نفذ جيش الاحتلال في 9 سبتمبر محاولة لاغتيال قادة حركة حماس في العاصمة القطرية الدوحة، وذلك أثناء اجتماع لمناقشة المقترح الأمريكي الأخير لوقف إطلاق النار في غزة وتبادل الأسرى. ورغم التفاؤل الأولي الذي أظهرته حكومة الاحتلال برئاسة بنيامين نتنياهو حول نجاح العملية، فقد أعلنت حركة حماس نجاة قادتها من الاغتيال واستشهاد كل من نجل رئيس الحركة في غزة خليل الحية، همام، ومدير مكتب الحية جهاد لبد، إلى جانب 3 مرافقين وأحد أفراد قوى الأمن الداخلي القطرية.
جاء الهجوم في توقيت انتهازي استخباريًا، حيث استغل فرصة اجتماع قادة الحركة في مبنى واحد لاغتيالهم دفعة واحدة، إلا أنه يعكس عدم اكتراث الاحتلال الإسرائيلي بالمفاوضات وتفضيله لخيار الحسم العسكري. ورغم ما زعمه نتنياهو من أن الهجوم جاء انتقامًا لعملية إطلاق النار في القدس المحتلة، والتي أدت إلى مصرع 6 إسرائيليين وإصابة أكثر من 40، إلا أن رئيس أركان جيش الاحتلال إيال زامير صرح في 2 سبتمبر: “نحن نعمل في جميع أنحاء الشرق الأوسط ولن يكون لدى حماس مكان تختبئ فيه منا”، في إشارة إلى اغتيال قادة الحركة في الخارج.
كيف تعاطت واشنطن مع الحدث؟
مع الإعلان عن الهجوم على الدوحة، نفت الإدارة الأمريكية علمها المسبق به، لكن الرئيس دونالد ترامب صرح بأن الحدث قد يكون “فرصة للسلام”، في انسجام مع سياسته القائمة على فرض “السلام” الذي يريده بالقوة المفرطة لا الدبلوماسية. ولتفادي رد فعل خليجي تصعيدي، خاصة مع تراجع احتمالات نجاح العملية، وصف ترامب لاحقًا في بيان على منصة “تروث سوشيال” الهجوم بأنه “حادث مؤسف”، مشدداً على أن قطر دولة ذات سيادة وحليف وثيق للولايات المتحدة، وأنه أبلغ أمير قطر الشيخ تميم بن حمد بأن مثل هذا الهجوم “لن يتكرر”. وأضاف ترامب أن قرار الهجوم كان “خالصاً لنتنياهو”، مؤكداً أن واشنطن لم تملك الوقت الكافي للتدخل لوقفه.
يحظى نتنياهو بضوء أخضر من الرئيس ترامب، لكنه مع ذلك يعمل وفق إطار زمني محدد يتوافق مع رؤية الإدارة الأمريكية لإعادة تشكيل النظام الإقليمي في المنطقة بعد تراجع النفوذ الإيراني فيها. ولذلك، يعتمد جيش الاحتلال على القوة المفرطة والهجمات السريعة لفرض شروط استسلام على المقاومة، فضلًا عن فرض هيمنته على المنطقة. ورغم النجاحات التكتيكية التي حققتها هذه الاستراتيجية في فلسطين ولبنان وسوريا وإيران، إلا أنها تشتمل على أخطار استراتيجية لا تقتصر على الوجود الإسرائيلي في المنطقة فحسب، بل تتعداه إلى الدور الأمريكي فيها عمومًا.
تداعيات الهجوم على الدور الأمريكي في المنطقة
منذ ولايته الأولى، سعى الرئيس ترامب لدمج إسرائيل في محيطها العربي ونقل العلاقة بينها وبين دول المنطقة من العداء أو القطيعة أو السلبية إلى التهدئة والسلام وصولًا إلى التطبيع. وقد نجح بذلك مع التطبيع الإسرائيلي-الإماراتي، والذي شجع المغرب والسودان ودولًا أخرى على خطوات مماثلة تتراوح بين التطبيع والتواصل الإيجابي.
ومع وصول ترامب إلى البيت الأبيض مجددًا، عزز هذا التوجه بالزخم العسكري وقوة النار التي اكتسبتها إسرائيل في حروبها على غزة ولبنان وإيران، وبات شعار “السلام من خلال القوة” عنوان رؤية واشنطن لإعادة تشكيل المنطقة من جديد.
لكن هجوم الدوحة، مع فشله، يطال سلبًا مصداقية الولايات المتحدة بين دول مجلس التعاون الخليجي ودورها القائم على حماية المنطقة من الاعتداءات الخارجية، فبات الدعم الأمريكي لحروب إسرائيل سببًا لتهديد المنطقة بدلًا من حمايتها. ومن جهة أخرى، تؤثر السياسات الإسرائيلية على عملية تطبيع علاقات الاحتلال مع دول المنطقة ككل، فقد وصف مستشار الرئيس الإماراتي أنور قرقاش الهجمات الإسرائيلية بـ “الغادرة” مؤكدًا أن “أمن الخليج لا يتجزأ”، وتراجعت الاتصالات الدبلوماسية بين إسرائيل ومصر إلى أدنى مستوياتها مع تقليص التنسيق الأمني مع تل أبيب.
فشل أمريكي: هل تعود إسرائيل إلى عزلتها؟
أكد هجوم الدوحة تفضيل نتنياهو لخيار الحرب على الدبلوماسية، وفرض الهيمنة لا “السلام”، وهذا ما قد يجعل الدول العربية تعيد النظر في تحالفاتها فضلًا عن علاقاتها بكيان الاحتلال.
في 11 سبتمبر، عُقدت في الدوحة قمة عربية إسلامية طارئة تضامنًا مع قطر وإدانة للهجوم الإسرائيلي. ورغم أن القمة لم تسفر عن مقررات عملية، إلا أنها كرست موقفًا موحدًا ضد السياسات العدوانية لإسرائيل من شأنه أن يدفع عملية التطبيع إلى الوراء ويعيد تل أبيب إلى القطيعة مع المحيط.
لقد باتت العلاقات مع كيان الاحتلال مكلفة أكثر من فوائدها المحتملة بكثير، وحتى بعض الدول التي يقال إنها الأقرب لإسرائيل في المنطقة باتت تشعر بالقلق من سلوكها التصعيدي، خاصة مع عدم وجود خطة قابلة للتطبيق في غزة واستهداف الوساطة القطرية، وتصريحات قادة الاحتلال المتكررة حول ضم الضفة الغربية وتوسيع الاستيطان في الأراضي المحتلة. ولذا، حظرت الإمارات مشاركة شركات الدفاع الإسرائيلية في معرض دبي للطيران المقرر عقده في نوفمبر المقبل، والذي يُعد أحد أكبر الفعاليات العالمية في مجال الصناعات الجوية والدفاعية.
وعلى الصعيد الدولي، يعزز هذا الاعتداء المواقف الأوروبية المتعارضة مع السياسات الإسرائيلية ويدفع الاحتلال نحو عزلة دولية كذلك. فإلى جانب تصاعد الخلافات بين حكومة نتنياهو ودول أوروبية، قالت رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين إن المفوضية “ستوقف الدعم الثنائي لتل أبيب، وستقترح فرض عقوبات على وزراء إسرائيليين متطرفين وتعليقًا جزئيًا للشراكة التجارية بين الجانبين”.
ستكون الأحداث اللاحقة متأثرة بشكل رئيسي بالهجوم على الدوحة، والمؤكد حتى الآن أن الاعتداءات الإسرائيلية التي باتت تتنقل عبر الحدود العربية والإسلامية ستعيد تشكيل تحالفات وسياسات المنطقة، لا بالمستوى الذي يوقف المذبحة في غزة، وإنما بما قد لا يتوافق مع الأهداف الأمريكية العامة للـ “الشرق الأوسط الجديد”.