في إطار فهم التاريخ الأمريكي، يُذكر هاري ترومان، الرئيس الأمريكي الأسبق، في اقتباسه المشهور حول القنبلة الذرية التي أُسقطت على اليابان، والذي يعكس روح السياسات الأمريكية: “نشكر الله لأنها (القنبلة الذرية التي اُلقيت على اليابان) كانت من نصيبنا، لا من نصيب أعدائنا”.
والحالة الحالية للحرب المتوحشة التي لا تزال إسرائيل تشنها على قطاع غزة، وتستمر في جرائم الإبادة بدعم أمريكي متواصل، نموذجاً قوياً بل ومستمراً لفهم العمق التاريخي الأمريكي المتجذر في العلاقة الوثيقة مع تل أبيب، والذي تقوم عقيدته على فرض قوتها وتفوقها في المحيط القلق لكيانها، الذي يعود لذات الوجدان الغربي والإسرائيلي معاً، رغم كل النزف الواسع في الجسد الفلسطيني الدامي، فهنا نحن نتحدث عن قاعدة عملية استراتيجية لا تعبير عاطفي، وهذا السؤال يقفز في كل دورات الانتخابات الأمريكية، ليعبر منصة المناظرة بين كاميلا هاريس ودونالد ترامب، لفهم المآل النهائي له، ولمن سيصوّت الناخب الأمريكي المسلم؟
مساري المفاضلة
لقد ظل سؤال البحث عن أولوية التقديم قائماً، في تاريخ الوجود الإسلامي، في الولايات المتحدة الأمريكية، أيهما الأهم، الحقوق الوطنية الدستورية لمسلمي أمريكا، أم السياسة الخارجية، وهذه الحقوق تنقسم إلى مشتركات مفترضة مع بقية التعددية الأمريكية، ولها خصوصية في دعم حق المواطنة لمسلمي أمريكا، وعدم التجاوز الدوري عليها، باعتبار ضعف قوتهم الاجتماعية والسياسية، وهي مسألة لا تخص المسلمين في أمريكا، ولكن تراها كل شريحة من زاويتها، وبالذات الأمريكيون الأفارقة، ولذلك انحازت هذه الأقليات إلى الحزب الديمقراطي، باعتبار أنهُ يضمن مساحة دفاع وحقوق أكبر.
هذه القضية مدعومة بتاريخ طويل من الانحيازات السياسية في الولايات المتحدة، إلا أن الأمر ليس مطلقًا ويحتاج إلى فحص أعمق لبعض التفاصيل، ومن ذلك مراجعة حقيقة قوة الرئيس الأمريكي من اصل أفريقي أوباما، حتى هذه اللحظة التي مثل فيها موقفه من قرار بايدن الاضطراري، التخلي عن مواصلة الترشح وكانت أحد أهم الضغوط، التي اشتكى منها بايدن نفسه، وأعرب عن ألمه العميق دون أن يُصرّح، ومن ثم فإن ترشح كاميلا هارس من أصول سمراء وآسيوية مشتركة، يرد عليه أيضاً سؤال كبير.
هل تميز حكم أوباما بأفق حقوقي غيّر قاعدة التقييم، والصراع الاجتماعي العميق في أمريكا، أم أن أوباما، اُعيد تصديره وتأهيله، وفقاً لذات المنظومة الرأسمالية الامريكية، التي قال عنها مالكوم إكس يوما ما، إنها من أكثر المجموعات الوظيفية لصالح سيطرة الرجل الأبيض، وتعزيز قمعه، ربما كان مالكوم إكس يتحدث عن نماذج مبتذلة جداً لصالح المنظومة العنصرية، وليس عن رئيس دولة أجرى تغييرات على أطقم موظفي البيت الأبيض.
لكن في النهاية بقيت سياسة أوباما، تتعامل مع الدولة العميقة (البيضاء) وتخضع لها في السياسة الخارجية، وكان اتفاقه مع بوتين في بطرسبورغ، الباب الأكبر لقذف سوريا في سلسلة مجازر دموية مروعة، انتهت بعودة وتأهيل نظام الأسد.
ربما المقابل هنا للديمقراطيين هو منع هذا الصعود اليميني، من أن يتمكن من الحكم، بعد تطور وضع الحزب الجمهوري وانتقاله تحت إرادة ترامب، من حزب يميني إلى حزب عنصري، وهي عنصرية عميقة ومتجذرة في التاريخ الأمريكي، وكما أن الحزب الجمهوري له تاريخ قمعي داخلي وخارجي، فإن الحزب الديمقراطي له إرث مشابه، فكليهما يمثلان قصة التوحش الرأسمالي لتاريخ أمريكا الحديث، وأن الأمة التي قيل أنها وُلدت بعد الحرب الأهلية، لا تزال تستقي من ذالك الإرث العنصري ضد الهندي الأحمر.
من يحكم قاعدة الديمقراطية؟
إن الماكينة أو الحقل الذي يُعطي خلاصة الموسم الديمقراطي ذاته في أمريكا، يخضع لموازين نفوذ ومال صرفة، تحكم قواعد اللعبة بين الطرفين، وبالتالي كان صعود اليمين المتطرف، واجتياح الكونجرس بعد هزيمة ترمب 2020 هو نتيجة لهذا الخلل العميق، فلا يوجد تربية أخلاقية ديمقراطية، عميقة بين الأجيال، بل سوق بضائع صاخب، يُنظّم حلقات التجمعات الشعبية، التي يزورها ترامب أو كاميلا هارس للترويج بهتاف حاشد، وكأن الشعب يُستدعى لتكملة المهرجان فقط.
هذا الفارق بين الديمقراطية الأمريكية والبريطانية، يصعد بقوة، وبالتالي فإن اعتراف الساسة، والمفكرين الأكاديميين والإستراتيجيين الأمريكيين، بالانقسام التاريخي، هو وصف لنتيجة لا مقدمة، وهو يُخفي طبيعة هذا التمكن الشامل لما أُطلق عليه في حينها الثورة الرأسمالية مطلع القرن الماضي، التي أصبح الإنسان المواطن جزء من الاستهلاك لآلتها، لا ركناً أساسيا يحميه الدستور معنويا، لا ماديا وحسب.
فهل لدى الكتلة المسلمة في المعسكر الديمقراطي، مساحة للتغيير تدفع نحو هذا الركن الأخلاقي لصالح الشعب، الحقيقة أنها اضعف من ذالك بكثير، بل إن مجرد بروزها في المؤسسات الكبرى، وفتح مساحة لها، في منصة الجدل الأمريكي لمواجهة الهجوم العنصري من ترمب وغيره، تطلب منها تقديم مواقف دعم للوبيات الأكبر في الحزب، فدعمت بعض شخصيات المسلمين المثلية، على حساب حق الأسر المسلمة، وشاركت في الترويج لها، بمعنى أن مساحة الكتلة المسلمة في الحزب تحت السيطرة الكاملة.
الحزب الجمهوري والحقوق الأخلاقية
يبرز المحافظون في أمريكا الشمالية إجمالاً، مع قضايا المسلمين الأخلاقية، في مساحة التقاطع المحدودة في الحفاظ على بعض القيم، وهنا يُطرح مشروع الحزب الديمقراطي، في الأمة المثلية الذي أعلنه بادين، كرؤية مستقبلية تمثل توجهات الحزب، وتطرفه في هذا الإطار المحارب للفطرة، كما أن ابرز مشروع لكاميلا هارس هو مشروع حق الإجهاض، المعزز للعلاقات غير الشرعية وتعميمها، وبالتالي فإن خوف المسلمين من توسع هذا الفضاء، يُقارب لديهم الحزب الجمهوري، المتحفظ على ثورة الجندر الغربي الجديد، على كل قيم الفطرة والأخلاق.
علماً بأن هذه التوجهات قد لا يؤمن بها قادة في الحزب الديمقراطي، لكن هناك سوق رأسمالي جديد يستثمر فيها، ويُخضع الضخ الإعلامي لمصالحها، وهي حالة متجذرة في الفكرة الحداثية الرأسمالية، ودور مفهوم اللذة المطلقة الفوضوية فيها، وفي نزعاتها القديمة، رغم أن هذه المجتمعات قديماً، كانت ذات إرث ديني مسيحي متحفظ، حملها على الهجرة لأمريكا.
غير أن طبيعة اختلاف الولايات الأمريكية، ودور قيم كل ولاية في سن التشريعات الأخلاقية، يجعل هناك مساحة خيارات أكبر لمسلمي أمريكا، مع وجود وسائطهم الذاتية، في تربية أولادهم، لكنه يبقى خطراً حقيقياً كما أن الإمكانيات المقابلة، لتأمين تربية الأجيال لا تتاح لكل مسلمي أمريكا.
العنصرية المختلفة
يواجه مسلمي أمريكا أيضاً، فورة جديدة في توجهات العنصرية التي يقودها ترمب، ومع مسؤولية حكومة بايدن المطلقة، التي دعمت مذابح حكومة نتانياهو، وخطب في الكونجرس في فترته، واتخذ بعض الكتل النشطة لأجل غزة موقفاً، باسم (غير ملتزم) كاحتجاج يرفض التصويت لبايدن ثم هارس من بعده، لكن موقف ترامب أسوء، فلم يَسبق لرئيس امريكي، أن يُصرح بأنه يدعم (إسرائيل الكبرى) وانها صغيرة مساحة، ويُحتاج أن يقتطع لها ارضا إضافية من الجوار، هذا خلافاً لمواقفه المطلقة في دعم الحرب والإبادة.
ثم أن العنصرية الداخلية لليمين، تتوعد حضور وشراكة مسلمي أمريكا، بمواجهة عنيفة تنقل روح العداء الى الداخل الأمريكي وليس المسلمين في الخارج وحسب، في نموذج فلسطين وغيرها، وهي حالة باشرتها اليوم بعض المؤسسات الامريكية الأمنية، بعد بروز تحالف إنساني من مجتمعات يهودية أمريكية أو أقليات أخرى، أو من البيض أنفسهم وخاصة الطلاب، فخشيت الدولة العميقة من هذه الجسور، بين مسلمي أمريكا والجماعات الإنسانية الناشطة.
لكنها موجة مواجهة تكتسب في هذا الزمن خطورة كبرى، تنتزع ما تبقى من مساحة مدافعة لصالح مواطني أمريكا المسلمين انفسهم، وهي روح تتكئ بقوة على فرصة قدوم ترامب مرة أخرى، كنبي لهذه العنصرية، التي تتحالف مع روح مسيحية صهيونية، هي حاضرة في العمق الديمقراطي، لكنها اقل من مواسم الجمهوريين، في دلائلها القائمة وفي خطاباها.
قرار الصندوق الصعب
بناءً على تحليل الخيارات المتاحة، قد يختار الناخب المسلم في نهاية المطاف التصويت لكاميلا هاريس، ليس لأن مواقفها مثالية، بل لأنها تمثل الخيار الأقل سوءًا في ظل الظروف الحالية، ليس لحسن مواقفها ولا مواقف حزبها، وليس لأي استقلال فاعل عن الروح الامريكية المعبأة، بتناقضات الدين والإبادة والتاريخ الاجتماعي العنيف، ولكن لكون صورة الأسوء أكثر دلالة في معسكر العهد العنصري الجديد لأمريكا، التي تفسره عبارة ترومان من اليابان إلى غزة، ومن هو المعني عند البيت الأبيض بالإنسان المطلق.