ملخص
لايزال النفط يمثل سلعة استرتيجية على المستويات المختلفة، وتأتي تأثيراته الإيجابية أو السلبية، في حالة الصعود أو الهبوط، على صعيد اقتصاديات الدول المنتجة والمستهلكة على السواء، ومن الصعب الوصول إلى حالة توازن بين مصالح المستهلكين والمنتجين. وخلال الأشهر الماضية من عام 2024، تراجعت أسعار النفط، إلى أقل من 70 دولار للبرميل من الخام الأميركي، وإلى ما يزيد قليلًا عن 70 دولار للبرميل من خام برنت، وترصد الورقة الآثار المختلفة على اقتصادات دول منطقة الشرق الأوسط، المنتجة منها والمستوردة للنفط، كما تشير في مقدمتها إلى الاقتصاد السياسي للنفط على الصعيد الدول.
تناولت الورقة تأثيرات سلبية لتراجع أسعار النفط على الدول المنتجة، سواء كانت دول الخليج أو العراق وليبيا والجزائر، أو إيران، وما ينتظرها من ظواهر سلبية مثل عجز الميزانيات العامة، وتراجع الاحتياطيات من النقد الأجنبي، أو تراجع أرصدة الصناديق السيادية. إلا أن الآثار الإيجابية تتحقق في جانب الدول المستوردة، لأن انخفاض الأسعار يخفف من مشكلات المديونية وأعباء عجز الموازنة، كما أن تلك الدول لا تستفيد من فرصة تكوين أرصدة استراتيجية من النفط، بسبب عجزها المالي. وفي الختام تشير الورقة إلى عدم نجاح الدول المصدرة للنفط، لتفادي الأزمات الناتجة عن تكرار تراجع الأسعار، مع كونها أعلنت غير مرة تبني استراتيجيات للتنوع الاقتصادي وعدم الاعتماد على العوائد النفطية، وهو ما لم يتحقق على مدار عقود.
——
لم تسر الاتجاهات الخاصة بأسعار النفط في السوق الدولية، على حسب ما تهوى الدول المنتجة، فقد تراجعت أسعار النفط خلال الشهور الفائتة من عام 2024، وحسب أسعار الخميس 14 نوفمبر 2024، فقد وصل سعر برميل النفط لخام برنت 71.8 دولار، ونحو 67.9 دولار للبرميل من الخام الأميركي.
وبلاشك كانت هذه الأسعار جيدة بالنسبة للدول المستهلكة والمستوردة للنفط، ومن صالحها أن تستمر في اتجاه الانخفاض، لتكون عند مستويات، لا ترهق موازناتها، وتساعدها على تخفيض معدلات التضخم، التي ترهق الأسر، وتؤدي إلى مزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.
تقديرات أوبك ترجح أن يصل متوسط أسعار النفط لسلة إنتاجها في عام 2024 إلى 81.1 دولار للبرميل، بتراجع نسبته 2.3% مقارنة بما كان عليه الوضع في 2023. وثمة مخاوف تتعلق بحجم الطلب على النفط بنهاية 2024، وخلال 2025، بسبب تباطؤ النشاط الاقتصادي في الصين، وكذلك ارتفاع الطلب على استهلاك الطاقة النظيفة.
وحول تقديرات المنظمة، فيما يخص الطلب اليومي عالميًا على النفط، ذهبت المنظمة في تقريرها لشهر أكتوبر 2024، أن يصل متوسط الطلب اليومي عالميًا إلى 1.82 مليون برميل، وهو التقدير الذي يعد منخفضًا مقارنة بتقديرات المنظمة في شهر سبتمبر الماضي عند 1.93 مليون برميل.
واستمرارًا لتوقعات المنظمة المتراجعة بشأن الطلب العالمي على النفط، تتوقع المنظمة أن يكون متوسط الطلب اليومي عالميًا عند 1.54 مليون برميل، مترجعًا عن تقدير سابق لها عند 1.64 مليون برميل.
الاقتصاد السياسي للنفط
رغم الحديث منذ عقود عن الطاقة البديلة، أو الجديدة والمتجددة، لايزال الوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم) هو عصب الاستهلاك العالمي، كما أنه يعد الأقل تكلفة من الناحية الاقتصادية مقارنة بمنتجات الطاقة النظيفة، ويعد النفط على مدار النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الآن، واحدًا من أهم السلع الاستراتيجية، بل يعد هو عصب الحضارة الحالية.
ومن الصعب قراءة واقع الصراع السياسي بين القوى الكبرى، دون أن يكون النفط حاضرًا، وبقوة، فلقد رأينا كيف فُعلت ورقة النفط في الصراع بين روسيا من جهة والغرب وأميركا من جهة أخرى، بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وكيف أدى ارتفاع أسعار النفط بسبب الضغوط الروسية، وكذلك المقاطعة والعقوبات الأميركية والغربية على النفط الروسي.
حيث عاش العلم موجة تضخمية، ضربت كافة أرجاء اقتصاديات العالم، ولم يتعافى الاقتصاد الأميركي والغربي من تلك الموجة التضهمية إلا بعد أكثر من عام ونصف.
وليس من قبيل التخمين، أن أميركا والغرب امتلكا سياسة قوامها تفريغ يد روسيا من استخدام النفط والغاز كأداة ضغط، فاستمرار تراجع أسعار النفط على مدار أشعر عام 2024، ليس صدفة، بل نتيجة إدارة جيدة من قبل أميركا والغرب، لتدبير بدائل للنفط الروسي، وكذلك استخدام سياسات ركزت على عودة استخدام الفحم، وعدم تفكيك شبكات الكهرباء المعتمدة على الطاقة النووية، مما قلل من الاعتماد على النفط، ساعد في تراجع معدلات الطلب، وبالتالي هبوط الأسعار.
وتهدف سياسة الغرب وأميركا، من استمرار أسعار النفط والغاز عن معدلات منخفضة من أجل إرهاق الوضع الاقتصادي لروسيا، باعتبارها واحدة من أهم الدول المصدرة للنفط والغاز على مستوى العالم، وتفيد مصادر أميركية أن عائدات روسيا من صادرات الطاقة (النفط ومشتقاته، والغاز الطبيعي والفحم) تراجعت في أكتوبر للشهر السابع على التوالي، وبلغت نسبة الانخفاض في أكتوبر 2024 نحو 4%، لتصل عوائد صادرات الطاقة لروسيا في أكتوبر إلى 663 مليون دولار.
وبطبيعة الحال، لم تقف روسيا مكتوفة الأيدي، بل سعت إلى البحث عن بدائل لتصريف نفطها وغيرها من منتجات الطاقة، لدى الصين والهند ودول أخرى، إلا أن التقديرات تشير إلى أن الصين تشكل 45% من إيرادات الطاقة الروسية. وهنا لابد من الإشارة إلى أن كل من الهند والصين مستفيدان بشكل كبير من الوضع المأزوم في روسيا، حيث إنهما يحصلان على أسعار تفضيلية، منخفضة بنسبة ملموسة عن الأسعار السائدة (قدرها البعض بـ30%) في السوق الدولية للنفط.
وثمة أمر مهم، من شأنها أن يقلب معادلة اقتصاديات النفط عالميًا، وإقليميًا، وهو ما يمكن أن يقوم به الكيان الصهيوني، من ضرب المنشآت النفطية في إيران، في ضوء عربدته وقيامه بحرب الإبادة في غزة وجنوب لبنان، وكان ذلك متوقعًا إبان الاعتداءات الأخيرة للكيان الصهيوني على إيران، ولكنها لم تفعل.
اقتصاديات النفط في المنطقة
نعني بمنطقة الشرق الأوسط هنا الدول العربية وتركيا وإيران، وكما أن الدول العربية تنقسم إلى بلدان منتجة للنفط والغاز، والبعض الآخر مستهلكة للنفط والغاز، فكذلك تركيا تعد مستورًا صافيًا للنفط، وإيران دولة منتجة ومصدرة للنفط.
الدول العربية المنتجة والمصدر للنفط، هي دول الخليج الست، بالإضافة إلى ليبيا والجزائر والعراق، وإن كانت نسب الإنتاج والاحتياطي مختلفة من دولة إلى أخرى، سواء كان ذلك للنفط أو الغاز الطبيعي، وتشير الأرقام الخاصة بالتقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2023 إلى ما يلي:
بنهاية عام 2022 بلغ الإنتاج العربي من النفط 25.4 مليون برميل يوميًا، وبما يمثل نسبة 29.3% من حجم الإنتاج العالمي من النفط، أما الاحتياطيات العربية من النفط فيشر التقرير أنها بلغت بنهاية 2022 نحو 725.1 مليار برميل، تشكل نسبة 54.3% من إجمالي الاحتياطيات من النفط على مستوى العالم.
وفيما يخص الغاز الطبيعي، فقد بلغ حجم الإنتاج العربي 621 مليار متر مكعب سنويًا، وبما يشكل 15.4% من حجم الإنتاج العالمي من الغاز الطبيعي، ويلاحظ أن حصة السعودية وقطر من إنتاج الغاز الطبيعي تمثل 48% من حجم الإنتاج العربي.
وفيما يتعلق بالاحتياطيات العربية من الغاز، فقد بلغت 55.6 تريليون متر مكعب بنهاية عام 2022، وبما يمثل 26.3% من حجم الاحتياطيات العالمية من الغاز الطبيعي.
وأما إيران، فيشير نفس التقرير إلى أن إنتاجها بنهاية عام 2022 من النفط قد بلغ نحو 2.5 مليون برميل يوميًا، كما يبلغ احتياطيها من النفط 208.6 مليار برميل، وتنتج إيران من الغاز سنويًا 259 مليار متر مكعب سنويًا، ولديها احتياطي من الغاز الطبيعي 33.9 تريليون متر مكعب.
وتعاني إيران من عقوبات اقتصادية منذ سنوات، عطلت كثيرًا تطوير حقول النفط والغاز لديها، كما عرقلت صاراتها النفطية، مما أثر على مواردها من النقد الأجنبي، وإن كانت إيران تعلن أنها استطاعت أن تمرر تصدير كميات من النفط خارج نطاق الرقابة الغربية والأميركية عليها في مسألة منعها من تصدير النفط، إلا بكميات محدودة يوميًا، ولذلك فهناك بعض التقديرات تذهب إلى أن صادرات إيران النفطية تبلغ حاليًا 3.5 مليون برميل يوميًا.
وباستثناء الدول الخليجية، والعراق وليبيا والجزائر، فإن جميع باقي الدول العربية تعتبر مستورد صاف للنفط، ويمثل ذلك بالنسبة لها عبء كبير على ميزانياتها العامة، وتشارك تركيا الدول العربية المستوردة للطاقة هذا الأمر، حيث تشير التقديرات إلى أن الفاتورة السنوية لاستيراد الطاقة بتركيا بحدود 40 مليار دولار، وإن كان مؤخرًا قد أعلن عن اكتشافات للغاز والنفط بالأراضي التركية، ولكنها لم تغير بعد طبيعة خريطة الطاقة هناك.
تأثير انخفاض الأسعار على اقتصاديات المنطقة
تختلف التأثيرات الاقتصادية الناتجة عن انخفاض أسعار النفط خلال عام 2024، على اقتصاديات المنطقة، سواء بالنسبة للدول المنتجة أو المستوردة، ففيما يخص الدول المنتجة للنفط، فالتأثيرات سلبية، حيث يتوقع أن تعود ظاهرة عجز الموازنات العامة لهذه الدول، لأن السعر الذي يحقق تعادل ميزانيات هذه الدول يختلف من دولة إلى دولة.
وتعتبر قطر وعمان من أفضل الدول النفطية العربية من حيث هذا المؤشر، والذي يمكن يعكس تعادل الميزاينات بها عن سعر نفط بحدود 45 و 55 دولار للبرميل، أي أن انخفاض أسعار النفط إلى ما يزيد عن 70 دولار بقليل للبرميل، سيخفض من الإيرادات الدولارية لهاتين الدولتين، ولكنه لن يصنع أزمة، أو يؤدي إلى عجز بميزانيتهما.
أما كل من السعودية والبحرين والعراق وليبيا والجزائر، فانخفاض أسعار النفط إلى ما يزيد قليلًا عن 70 دولار للبرميل سيؤدي إلى وجود عجز بميزانياتها السنوية.
الأمر لن يتوقف على عجز الميزانيات في الدول النفطية المنتجة، بل سيصل إلى تراجع أرصدتها من النقد الأجنبي، كما سيؤدي إلى عدم زيادة أصولها الرأسمالية في صناديقها السيادية. كما يلاحظ أن بعض الدول الخليجية بالفعل لجأت إلى سوق السندات الدولية لتدبير بعض احتياجاتها المالية.
وفيما يخص إيران، فإن انخفاض أسعار النفط، موجع بالنسبة لاقتصادها، الذي يعاني بشكل كبير من تراجع الموارد الدولارية بسبب العقوبات الاقتصادية، كما أنها تتبع ما يعرف باستراتيجية “النفط الرخيص” من أجل تسويق أكبر قدر من إنتاجها، وبخاصة لصالح الصين والهند وبعض الدول الأخرى، وانخفاض أسعار النفط، يعني أنها تفرط في ثروتها النفطية بأسعار أقل بكثير من السعر السائد في السوق العالمية.
على الجانب الآخر، فنجد الدول العربية مثل (مصر، الأردن، سورية، لبنان، السودان، جيبوتي، جزر القمر، موريتانيا، اليمن، وتونس، والمغرب) سوف تستفيد من انخفاض أسعار النفط، وسوف يؤدي ذلك إلى تحسن أوضاع عجز الميزانية بها، ولكن مما يؤسف له، أن هذه الدول تعاني من أسباب أخرى تعمل على استمرار العجز بميزانياتها، وليس لديها فوائض مالية، تجعلها تستفيد بشكل كبير من فرصة انخفاض أسعار النفط، بحيث تعمل على تكوين احتياطيات استراتيجية، تمكنها فيما بعد من حسن إدارة معادلة الطاقة في حالة ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية..ونفس الوضع ينطبق على تركيا.
تكرار لم يؤد إلى تغيير ملموس
قضية انخفاض أسعار النفط في السوق الدولية، متكررة، سواء بالنسبة للدول المنتجة أو المستوردة في المنطقة، فالدول النفطية العربية في كل مرة ينخفض فيه سعر النفط، تعلن عن تبني استراتيجيات تتعلق بالسعي للتنوع الاقتصادي، وأنه ينبغي أن تبنى اقتصادياتها بحيث تعتمد على مصادر متعددة، وليس النفط وحده.
ولكن الواقع يظهر أن أداء هذه الاستراتيجيات غير ملموس، فلا تستطيع الاقتصاديات الخليجية والدول العربية النفطية الأخرى، أن تعيش بدون عوائد النفط، مما أدى لتراجع أسعاره، وهو الأمر الذي لا يزال يمثل تحديًا لتلك الدول، لكي تمتلك اقتصادًا متنوعًا، يحميها تجاه تقلبات الاقتصاد العالمي.
أما الدول المستوردة للنفط في المنطقة العربية ومعها تركيا، فلم تسعى لبناء استراتيجيات لإدارة قضية الطاقة، بما يخفف من أعباء ميزانياتها، ويسمح بالتوسع في بدائل الطاقة التقليدية، وتوجيه البحث العلمي للطاقة البديلة، كما أنها لم تنجح في إدارة ميزانياتها، بحيث تقلل من أزمة عجز الميزانيات في ظل انخفاض النفط، أو تسعى لتقليص ديونها الخارجية أو المحلية في ضوء تراجع أسعار النفط، وتخففها من تدبير تمويل لما تحتاجه من نفط وغاز طبيعي.