في ظل التصعيد المستمر في الشرق الأوسط، تحديدًا في غزة، أصدرت الحكومة الأمريكية مؤخرًا مهلة لإسرائيل تمتد لثلاثين يومًا، تطالب فيها بالسماح بدخول المساعدات الإنسانية، وخاصة الغذاء والدواء، لآلاف الفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة. هذه المهلة تثير العديد من التساؤلات حول الهدف الحقيقي منها، خاصة أنها تأتي في توقيت حساس يسبق الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
إن قرار واشنطن بإعطاء إسرائيل مهلة لإدخال المساعدات يبدو في ظاهره خطوة إنسانية، ولكن عندما ننظر إلى السياق السياسي الأمريكي الداخلي، نجد أن هذه الخطوة تحمل دلالات أعمق. فالمهلة قد تكون موجهة بقدر كبير للناخبين العرب والمسلمين في الولايات المتأرجحة، تلك التي قد تلعب دورًا حاسمًا في تحديد هوية الفائز في الانتخابات المقبلة.
المثير للانتباه هو أن هذه المهلة تأتي بعد أسابيع من الحصار الإسرائيلي لغزة، حيث لم يُسمح بإدخال أي مساعدات إنسانية للفلسطينيين المحاصرين. يبدو أن الولايات المتحدة تسعى لخلق توازن بين دعمها الثابت لإسرائيل ومحاولة الظهور كطرف يهتم بالجوانب الإنسانية. ولكن السؤال هنا: هل يمكن بالفعل انتظار 30 يومًا دون إدخال المساعدات الضرورية لمئات الآلاف من المدنيين؟ وهل يمكن أن يعيش الإنسان دون طعام ودواء لمدة 10 أيام أو حتى 30 يومًا كما يبدو المقترح الأمريكي؟
يبدو أن الإجابة واضحة. هذا التصرف يعكس ازدواجية في المعايير ويضع مصالح سياسية وانتخابية فوق القيم الإنسانية. فالضغط على إسرائيل ليس بالضرورة بدافع إنساني بقدر ما هو محاولة لكسب نقاط سياسية داخلية، خاصة في وقت تحتدم فيه المنافسة الانتخابية في الولايات المتحدة. الرسالة الأمريكية ليست فقط لإسرائيل، بل أيضًا للناخبين في الولايات الحاسمة، حيث يتم توجيه رسالة ضمنية بأن الولايات المتحدة تعمل على معالجة الوضع الإنساني في غزة، في محاولة لاستمالة هؤلاء الناخبين الذين قد يكونون متعاطفين مع القضية الفلسطينية.
علاوة على ذلك، تطرح هذه المهلة تساؤلات حول العلاقة بين السياسة والإنسانية. هل يمكن للسياسة أن تتعامل مع معاناة الشعوب كورقة للتفاوض؟ هل يمكن للإنسانية أن تنتظر حتى تتحقق المكاسب السياسية؟ هذه الأسئلة تسلط الضوء على التحدي الذي يواجهه الفلسطينيون في غزة، الذين باتت اوراحهم وحياتهم مرهونة بأيادي الساسة وأصحاب النفوذ الدوليين..
تسييس المساعدات الإنسانية: لعبة المصالح على حساب الفلسطينيين
يطرح قرار الولايات المتحدة بإعطاء إسرائيل مهلة للسماح بدخول المساعدات إلى غزة مسألة جوهرية تتعلق بتسييس القضايا الإنسانية. فالمساعدات الإنسانية،فالمساعدات الإنسانية والتي هي حق أصيل لأي شعب يعاني من ويلات النزاعات والصراعات أصبحت جزءا من لعبة المصالح الدولية. وفي هذا السياق، يتم استخدام معاناة الفلسطينيين في غزة كأداة لتحقيق أهداف سياسية داخلية وخارجية، وهو ما يعكس التناقض الصارخ بين المبادئ التي يُفترض أن تحكم العلاقات الدولية وبين الواقع السياسي.
منذ بداية الحصار الإسرائيلي على غزة، تعرض الفلسطينيون لأوضاع معيشية كارثية، حيث يعاني الآلاف من نقص الغذاء والدواء والمياه الصالحة للشرب. وعلى الرغم من تزايد المناشدات الدولية لرفع الحصار، ظلت الاستجابة الأمريكية محدودة وغير فعالة. وعندما تأتي مثل هذه المهلة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا الانتظار لمدة 30 يومًا؟ وما الذي يمكن أن يتغير في هذه الفترة، بينما الحاجة الملحة للمساعدات قائمة الآن؟
في الواقع، يبدو أن هذه المهلة ليست سوى محاولة لإظهار الولايات المتحدة بمظهر الوسيط الذي يحاول تحقيق توازن بين مصالحه وحلفائه من جهة، وتقديم صورة إيجابية للرأي العام الدولي من جهة أخرى، فهذا الموقف يضع الولايات المتحدة في موقف محرج بين الالتزام بدعم إسرائيل، وبين الرغبة في إظهار نفسها كمدافع عن القضايا الإنسانية.
الانتخابات الأمريكية والمراهنات على الموقف من فلسطين
من الواضح أن هذه المهلة تأتي في وقت حساس، والذي يتزامن مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وفي هذا السياق، يمكن فهم هذا القرار كجزء من استراتيجية انتخابية تهدف إلى استمالة أصوات الناخبين العرب والمسلمين في الولايات المتحدة. فالعديد من هؤلاء الناخبين يشعرون بالغضب تجاه السياسات الأمريكية الداعمة لإسرائيل، ويرون في موقف الولايات المتحدة تجاه غزة انعكاسًا لمدى احترام حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية التي تدعي الولايات المتحدة التمسك بها.
هذا لا يعني أن الولايات المتحدة تغير موقفها الجوهري تجاه إسرائيل، بل هو مجرد تعديل طفيف في الخطاب السياسي لخدمة أهداف انتخابية. فالولايات الحاسمة في الانتخابات الأمريكية، مثل ميشيغان وأوهايو وبنسلفانيا، تضم مجتمعات عربية ومسلمة كبيرة قد تكون أصواتها مؤثرة في النتيجة النهائية، وبالتالي، فإن أي تحرك أمريكي بشأن القضية الفلسطينية يمكن أن يُقرأ من منظور انتخابي بحت.
ومع ذلك، فإن التلاعب بمصير الفلسطينيين لأغراض انتخابية قد يأتي بنتائج عكسية. فالمجتمعات العربية والمسلمة في الولايات المتحدة تدرك جيداً أن هذه التحركات قد تكون مجرد مناورة سياسية وليست تعبيراً عن تغيير حقيقي في السياسات الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية. وبالتالي، قد يواجه الساسة الأمريكيون رد فعل عكسي من قبل هؤلاء الناخبين إذا شعروا بأن قضاياهم تُستخدم كأداة للتلاعب السياسي.
المصير الفلسطيني في معادلة القوى الدولية
على الساحة الدولية، يُنظر إلى القضية الفلسطينية كواحدة من أكثر القضايا تعقيداً وتشابكاً. وعلى الرغم من أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يُعتبر من بين الأطول في العصر الحديث، إلا أن المواقف الدولية تجاهه تظل مرتبطة بمصالح الدول الكبرى، ففي حالة الولايات المتحدة، نجد أن الدعم المطلق لإسرائيل لا يزال هو القاعدة العامة، بغض النظر عن بعض التحركات الرمزية.
لكن السؤال الأكبر هو: ما هو مصير الفلسطينيين في ظل هذه المعادلة؟ يبدو أن الفلسطينيين لا يزالون يدفعون الثمن الأكبر في في ظل قواعد اللعبة الدولية التي يضع ويدير بنودها القوى المهيمنة، حيث يتم تهميش حقوقهم وأصواتهم لصالح مصالح القوى الكبرى. وبينما تتلاعب الدول الكبرى بالمساعدات والقرارات السياسية، يعاني الفلسطينيون من الحصار والجوع والفقر، والموت.
إن دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة لم يعد قضية إنسانية، بالمفهوم الغربي، أو واجب حقوقي بالمفهوم التأطيري للمنظمات الدولية، بل أضحى دخول تلك المساعدات مسألة حياة أو موت بالنسبة للكثيرين. ورغم ذلك، يتم استخدام هذه المساعدات كورقة ضغط سياسية، سواء من قبل إسرائيل أو الولايات المتحدة، لتحقيق أهداف لا علاقة لها بالمصلحة الإنسانية.
الحاجة إلى نهج دولي جديد
في ضوء هذه التطورات، هناك حاجة ملحة لإعادة النظر في كيفية التعامل مع القضية الفلسطينية على الساحة الدولية. يجب على المجتمع الدولي أن يتجاوز تسييس المساعدات الإنسانية ويضع حقوق الفلسطينيين في المقدمة، إن الحلول المستدامة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي يجب أن تكون مبنية على العدالة والإنصاف، وليس على المصالح السياسية المؤقتة.
إن ما يحدث في غزة اليوم هو تذكير مؤلم بأن حقوق الإنسان لا يمكن أن تكون مجرد شعار يُرفع في الخطابات السياسية، بل يجب أن تكون أساسًا فعليًا للسياسات الدولية. إذا كان العالم يريد حقًا تحقيق السلام في المنطقة، فعليه أن يتخلى عن ازدواجية المعايير وأن يتعامل مع الفلسطينيين كشركاء في صنع المستقبل، وليس مجرد أدوات في لعبة السياسة الدولية.
في النهاية، لا يمكن فصل هذا التصرف عن السياق الأوسع للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية والتأثيرات الانتخابية، فالسياسة الأمريكية، التي لطالما كانت داعمة لإسرائيل، تحاول الآن تقديم نفسها بشكل مختلف، ولكن بدون التضحية بالدعم العسكري والمادي الثابت لإسرائيل، وفي هذا الإطار، يبدو أن الفلسطينيين هم من يدفعون الثمن الأكبر، حيث تُستخدم معاناتهم كورقة تفاوض في لعبة أكبر.