(1) المحافظة على السلامة الإقليمية واستقرار دول المنطقة من خلال تعزيز الحكم المحلي ومنع العدوان الخارجي.
(2) تعزيز الحكم الرشيد في جميع أنحاء المنطقة، ممارسة ضبط النفس الاستراتيجي من قبل جميع الجهات الفاعلة الإقليمية.
(3) عدم انتشار الأسلحة النووية، واستئصال أسلحة الدمار الشامل، ومنع سباق التسلح التقليدي المكلِّف والمزعزع للاستقرار.
(4) تعزيز التوازن الإقليمي ورفض الهيمنة من قبل القوى الإقليمية أو فوق الإقليمية، تعزيز البراعة الاقتصادية الإقليمية والحكم الرشيد، الالتزام بالتعدّدية.
(5) الربط والاستخدام الفعّال لممرات العبور بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب.
مسعود بزشكيان والدعوة لبناء المنطقة القوية
في العاشر من يوليو 2024، وبعد نجاحه في انتخابات الرئاسة الإيرانية، في الجولة الثانية التي أجريت في الخامس من يوليو/ حزيران 2024، نشر مسعود بزشكيان مقالاً جاء في مقدمته “في بداية عهدي رئيساً للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبعدما منحني الشعب صوتَه، أودّ أن أخاطب أخواتنا وإخواننا وجيراننا في المنطقة، لكي نخطو معاً على طريق الحوار البنّاء وتعزيز التعاون والتضامن بين شعوب المنطقة ودولها”.
ثم استعرض بزشكيان منطلقات سياسته الخارجية تجاه المنطقة العربية والتي تمثلت في:
(1) وحدة الجغرافيا: حيث دعا إلى التكاتَف والاتّحاد بهدف الوصول إلى الحياة الطيّبة التي تمثّل الهدف السامي للإسلام وجميع الأديان السماوية، ولأجل هيكلة منطقةٍ قويةٍ تعتمد على قوّة المنطق وليس منطق القوّة، وهذا يتطلّب توظيف جميع عناصر القوة الوطنية، وفي مقدّمتها دعم الشعوب والقوى الحية في الأمة الإسلامية.
(2) التنسيق المشترك: حيث أكد على أنه لن يُسجّل النجاح لأي خطّة منفصلة في المنطقة، ولن يتحقّق الازدهار والتقدّم ما لم يتحقّق الانسجام في المنطقة، وما لم يتم التعاوَن لأجل مستقبلٍ مشرقٍ، مشيراً إلى أن استغلال النعم الإلهية والموقع الجيوسياسي، الاستثنائي للمنطقة على نحوٍ صحيح، يدفع بها إلى التقدّم والنمو والازدهار.
وفي هذا الإطار تبرز أهمية الحوار العميق والبنّاء والهادف لتأسيس التعاون على مختلف الأصعدة والمجالات والنظر إليه باعتباره السبيل الوحيد لاجتياز التحدّيات والاضطرابات الراهنة، ومن شأن هذا السبيل أن يحقق الاستقرار والأمن المستداميْن، ويتيح لشعوب المنطقة الاستفادة من مواهبها وثرواتها.
(3) المصالح المشتركة: حيث أكد بزشكيان على أن لإيران وجيرانها العرب والمسلمين مواقف ومصالح مشتركة في كثيرٍ من القضايا الدولية والإقليمية، لذلك يتم رفض احتكار قوى محدّدة ومعيّنة قرارات العالم، كما يرفض تقسيم العالم والاستقطاب على أساس مصالح القوى العظمى، ويطالب بقبول التنوّع الثقافي ورفع التمييز، واحترام القيم الدينية للمسلمين في المجتمعات الأخرى وفي المؤسسات الحقوقية والدولية.
(4) مركزية القضية الفلسطينية: ذكر بزشكيان أن جرح فلسطين النازف قضيتنا جميعاً، وعلاجه قضيتنا أيضاً. وهنا إذ تحيّي الجمهورية الإسلامية الإيرانية الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية في غزّة بوجه العدوان الوحشي للمحتل الصهيوني، فإنها تؤكّد إيمانها بأن الأمن والاستقرار في المنطقة لن يتحقّقا إلا بالاعتراف بحقّ الشعب الفلسطيني في ممارسة المقاومة الشاملة سبيلا للتحرّر من الاحتلال، وتأمين حقوقه الطبيعية والبديهية، وخصوصا الاستقلال وحقّ تقرير المصير وإنهاء الاحتلال والتمييز العنصري والإبادة الجماعية وإرهاب الدولة الصهيونية.
(5) تفكيك جذور الإرهاب: قال بزشكيان إن الإرهاب والتطرّف يسبّبان آلاما مشتركة للجميع، وهذا يستدعي العلاج الجذري والتعاون المشترك، وذلك يوجِب إنهاء الصراعات العسكرية بين دول المنطقة على أساس الحقّ والعدل والحقوق المشروعة للشعوب، وكذلك إنهاء الأزمات الداخلية عبر تبنّي حلول سلمية، فالكيان الصهيوني المحتل والقوى الأجنبية وحدهما المستفيدان من استمرار الأزمات والصراعات الداخلية في المنطقة.
(6) البنية المشتركة: ذكر بزشكيان أن شعوب المنطقة تستحقّ أن تحظى بالتنمية الاقتصادية والرخاء الاجتماعي، فعلى الحكومات مساعدة بعضها بعضاً لأجل الازدهار والتقدّم، وأعلن استعداد إيران للمشاركة في مشاريع التنمية الاقتصادية وتنمية البنى العمرانية وممرّات النقل بين دول الجوار، كما أنها مستعدّةٌ أيضا لإشراك هذه الدول في ممرّي “الشمال ـ الجنوب” و”الشرق ـ الغرب” داخل أراضيها.
(7) المنطقة القوية والأمن الذاتي: حيث ذكر أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعتبر قوّةَ جيرانها قوّةً لها، وترى أنه لا ينبغي أن يعزّز الجيران قدراتهم على حساب الآخرين، فالأولوية القصوى للسياسة الخارجية الإيرانية هي توسيع التعاون مع الجيران، وستسعى الحكومة الجديدة جاهدةً إلى الحفاظ على توجّه الحكومة الحالية في توطيد العلاقات مع الدول الجارة، وستعمل على الارتقاء بالعلاقات الثنائية معها على أساس الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية ووحدة أراضي الدول، إذا ما أبدت دول المنطقة تعاوناً نشيطاً وثنائياً.
(8) نزع أسلحة الدمار الشامل: حيث يشكّل السلاح النووي للكيان الصهيوني تهديداً للمنطقة والسلام والأمن الدوليين، وهو ما يفرض على دول المنطقة والعالم التعاون لأجل شرق أوسط خالٍ من أسلحة الدمار الشامل. كما يتطلب السلام والاستقرار المستدامان في منطقة الخليج الفارسي التصدّي للتهديدات المختلفة، وإنشاء نظام تعاون وأمن جماعي بين الدول المتجاورة.
(9) الحوار الفعال: تستدعي إدارة فترة اضطراب ومرحلة انتقالية للنظام الدولي مبادراتٍ تهدف إلى التعاضد الإقليمي والتغلب على التطرّف في المنطقة وغطرسة القوى الدولية. وفي هذا الإطار، يمكن للدول العربية والإٍسلامية، بتمسّكها بقيمها الثقافية واهتدائها بالتعاليم الإسلامية السلمية والسمحة، أن تكون طرفاً أساسياً في الحوارات والجهود الدولية لإشاعة السلام والاستقرار الدوليين.
دول الخليج وإدارة التحديات الأمنية
سعياً نحو تعزيز قدراتها الأمنية، ومواجهة التحديات الإقليمية والدولية التي تفرزها التحولات والأزمات والصراعات المختلفة، اتجهت دول الخليج العربية، إلى عقد شراكات واتفاقيات أمنية وعسكرية مع عديد من الأطراف من خارج المنطقة، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا، وفي المقابل، تحرّكت إيران لتعزيز تحالفاتها الأمنية والعسكرية، مع أطرافٍ عديدة من خارج الإقليم أيضاً مثل روسيا الاتحادية والصين الشعبية وكوريا الشمالية.
ولن يستطيع الطرفان الخروج من دائرة التصورات الأمنية المتعارضة، إلا بحوار حقيقي وجاد، يقوم على الوضوح الكامل في الرؤية لأمن الخليج، وكيفية تعزيز قدرات الأمن الذاتي لدول المنطقة، وهذا لا يعني تجاوز هذه الدول علاقاتها مع أطراف من خارج المنطقة، ولكن كيفية توظيف هذه العلاقات لتعزيز الأمن الإقليمي، في المنطقة.
وإذا كانت فكرة “المنطقة القوية” التي دعا إليها وزير الخارجية الإيراني الأسبق جواد ظريف في 9 يناير/ كانون الأول 2019، وأعاد التأكيد عليها الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان في 10 يونيو/ حزيران 2024، جيّدةً من الناحية النظرية، إلا أنّها تصطدم بالعديد من المعوقات، التي تحتاج إلى تحليلها والتغلّب عليها، وفي مقدمتها، العمل على بناء الثقة بين الجمهورية الإيرانية، من ناحية، ودول الخليج العربية، من ناحية ثانية.
وأن يعمل الطرفان على بناء قائمة بسجلّات المخاطر المشتركة التي تحتاج تعاونهما معًا لمواجهتها، ويمكن أن يكون مدخل التعاون في إدارة المخاطر والكوارث العابرة لحدود الدول وقدراتها آليةً لتعزيز التعاون وبناء الثقة، وتعزيز التقارب على مستوى الفِكَرِ والحوار.
إن الرئاسة الإيرانية الجديدة تأتي في مرحلة تشهد فيها المنطقة العديد من التحديات وخاصة في ظل تداعيات الحرب الروسية ـ الأوكرانية التي بدأت في الثاني والعشرين من فبراير 2022، وتداعيات معركة طوفان الأقصى التي بدأت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وكذلك التحولات الأيديولوجية التي تشهدها القارة الأوروبية بين اليمين واليسار، والتوتر الداخلي في الولايات المتحدة على خلفية الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني.
وهذه التحولات وغيرها، بجانب تداعيات وفاة الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي، في تحطم مروحيته في رحلة داخلية، كلها تفرض على طرفي الخليج مراجعة ما بينهما من توترات وأزمات، وإعادة تقييم السياسات، وحشد الجهود وتعبئة الطاقات لمواجهة الأزمات والتحديات المشتركة.